عادل كمال من الشوارع الخلفية لمدينة الناصرية

"اضرط اضرط على حياتي
بكل قواي الانسانية"

عقيل علي

1
قد يوحي العنوان: "مفتش اللحوم" بمقبرة جماعية، من تلك التي كانت تدبر في الحروب الطويلة، التي طالت اظافرنا تحت ايقاع طبولها، حتى تحولت الى مخالب، بدأنا - بعد التخلص من الثكنات - بالهجوم على بعضنا البعض بها، من اجل مواصلة الحرفة الوحيدة التي تعلمناها: القتل، وليس عجيبا ان يكون احد قتلانا شاعرا نبيلا في شعره وحياته: عقيل علي، وهو من اندر الناس حبا للأمان والعافية والسلام. وقد يوحي العنوان: "مفتش اللحوم" بعرس وحشي، تخطط له الشياطين، تحت ذرائع قومية وحزبية وعروبية، كتلك الاعراس الوحشية التي طالت الكورد، طيلة قيام الدولة البعثية..
وقد يوحي العنوان... لكن لا، العنوان: "مفتش اللحوم" هو عنوان وظيفة الطبيب الذي يدير مجزرة ذبح الحيوانات، وهو عنوان وظيفتي ايام غزو الكويت، حيث كنا انا وعقيل قريبين جدا ونقابل في معظم الاوقات. هذه المهنة التي وجدتُ نفسي محشورا فيها دون رغبتي، بعد ان رفضتني اكاديمية الفنون الجميلة طالبا في صفوفها - كنتُ هاو تمثيل اصلا - لأنني ماكنت منتميا الى حزب البعث: نشطا كنت في اتحاد الطلبة الشيوعي، ولذلك ركبت رأسي ـ كما في تقارير الشوارع الخلفية ـ لأصبح - بعد سنوات من المرارة والتعب والتشرد- قريبا من المعنى الذي اراده رينيه شار في قصيدته الشهيرة: "حسنا فعلت، حين رحلت ياارثر رامبو" واقصد جملته: "جحيم الحيوانات" كما يترجمها هاشم صالح، علما بأن هذه الترجمة هي الاقرب الى نفسي، من تلك التي ترجمها مواطني الشاعر كاظم جهاد، و التي نشرها في مجلة الآداب، أواخر السبعينات، وعليها اهداء ظل راسخا في ذاكرتي: " الى عقيل علي في الشوارع الخلفية لمدينة الناصرية..": في تلك الايام - السبعينات - كان عقيل علي في اوج عافيته، يتمرغ بين يديه الشعر، فيعجنه ويفخره في تنانيره، في حي الشعلة، حيث بدأت المدينة تتسع بطريقة اخطبوطية، بعد ان زحف الريفيون عليها..

2
ترجمة هاشم صالح هي الاقرب الى نفسي، لأني رايتها تحمل معنى مجازيا اكبر، اذ هي توفر عالما طالما تلعثمت في تجسيمه عبر اللغة:عالم يتعدى الى البشر والجماد والطبيعة، حيث تتحول، في عالم المجزرة، الأشياء " برمـّة اركانها " أو " بقضـّها وقضيضها " - حسب تعبير الفيلسوف الداماد- الى سلع قابلة للمساومة، قابلة للتلف، وبأي ثمن: هناك تدار صفقات لاتخطر ببال احد، حتى ليبدو أن مصير العالم هو بايدي هؤلاء القساة، وهم يمسكون بقناعات جامدة، مصائر الكائنات الغافية هناك تحت اضواء الواجهات.
المجازر - على فكرة - من خلال تجربتي، وقدعملت في اثنين منها، هي قلب كل مدينة: القلب الذي يقرر، وفق نظامه الاخلاقي - لاحظ - حياة الناس جميعها، ويلعب "مفتش اللحوم" دور الاله "المحلي"، الذي يقرر، حسب مزاجه ـ متى يسلبك الحياة: متى يقضى عليك، ببساطة وسهولة، وهناك مخارج من أي تداعيات ناجمة عن هذه الجريمة:
المجزرة شارع خلفي خاص جدا، غارق في مراسيمه: هناك في الناصرية: على طريق الكورنيش المؤدي الى ناحية السديناوية، حيث في نزوة، من نزواتنا الكثيرة، أمسك بنا رجال المخابرات أنا وعقيل علي، وكاد وا أن ينسفوا رأسينا، في الظلام، لأننا تجاوزنا سيطرتهم، ذاهبين الى المجزرة: ترى، مالذي يفعله شاعران، مثلي ومثل عقيل على، غير السكر قريبا من "جحيم الحيوانات" ذاك، معطين ظهرنا لشعراء البوابة الشرقية، تاركين لهم أن يسكروا قريبا من "جنة البشر" - مقابل "جحيم الدواب"؟

3
اني اتفق مع الروائي "ماريو فارغاس ليوزا": بأن الطغاة هم كائنات بشرية، وليست شياطين "سقطت ذات صباح جميل، كشيء محتم..": الطغاة كائنات بشرية استولت عليها شهوة السلطة، فتحولت الى كائنات ممسوخة. هكذا يبدو لي الامر حين اتذكر ذلك الضابط - واقارنه بكل الشعراء السفلة الذين مارسوا اذلال عقيل - الذي دخل عليّ الى المجزرة، محاطا بحماية تتألف من عدة سيارات، أيام غزو الكويت، وقد جلب معه غزالا جميلا: كائن نادر، مسالم، طائش عاشق، يعيش لوحده في برية الناصرية، بعيدا عن شهيتنا المتوثبة، القافزة على حميمية الكائن: ينام على الرصيف او في الشيراتون .
قال لي الضابط، كمن يتوسل: "اصطاد قائد الفرقة هذا الغزال ببندقية كلاشنكوف، وهناك اطلاقة اخترقت صدره.." ثم توقف كي يشد المنديل الدامي حول صدر الغزال، بعدها استانف الكلام: "الوقت قارب المساء، وليس من طبيب سواك في هذه الساعة.. ونريد منك انقاذه، واطلب الثمن الذي تريده".
الحروب يدا بيد مع النظام الشمولي انجبا طغاة من نمط قائد الفرقة هذا، انجبا ايضا جلادين يعملون خدما بين ايديهم، من أمثال هذا النقيب، الذي تنتظره مكافأة ان انجز مهمته واقنعني باجراء عملية لأستخراج الاطلاقة، من صدر هذا الجريح البريء الفاتن، ما الجائزة؟
تخيلوا: "عفية ".
شكرا ليوزا اذ تقول: "ان الدكتاتورية ليست الجمع بين العنف والتنكيل فقط، بل هي الاذلال الاخلاقي البطيء لمجموع المجتمع.." وهذا الاذلال تجسـّمه كلمة: عفية - صدقوني - التي هي مكافأة هذا الضابط، يقولها له قائد الفرقة، مقلدا رئيسه الكبير ابن العوجة، هي مكافأة كثير من المثقفين - الشعراء بالاخص، يدسها عدي في ثنايا كلامه، فتخرج مختلطة بلعابه الروحي الطاهر، و "عفية" هذه سمة عصرنا العراقي، حتى في مرحلة مابعد صدام، سأقولها علنا: "عفية" يامن مارستم الاذلال ضد عقيل - الستُ طاغية ! - اما انتم ياحماة عقيل: ما كو عفية الكم.. خلـّصنه !

4

ان ما غاضني، في تلك الساعة، هو أن هؤلاء الطغاة حولوني الى جلاد أنا الآخر، حين صرت مديرا الى هذه المجزرة، فاذا كانت الادارة تحتمل المجاز، كوني موظفا، وكونها وظيفة شريفة، فان الامتثال لطلب هذا الضابط، لتوسلاته، ولتهديداته المحتملة، سيحولني الى جلاد حقيقي: طاغية صغير، وكأن ما أنا عليه من بؤس ليس كاف بالنسبة لهم: جلاد صغير سيقال له: عفية، من قبل جلاد اكبر منه قليلا، وهكذا.. من الناحية العلمية، لايمكن اجراء عملية للغزال لأنه نزف دما كثيرا، بالاضافة الى كونه – كأي غزال - لا يحتمل بدنه نفوذية الرائحة، اي رائحة، الى صدره، اذ هي ستقتله. اما من الناحية الواقعية: فعن أي "عملية جراحية" يتحدث هذا "الطرن"، وقد نفذت، وبقوة، نظرة عيني الغزال في عيني، وسألتني مباشرة: " أوَ لستَ شاعرا..؟".
أي نصيب نصيبي من الجمال، أنا الشقي، اذ لا اقابله الا في مجزرة، وفي موقف انا فيه غير قادر على فعل أي شيء لتفادي خسارته، فالدنيا حرب، ومامن اكتاف أعلى، تحمل رأسك بعيدا، ابعد من هذا السياج، الذي بدأ عمال المجزرة بزرع الاسلاك الشائكة عليه - لماذا..؟

حسنا: لقد قدّرت المسألة كالتالي: ان شفي الغزال - وهو اضعف احتمال ـ فسيتحول بعد ايام، اشهر، سنة.. الى وجبة فاخرة، هي عربون لـ"صفقة" لاتختلف عن باقي الصفقات، التي يعقدها " الزملاء" من جزارين وجلادين في مجزرتي او مملكتي، وحتى ذلك الحين فهذا الغزال لن يمرح في البراري من جديد، بل سيكون اسير قفص كبير، ربما من ذهب، في مزرعة من مزارع قائد الفرقة: واذا كان الامر كذلك اليس الموت الطف من اعتقال الحرية، وتدجينها داخل قفص؟
بحركة من كتفي حسمت الموضوع: "لاعملية.."، فيما لبثت عينا الغزال تلاحقاني اينما حللت.. ولحد اللحظة: انها تختفتي احيانا، تتلاشى فانساها تماما، ثم تظهر فجأة، في وجه، في اغنية، في قصيدة من قصائد عقيل، يقراها في الليل، بين جحيم الدواب ذاك:

"اية رايات احملها في ارقي اليكِ، وامضي بكِ نحو الهاوية،
متبوعا باصبع الرعد.
لأن الجسد، لأن البحر
قادم من الاسئلة.." - قصيدة امراة: عقيل علي.

5

مرة، في بغداد عام 1992، سألت عقيلا، ونحن نحتسي الخمر لوحدنا على شاطيء ابو نؤاس: عقيل، من برأيك افضل شاعر؟ وبدلا من ان يجيبني مباشرة علق قائلا: اترى تلك الموجة؟.. ولم تكن ثمة موجة، كان النهر ساكنا، ولا من حركة..
قريبا من فندق الامباسادور، عائدين في تلك الليلة، توقف عقيل فجاة، قال: "اتشوف هذا الطفل اللي يبيع جكاير... هذا هو افضل شاعر": احالتني جملة عقيل الاخيرة، الى المجزرة ثانية، ففي احد الصباحات اكتشفت ان احدى الجثث، في صالة الذبح، مصابة بمرض معد، فأمرت بحرقها في المحرقة، واحتياطا قمت باصطحاب العمال، وهم ينقلونها، حيث قمت برش النفط على الجثة تمهيدا لحرقها بعد نهاية الدوام، اي في حوالي الحادية عشر صباحا، لكن طارئا ما شغلني عن متابعة العملية، فخرجت مبكرا من الدائرة، ولما عدت عصرا، حيث من المفروض ان اقوم بفحص ما قبل الذبح، لفت انتباهي ان اثنين من عمال المجزرة وهما صبيان، لائذان خلف احد الاحواض، منهمكان بتنظيف وغسل شيء ما، تبين لي حين اقتربت منهما بخفة، انها نفس الجثة التي امرت بحرقها صباحا: انهما يقومان بتأهيلها للبيع على الناس آه.. اهلي.. انتم.. الذين سلمتم حياتكم بيد واحد سافل وسارق وقاتل مثلي: اتعرفون اي عالم هناك؟
وفورا مر شريط المستقبل امامي: هذان الصبيان سيكونا من كبار تجار المدينة، ومن وجهائها،
وان اولادي واولاد المتعلمين جميعا سيعملون تحت ايديهم: نعم، لقد رأيت المستقبل كله، في لحظة، وحين في الليل حدثت عقيل بما رايت، نظر بصمت الى الفرات: " مامن مستقبل للشاعر.. الا العبارة.. غن لي.. من فضلك.. اريد فيروز " ورمى ربعية العرق الى الشاطيء: " ثم هيا يارياح.. ثم هيا يامطر.. هكذا قال عقيل علي ": فيما بعد عرفت انها جملة لماكبث..
من الغريب اني رويت نفس الحادثة الى جان دمو، فاستغرق في الصمت عدة دقائق، ثم قال فجأة: "الا هكذا يجعل منا التأمل.. جبناء" عبارة هاملت الشهيرة: هل ثمة صلة بين البوهيميين وشكسبير؟
ومن الغريب ايضا ان اولاد عقيل علي ضاعوا منه، وعاد بلا اولاد: حين التقيته، مع الصحفي كمال بدران، صيف 2002 قال لي: "تخيل عبدو.. تخيل.. أنا ابني، ابن عقيل علي يعمل شرطي في الأمن..؟" وضرب جبهته بكفيه. "لماذا تزعل عقيل الم تقل مرة لرعد عبد القادر: ان اولادنا هم القصائد؟ " قلت له، ونحن نشرب على شرفة احدى غرف الفندق، تحت ضوء القمر، فنظر الي.. كمن شع امامه الامل بعد طول يأس.

6

دوام المجازر عادة في الليل، والذبح يبدأ في الربعة فجرا: لماذا هذا التوقيت بين حفلات الاعدام البشرية، وذبح الحيوانات؟ حقا.. ما الصلة؟ هل ثمة طقس ما تبدأ مراسيمه في تلك الساعة من اليوم: اتذكر صورة شعرية لباسترناك، نقلها الدكتور عبد الرحمن بدوي: "وكان الفجر رماديا كضوضاء المحكوم عليهم بالاشغال الشاقة" قرأتها لعقيل فقال لي: لو قال: "كضوضاء المحكوم عليهم بالاعدام.. لكانت اجمل": اجل اي ضوضاء، في المجزرة، ساعة تنفيذ الحكم الذي اصدره باشارة من يدي، او بحركة من كتفي: ابدأوا الذبح، فيبدأ ما راثون الدم، وأنا ادور بصدريتي، حول الجلادين، مستنكفا أن امس عريهم ولو بنظرة، فيما قلبي من الداخل يريد ان يثب خارج جسدي، ويتحول الى.. ماذا.. طير؟ سأذبحه ايضا..
حقا: لدي سؤال: انت ياعقيل في اي ساعة بدأت حفلة اعدامك؟
صيف 1991: قبل ساعة، اي في حوالي الثالثة صباحا، كنت اطوف شوارع الناصرية بسيارتي مع عقيل، وصوت المسجل يرتفع الى عنان السماء: "امغربين وين اهل الهوى.." قبل ساعة، كنت هناك اسمع كالبشر واعيش مثلهم، اما الآن.. ما الذي دهاني، وماذا يحصل؟

أووووووووووووووه... أنه عالم لايمكنك أن تستوعبه مالم تخلع قلبك من مكانه، وتعضه بأسنانك، سيما وان مناماتك ستتحول الى قوافل من الكائنات القادمة صوب حتفها، دون ان تعلم بذلك، تماما كما فيما بعد تكتشف أن قسما كبيرا من اصدقائك لقوا حتفهم بهذه الطريقة، في الانفالات، او في حلبجة، او في الحروب: انه شارع خلفي دموي، ليس فيه اي فسحة لأغنية، حتى الحديقة التي كانت في منتصف الساحة الداخلية للمجزرة لم تكن في الحقيقة الا ارضا بورا، رغم الفرات القريب: كانت هناك نخلة واحدة، نخلة واحدة فقط يربط اليها الحيوان الذي استشعر الخطر مبكرا، ففر من حبال جلاديه الكثار. نخلة: تقف كشاهد أمامي كل يوم لتريني قدري، الذي رسمته لي الايديولوجيا، وهي تلتف حول عنق البهجة، فتخنقها هناك في مجزرة لحوم الناصرية، وها أني اليوم اكتب على اطلال ذكرياتي معك ياعقيل، على اطلال ذكرياتنا في المجزرة، محاولا ان اقول لكل من كاتبني انني لا اجيد الرثاء..

7

انني لااجيد رثائك ياعقيل، فلماذا مت..؟ ارجوك عد الى الحياة، واكفني شر هذه المهمة البائسة، ارجوك عد، وان كان ولابد.. فلم مت امام الناس، لماذا فضحتَ اسرارك المقدسة؟ اليس من اللياقة ان تخبرني انك ستموت، لأشرب معك المرة الاخيرة في حياتي.. ام ان الموت داهمك فجأة؟ عقيل اتذكر؟ في تلك الايام حين كنت اطلق صفارة الماراثون، ويبدا الذبح، كان البعير اكثر الحيوانات صراخا: انه يستشعر الموت قبل هبوطه، فيهيج ويهيم ويقطع الحبال: يركض في كل الاتجاهات، وخلفه يركض الجزارون بسيوفهم وخناجرهم واقلامهم وتقاريرهم وقصائدهم واوسمتهم وبنيويتهم وتفكيكيتهم صارخين: " ليس هذا شاعرا " الى ان يذبحوه: انت تذكر طبعا انهم كانوا ينحرونه على جذع النخلة: النخلة الوحيدة في حديقة المجزرة.. اتذكر؟
سأقول شيئا مضحكا: ليتنا انا واياك بعيرين، لنستشعر الموت، ولنمت بعدها عند جذع نخلة، ام انك فضلت هذا الموت: "الموت حبا، وعلى الارصفة، وساعتها سوف تهجرنا النساء، يا للفظاعة.." كما كان يردد صديقك وحميمك علي البزاز ايام زمان.. ياعلي.. اتذكر: "مثل الجمل لو طاح.. تكثر سجاجينه" لكنهم كانوا يسخرون من عقيل عندما كان يستشهد بـ"الزهيريات" او بالحاج زاير: انهم يعتقدون ان على عقيل ان يخرج لهم من رأسه الصواعق: يقول واحدهم عنه: " عقيل علي العاطل عن العقل "لماذا ايها الفلتة؟ الانه يبزك بشعره، و لا تبزه كل هرطقاتك الكلامية، او تفوهاتك على مائدة الشرب؟"

نم قرير العين يا عقيل: "ايها الصديق السائر نحن الواحة الجميلة - علي البزاز": انا العاصي النبيل - على رأي طارق حربي - ومعي كل شعراء الشوارع الخلفية، الغامضون، الناطقون بالاشارة، ناهبو الشعلة، العراة، مدمنو التغريد خارج السرب، اللصوص والسرسرية والهامشيون: سنأخذ بتأرك: نضع وردة - كنت تحت زهرة عباد الشمس - على قبرك، اما قبورهم فسنبول عليها: انا متاكد انك سوف تفعل ذلك لو متُ قبلك، لكن.. من قال اني حي آلآن؟

8

حسنا.. واذا كنت - كما جاء في تقرير: "اريد بوسه.." ـ اعالج ازماتي، او افك اشتباكي بالغناء، فأي غناء يصلح في مجزرة؟
لكن عقيل علي - هذا الفاتن - مرة اخرى، ارشدني الى اغنية، هي قصيدة سركون بولص: الى جلاد:
"أيها الجلاد
اذهب الى قريتك الصغيرة"
لقد طردناك والغينا هذه الوظيفة "قالها لي ساخرا، ونحن نسكر مساءا في نادي الاطباء، ثم تحولت شيئا فشيئا الى لازمة، اغنيها كيف اشاء، ومن طور الى طور تاقلمت مع معناها: انا الجلاد مفتش اللحوم.. لكن اي صورة هزيلة كنت اقدم عن الطغاة؟

9
كان عقيل قد باع الفرن نهائيا، وغدا عاطلا عن العمل، اذ استسلم لبحبوحة في العيش هبطت عليه فجأة، بعد ان استعاد العراق مدينة الفاو، حيث جرى تعويض اصحاب الاملاك المتضررة بمبالغ خيالية، وكان لوالد عقيل بعض الاملاك هناك.. هكذا استلم عقيل - كواحد من الورثة - مبلغا قدره سبعة الاف دينار، وهو عام 1989 يعادل 25 الف دولار: ذلك الارث كان بداية انهيار صحة عقيل علي، المصاب في جسمه بشطايا، لاتزال بقاياها في راسه، وقد اخذها معه الى قبره، في احد حروب السبعينات مع الاكراد: عقيل علي - هنا جوهر العلة - احيل على التقاعد من تلك المعركة، وقد جاء في كتاب تسريحه، كما قراته انا وبسرية وتكتم، ظل عقيل محافظا عليه طوال حياته، انه مصاب بالشيزوفرينيا، وقد روى لي عقيل بتفصيل ممل مراحل العلاج التي مر بها، والتي كانت نهايتها
عند الدكتور الوتري - ضاع منى اسمه الاول، لكنه مشهور ومعروف، لمن يريد ان يتحرى الحقيقة المؤلمة والجارحة - الذي اخبره بأن الشطايا التي في رأسه سوف يستمر تاثيرها عليه يوما بعد اخر، وانه سيفقد ذاكرته تدريجيا..

10

مرة.. جمعنا نادي نقابة العمال في الناصرية عصرا عام 1990 - وكان ذلك حوالي في بداية او نهاية الشهر الاخير من السنة تلك: اقول جمعنا النادي: انا وعقيل وعلي البزاز والرائع عبد الحميد الصائح واخرون لا اذكرهم - ربما كان معنا العزيز واصف الشنون - وكان موضوع الساعة في تلك الجلسة: هل ينسحب صدام من الكويت ام لا؟ احتلنا الصائح بتحليلات فنطازية، ابكتنا من شدة الضحك، انهاها بتوقعه ان يكون صدام حسين قد فعل ما فعله من اجل يلفت انتباه احد الملكات اليه فيتزوجها..
عند خروجنا من البار.. فوجئنا، لدى الباب، بعاصفة مركبة من امطار وتراب وريح حارة، فتفرقنا، لكنني وجدت نفسي بصحبة عقيل علي، فذهبت معه الى بيته الذي كان قريبا جدا من البار، وهناك بت الليل بطوله: كان مفاجئا لي ان اجد غرفته التي كانت مزدحمة بالكتب والاشرطة الموسيقية، وقد امست صحراء خالية، وعندما استفسرت من زوجته عنها، قالت: ان عقيل باعها، وكانت تلك صدمة كبيرة، فقد كنت ميسورا وقتها من جانب، ومن جانب اخر كانت مكتبة عقيل مصدرا هاما بالنسبة، سيما بتلك الكتب النادرة، التي تخص الادبين الفرنسي والروسي، ناهيك عن احتوائها على سلاسل مهمة من كتب الجيب ودار عويدات..
في تلك الليلة ايضا رايت عقيل علي، ولأول مرة في حياتي، رأيته وهو يكتب قصيدة جديدة، كان عنوانها: " فيما مضى " وقد شعرت به يكتب عندما افقت من النوم، على صوت همس مخنوق وحشرجة غريق، فوجدته جالسا على الارض قريبا من راسي، وهو يتمتم.. بشيء ما، حدست انه قصيدة فتصنعت النوم، حرصا على عدم ازعاجه، وبنفس الوقت فضولا منى لمعرفة اسرار عمل هذا الشاعر المحيـّر فعلا، اذ كل ما يقلقني انذاك هو مرجعياته النصية، وتقنيته العالية ولغته المدهشة.. لكني في الاخير نمت.

11

اذن فقد بدد عقيل الارث، حوله الى انهارمن خمر واحلام وقصائد، فلم يبق منه الا الذكريات، نستعيدها في فضاء المجزرة الضاج بالارواح، ثم نبكي ونضحك: نبكي ونضحك.. على دنيانا لأنك صباح 15/ 1/ 1991طرقت المجزرة، قادما بمقترح اعتبرته معجزة: " اريد ان اشتغل بائع مشاوي " قلت ذلك وانت تنظر الى البدن العاري لأحد الجزارين: " شو فيها حبيبي عقيل.. " قلت لك مقلدا اللهجة اللبنانية. هكذا دون ان نفكر في المكان الذي ستفتح فيه باب رزقك الجديد، ذهبنا الى سوق الصفارين، وانت لاتنفك تردد: " ايها الجلاد اذهب الى قريتك الصغيرة.. " فاكمل الباقي: " لقد طردناك والغينا هذه الوظيفة ".. اتذكر؟ لكن كيف تذكر.. وانت طلقت الذاكرة، ونسيت النسيان " لقد رايت وكتمت، ونسيت ماكتمت / حتى نسيت النسيان – ع. فنجان " بعد ان تدبرنا امر الاسياخ والمنقلة وباقي اللوازم اقترح احد اشقائي ان تفتح " محلاتك التجارية " في الحي الصناعي قريبا منه: هكذا اذن ضمنا.. مكانا تاوي اليه حاجياتك دون ايجار: ضمنا ايضا ان تشرب على هواك في المحل.. اما امر اللحوم والاكباد وباقي الالعاب فامرها سهل: اكملنا ذلك كله عصر يوم 15/ 1/ 1991: كنا بسطاء ياعقيل، لم نكن نعبأ بهبوب عاصفة الصحراء.. كنا شعراء اكثر مما ينبغي: ففي نفس الليلة سكرنا انا واياك: فأكلنا نصف الذخيرة: بمن سنحارب الايجار ياعقيل، بمن سنحارب الجوع والاولاد و.. لكنك غمزت لي: " ياايها الجلاد.. " فرددت عليك: " اذهب الى.. " الا انك اصريت على البقاء في بيتك تلك الليلة، فيما انا ذهبت الى جمهوريتي: امارس نفس السلطة: سلطة الجلاد على جلادين.. اقل عمرا، لكن اشد بطشا.. وفي اليوم التالي اكملنا العدة من جديد..
حتى حدث الانفجار المروع، وقامت الحرب.. لماذا خطرت لك عيني الغزال الذي حدثتك عنه ساعة الانفجار، وخطرلي وجه "نوار" ابنك الصغير، الذي ضاع هو الاخر..
لم اكن ادر ياعقيل اننا مقبلون على مرحلة اخرى، لقد حدث في ذلك النهار مايبشبه المعجزة: انها حدوساتك الغامضة التي الفتها على مدى ربع قرن: صباح يوم 17/ 1/ 1991كنت اعد "تقريري" عن عدد الذبحيات لهذا اليوم:كم بقرة كم بعير كم ماعز.. كم.. حتى.. رفعت رأسي ورايت الى النافذة: كانت هناك سيارة بيك اب، قادمة تحمل بقرة: كان الدوام قد انتهى.. فلم اتفاعل مع الموضوع، لكن صاحب البقرة دخل غرفتي وقدم لي كتابا من الادارة العامة، يوافق فيه على ذبح هذه البقرة.
في قانون الذبحيات العراقي هناك فقرة تنص على منع ذبح الانثى، سيما الابقار، حفاظا على الثروة الحيوانية، لكنه يجيز ذلك في حالة ان تكون الانثى مريضة بمرض ميؤوس منه، من بينها مرض يقال له " تي. آر. بي " ناجم عن دخول مسمار واختراقه جدران المعة اثناء الاكل، فاثار الموضوع دهشتي، لانه مرض يصعب تشخيصه بسهولة، ونكاية بالادارة، لاطلع الناس على زيفها ادخلت البقرة الى صالة الذبح موافقا على ذبحها، بعد ان اعطيت تعليماتي بأن يبقى الكرش سالما: أي لايمسه احد، وفعلا تم الذبح، وجيء بالكرش فادخلت يدي فيه: البقرة تجتر كل شىء امامها عند الاكل، ولذلك يوجد في كرشها اشياء عجيبة: هكذا وجدت صابون: سيم امواعين واشياء اخرى.. من بينها كيس نايلون مطوي على اوراق، فتحت الكيس: كانت فيه ورقتين منتزعتين من مجلة الدستور الاردنية، في احد الورقتين قصيدة سركون بولص: "يا ايها الجلاد اذهب الى قريتك الصغيرة، لقد طردناك والغينا هذه الوظيفة" اصبت بالذعر، وارتجفت، لااعرف كيف وجدتني في الحي الحي الصناعي قريبا منك: رأيتني من بعيد.. لوحت لي.. كانت النيران في المنقلة: هل هو قدر ياعقيل ان تكون مع النار دائما.
قصصت عليك ماوقع، فسهمت: " اليوم يدعونك الى الاحتياط " قلت، قلت لك: " وانت.. والمشاوي " فضحكت: " انا رجل شارع.. لاتأبه ". وافترقنا..

الناصرية – الشوارع الخلفية
يمنع نشر هذا النص الا باذن من الكاتب ومن إيلاف