قلنا في مقالتنا السابقة أن هوسرل "ديكارتي باستحضاره للكوجيتو، و هو أيضا كانطي بتحويله لهذا الكوجيتو إلى كينونة ترنسندنتالية، لكنه قبل هذا و ذاك هوسرلي في كيفية طرقه للكوجيتو و نوع التوظيف المنهجي الذي منحه إياه، ونوع المكانة التي رفع إليها هذا الأنا الترنسندنتالي، فجعله من جهة أساسا للعلم، و من جهة أخرى مجالا للإستكشاف." ثم أشرت إلى "أن الجمع بين ديكارت و كانط عند هوسرل أكبر خطرا من أن ننظر إليه على أنه مجرد جمع لمفاهيم أو إستثمار لفلسفتين، إنه بالأحرى جمع بين مأزقين، فهوسرل في نظري إستبطن مأزق الأنا وحدية الديكارتي، ثم أضاف إليه المأزق الترنسندنتالي الكانطي أيضا، فنتجت عن هذا التوليف الفريد فلسفة فريدة في سمتها متميزة في مأزقها !!" وأعتقد ان بيان ذلك في تقديري أفضل تعريف ممكن للفينومنولوجيا، إذ يزدوج فيه مطلب التعريف بمطلب القراءة النقدية. وفي سبيل إنجازه نقول :
إذا كان السمت الكانطي يجعل الفينومنولوجيا الهوسرلية ترنسندنتالية، و إذا كان هذا الوصف لائقا بها، و خاصة إبتداء من مرحلة كتابه " أفكار الأولى " و إلى ما تلاها من نتاجات و مؤلفات، حتى إكتملت و استوت كفلسفة ترنسندنتالية مع " تأملات ديكارتية "، و " المنطق الصوري و المنطق الترنسندنتالي ". و إذا كانت النظرية الترنسندنتالية تحيل عند كانط على ما هو " قبلي" و " سابق على التجربة" و "متعال عليها"، و إذا كان كانط في بحثه في إشكال المعرفة إنتهى إلى توكيد ضرورة القول بوجود مقولات منظمة للتجربة الحسية و متعالية عليها، وأن هذه المقولات لاترجع إلى التجربة – كما تزعم الفلسفة التجريبية – بل هي من تجهيزات العقل/الفهم القبلية الشارطة لفعل المعرفة، فإن هذا التحويل الذي قام به كانط للكوجيتو الديكارتي هو ما سيقف عنده هوسرلمستثمرا إياه و مضيفا إلى دلالته و توظيفاته المنهجية، حتى انتهى به الأمر إلى موقف تكويني إيغولوجي رهن الأنطلوجي بالأنا الترنسندنتالي.
فكيف تشكلت هذه الإضافة التي قدمها مؤسس الفينومنولوجيا بناء على قراءته للكانطية و الديكارتية؟
إن أفضل مدخل يقربنا من ملامسة هذه الإضافة هو- في تقديري- استحضار المؤاخذات التي يؤاخذها هوسرل على ديكارت و كانط، إذ من خلال ذلك نتمكن، ليس فقط، من إدراك الإضافة المعرفية الهوسرلية فحسب، بل إدراك حتى أوجه تمايزها عن الفلسفات و النظم الفكرية التي تواصلت وتناصت معها. فما هو إذن موقف هوسرل من الديكارتية و الكانطية ؟ و ماهي انتقاداته و مؤاخذاته عليهما ؟ وكيف انتهى بمزجه بين هذين الموقفين الفلسفيين إلى السقوط في المأزق التكويني و فقدان الأنطلوجيا ؟
إن المؤاخذة الكبرى التي لهوسرل على ديكارت هو كون هذا الأخير إكتشف و لم يستكشف ! أي إكتشف الكوجيتو و لم يدرك أنه مجال و اسع جدا يحتوي كل شيء، مجال حقيق بأن يستكشف و يقام بداخله. ولقد كان هذا – حسب هوسرل – هو سبب الإفقار الدلالي الذي اتسم به الكوجيتو عند ديكارت، هذا الإفقار الذي يرجع إلى الموضعة الديكارتية للكوجتو كمقدمة رياضية و تشغيله للمنهج الرياضي للإستنباط و الاستنتاج منها، و هذا هو جوهر النقد الهوسرلي للمشروع الديكارتي و هو النقد الذي إختزله مؤسس الفينومنولوجيا يوما بقوله : lt;lt; إن الإكتشاف و التخلي هما عند ديكارت عملية واحدة gt;gt;(1) قاصدا بعبارته تلك أن ديكارت عندما إكتشف الكوجيتو كان في ذات الوقت يرحل عنه. و بناء على هذا النقد الهوسرلي لديكارت يمكن أن نمسك بفكرة أولى لكنها على قدر بالغ من الأهمية في محاولة التعريف بالفينومينولوجيا، حيث يمكن أن نختزل دلالتها بالقول إنها – في مختلف لحظاتها و مستوياتها كفلسفة ترسندنتالية – مجرد إستكشاف للكوجيتو.
و بقولنا هذا لا نلتقط فقط أهم خاصية تسم المشروع الهوسرلي، بل نلتقط أيضا ما نعتبره أهم المآزق و أكثر الإشكالات الفينومينولوجية إستعصاء على الحل و التجاوز. و هو الإشكال الذي نكتفي في هذا الاستهلال بالإلماح إليه بهذا الاستفهام :
ألا يعتبر الدخول الهوسرلي إلى قارة الكوجيتو، و استحسان المقام داخلها سقوطا في مزلق الأناوحدية و عجزا عن الخروج من شرنقة الأنا ؟ ألا يدل إستمداده للفكرة الديكارتية القاضية بالأولوية الأنطلوجية للكوجيتو على سقوطه في تذويب الأنطلوجيا داخل الإيغولوجيا ؟ هذا التذويب الذي به نفهم دلالة النقد الهيدغري للهوسرلية ؟ أم أن معبر القصدية قادر على الوصل بين الإيغولوجيا و الأنطلوجيا؟ و إذا كان ما سبق هو جوهر المؤاخذة الهوسرلية على الديكارتية، فما هي مؤاخذته على كانط ؟ و كيف يمكن أن نستثمر دراسة علاقة هوسرل بالكانطية و إقتراضه مفهوم الترنسندنتالي منها للكشف عن مأزق آخر داخل فكره الفينومينولجي؟
ينتقد هوسرل الكانطية في تصورها " للظاهرة "، و خاصة في طرحها لمفهوم " الشيء في ذاته " ( النومين ) ككينونة نومينية متمايزة عن الظاهرة، إذ يقول في تأملاته ليست الفينومنولوجيا lt;lt; مثالية كانطية تترك الإمكانية مفتوحة أمام وجود عالم من الأشياء في ذاتها gt;gt;(2). فالفلسفة الهوسرلية هي أساسا ومن تسميتها " فلسفة الظواهر " فلسفة الفينومين لا فلسفة النومين.
و في هذا نمسك بإحدى أهم دلالات هذا المشروع، كما نمسك مرة أخرى بإحدى أوجه إخفاقاته التي نسعى في هذا البحث إلى إبرازها. فمن حيث هي فلسفة ظواهر، فإنها حولت هذا التحديد إلى تعبير منهجي خلاصته ذلك الشعار الهوسرلي الذي نادى به هوسرل منذ "أبحاثه المنطقية" " إننا نريد العود إلى الأشياء ذاتها " (3). و هذا العود هو ما يجعل هوسرل يلح في كثير من نصوصه على كون الفينومنولوجيا هي أساسا منهجا وصفيا، باعتبارها منهج " رؤية " و" وصف "، فهي عنده لا تبدأ إلا بإنجاز موقف جذري يتم فيه تعليق التأويلات و الأفكار السائدة، و العود إلى الأشياء ذاتها لرؤيتها و وصفها.و في هذا بالضبط نفهم معنى حرص هوسرل على وصف فلسفته بكونها فلسفة و ضعية أكثر من وضعية الوضعيين. ففي الفقرة 20 من " أفكاره الأولى" يقول هوسرل : lt;lt; إننا نحن الوضعيون الحقيقيون gt;gt;(4).و ذلك في سياق نقده للتجريبيين و الوضعيين المتعلقين بالعالم.
فكيف يفهم هوسرل الموقف الوضعي الحق ؟
إن الوضعي الحق عند هوسرل ليس هو التجريبي، بل هو الفينومنولوجي ؛ لأن هذا الأخير لا يأتي إلا بعد أن يعلق الأفكار و التأويلات معطيا الأولية لموقف العود إلى الأشياء ذاتها ووصفها.
غير أن الاستفهام الذي يطرح هو هل ثمة إمكانية منهجية فعلية للإمساك بالأنطلوجي ؟ هل ثمة حقا عود إلى الأشياء ذاتها ؟ أليس استمداد هوسرل مفهوم الترنسندنتالي من كانط، و إعلائه من شأن المحايثة و توكيده ضرورة العود إلى الوعي، أي العود إلى الأنا الترنسندنتالي، و تقديمه ك"واهب الدلالة"، وككينونة تقوم بفعالية التكوين إضعاف لمبدأه المنهجي الآخر، أقصد مبدأ العود إلى الأشياء ؟
إذا كان هيدغر يعلي من شأن هذا الموقف المنهجي الفينومنولوجي، موقف "العود إلى الأشياء ذاتها"جاعلا منه "الحكمة الخالدة للفينمينولوجيا "(5)، محولا بذلك مشروع الفينومنولوجيا إلى مشروع أنطلوجيا، فإننا إذ نستعيد،في بحثنا هذا، المشروع الهوسرلي ننتهي من مدخل مغاير – إلى نفس ما إنتهى إليه هيدغر و إنغاردن و باتوكا … و غيرهم من تلامذة هوسرل اللذين إنتقدوا تحوله الترنسندنتالي - إلى أن الهوسرلية قد أخفقت في المحافظة على مسلكها المنهجي هذا. و مدخلنا إلى هذا النقد هو أساسا مقاربة مفاهيمية لما سميناه بالجهاز المفاهيمي المحدد للعقل الفينومنولوجي، حيث نحرص في هذه المقاربة على الرجوع إلى لحظاته المنهجية و نسقه المفاهيمي للتوكيد على اختلال البناء الدلالي للمفاهيم عند هوسرل، وعلى الإخفاق المنهجي لمشروعه، مختزلين قراءتنا النقدية للهوسرلية في كون العود إلى الأشياء، الذي كان له تقدير و تثمين في متن هوسرل " أبحاث منطقية "، سيستحيل في المرحلة الترنسندنتالية البادئة ب"أفكار1 " أي مع إكتشاف منهج التكوين إلى عود إلى الذات و الوعي لا عود إلى الأشياء.
وتأسيسا على ذلك فإن هوسرل بمزجه بين الديكارتية و الكانطية هو في تقديري لم يفعل سوى الجمع بين مأزقيهما معا !! مأزق الأناوحدية الديكارتي مضيفا إليه الترنسندنتالية الكانطية التي بما هي شرط لإمكان المعرفة، تحولت عند هوسرل إلى فعالية تكوينية إنتهت به إلى رهن الأنطلوجيا بالإيغولوجيا، فأسقط بذلك فينومنولوجيته في العجز عن ضمان العلمية و الموضوعية، الأمر الذي إزداد بسبب من تأليهه للأنا الترنسندنتالي و عجزه عن استحضار الغير و تشكيل البينذاتية.

1.Husserl.(Edmond): lt;lt; Recherches logiques gt;gt; tome2,trad HUBERT ELIE,LOTHAR KEKEL ET RENE SCHERER , P.U.F,PARIS1962 ,p 8.
2.Husserl.(Edmond): lt;lt; Idée de la phénoménologiegt;gt; trad., alexandre lowit.P.U.F. PARIS,1970.p111.
3.Husserl.(Edmond):lt;lt; Méditations cartésiennesgt;gt; trad GABRIELLE PEIFFER ET LEVINAS. (EMMANUEL)VRIN 1969p72

4.HUSSERL : lt;lt; IDEES DIRECTRICES POUR UNE PHÉNOMÉNOLOGIEgt;gt; TRAD PAUL RICŒUR ,ED 6 ,GALLIMARD ,PARIS 1950, P69.
5.Heidegger.(MARTIN) : lt;lt;L’être et le temps gt;gt;trad. Bohem et dewalhens, Gallimard 1977, p 44