بين الحقيقة والسراب
جمالية اللقب فرضت نفسها على صحة المقولة
نواكشوط: غالبا ما يأخذ المرء من الاسم الذي يطلق عليه صفته وخاصيته ورغم اختلاف الأشخاص في تبعيتهم لصفة الأسماء ونسبة ولائهم لها، تظل للأسماء سلطة على أصحابها تطبِّعهم بطباعها وتهذب أخلاقهم بالمعاني الكثيرة التي تحملها. وتزيد الشهرة واللقب على الأسماء لأنها تطلق على المسميات بعد مرور زمن كفيل باستنباط صفات للأشخاص والأماكن والأحداث، من هذه الألقاب «بلاد المليون شاعر» التي أطلقت على موريتانيا.
ولأهمية الشعر ودوره في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية ارتبطت مقولة «بلاد المليون شاعر» بموريتانيا منذ ستينات القرن الماضي حيث ظلت ألسنة الجماهير تلهج بها منذ ولادتها، وتناقلتها وسائل الاعلام وتداولتها أقلام الكتّاب حتى التصقت بكل حبة من تراب هذا البد الصحراوي. واعتبارا لأهمية هذا اللقب وسطوته فإنه أورث الشناقطة مسؤولية كبرى يتسبب التخلي عنها أو عدم القدرة على تحملها كما يجب في التشكيك في مدى استحقاق بلادهم لللقب الفريد يصل الى حد التجريد منه، وهو ما يدفعنا الى البحث عن أصل هذه الصفة ومدى انطباقها على موريتانيا.
فهي قد لا تكون صفة متكئة على سند تاريخي ملموس كما في حالة «بلاد المليون شهيد» الجزائرية لكنها بالتأكيد مستندة على إعجاب وانبهار زوار موريتانيا بفصاحة أهلها وعشقهم الشديد للشعر. فقد وردت المقولة لأول مرة في تحقيق أعدته مجلة العربي الكويتية في ابريل (نيسان) سنة 1967 عن موريتانيا تحت عنوان «انواكشوط...أحدث عاصمة في أقصى منطقة من وطننا العربي» حيث أسند كاتب التحقيق هذه الكلمة الى محاوريه من المواطنين الموريتانيين عندما قال: «وسألناهم: كم عدد سكان موريتانيا فأجابوا: مليون شاعر..نعم فكل أهالي موريتانيا شعراء» وقتها كان إحصاء السكان يقارب هذا العدد.
ومع انطلاقة شرارة هذا الشعار شاع اللقب واقترن باسم موريتانيا حيث أخذه بعض المشارقة على أنه واقع حقيقي إعجاباً وتبجيلاً للشناقطة، رغم ادراكهم أنه لم يكن هناك مليون شاعر بالمعنى العددي الصارم في العالم العربي كله في زمن واحد.
كل موريتاني شاعر بالفطرة
وقد عرف هذا اللقب رواجا كبيرا خارج موريتانيا أكثر مما عرفته داخلها وأثار ردود أفعال إيجابية كانت دائما مشحونة بالاعجاب المفرط بالقدرات الشعرية لهذا البلد العربي المنتبذ مكانا قصيا من خريطة العالم العربي على أقصى نقطة من بوابته الجنوبية المطلة على القارة السمراء. وربما يكون لهذا الموقع القصي وطبيعة البداوة السائدة دور في انبهار الإخوة المشارقة حين نزلوا هذه الجزيرة الرملية النائية المترامية الاطراف، بما عاينوه من ثقافة عالية لهذا البلد في جميع مجالات المعرفة التقليدية وفي الشعر خصوصا. وهو اندهاش واعجاب لا يحيد عن نظرة المركز الى الأطراف عبر تاريخ الحضارات الانسانية.
فالمطلع على تاريخ وثقافة هذا البلد يدرك ما يمثله الشعر بالنسبة للنشاقطة حيث ان له سلطة وسيادة اجتماعية وثقافية نادرة الوجود، فالخصال التي تمكن صاحبا –قديما- من احتلال مكانة هامة في محيطه يأتي على رأسها اتقان نظم الشعر، لتتوالى بعدها باقي الخصال كالنسب الرفيع وفنون القتال ودماثة الأخلاق. وهو ما يعني أن الموريتاني أمضى جل حياته في نظم الشعر يتغنى به حاديا وراء قطعانه ومفتخرا بأنساب أبويه في مشاهد التفاخر بين العشائر وحين منازلة الخصوم، ومتغزلا في حبيبته أثناء جلسات المسامرة والمؤانسة وفي المطارحات الشعرية الليلية، فنبت الشعر وتقبله الناس وتعاطوه حفظا ونظما وإنشاءً وإنشاداً.
ودعمت المحاضر (وهي المدارس التقليدية) هذا العشق الكبير للشعر فكان منهجها الدراسي يجبر الطلاب على حفظ عشرات الدواوين الجاهلية والاسلامية، وحكايات الادب من مقامات وسير وأراجيز. هذه الصورة الواقعية لمكانة الشعر في البلاد اعتبرها الدارسون دليلا قاطعا على عروبة موريتانيا ابان تشكيك البعض فيها.
منطقية المبالغة ومصداقية اللقب
وعليها وجدت مبالغة المليون شاعر أرضية لها، وبغض النظر عن مدى دقة التعبير فإن ظاهرة كثرة الشعراء التي نشأت وترعرعت واستمرت رغم تغير الأحوال، حفظت للشعر مكانته المرموقة، ونبغ فيه المئات ممن كتبوه فصيحا جزلا وحافظوا على سلامة اللغة ونقاوتها من الشوائب. كما هيأت حركة المرابطين لبلاد شنقيط نهضة ثقافية متميزة أنجبت أعلاما باجوا أصقاع الأرض بعلمهم من أمثال محمد محمود بن التلاميذ والشيخ أمين فال الخير ومحمد الأمين الشنقيطي.
ولعل أهم ردود الأفعال الايجابية تجاه هذه المقولة هو ذلك المقال الذي كتبه الدكتور طه الحاجري في عدد 107 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1967 في مجلة العربي نفسها بعنوان «شنقيط أو موريتانيا حلقة مجهولة في تاريخ الأدب العربي»، معتمدا فيه على المدونة الشعرية التي يضمها كتاب «الوسيط في تراجم أدباء شنقيط» لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي، وهو أول ديوان مطبوع عن أدب موريتانيا على درجة عالية من الرصانة وقوة الأسلوب، تضمن مقتطفات لـ 82 شاعرا وطبع في القاهرة سنة 1911م.
وقد توصل الحاجري في مقاله الى أن الشعر الموريتاني يمثل استثناءً في سيادة عصر الضعف التي تواطأ عليها أغلب مؤرخي الأدب العربي، حيث اعتبر أن الصورة التي اتيح له أن يطلع عليها عبر مدونة الكتاب والذي يغطي فترة القرنين 12 و13هـ هي صورة جديرة بأن تُعدل ذلك أن الحكم بسيادة عصر الضعف على الآداب العربية إذ أنها «صورة تمثل الأدب في وضع مختلف يأبى هذا الحكم أشد الإباء فهو في جملته أدب جزل بعيد عن التهافت والفسولة».
وقد عزز الحاجري مقاله بآراء أحد الكتاب المنبهرين بشاعرية «بلاد المليون شاعر» وهو الكاتب اللبناني يوسف مقلد الذي أتيح له هو الآخر أن يطل على هذه النهضة الأدبية والشعرية في موريتانيا من خلال اقامته في بلاد السينغال المجاورة والمتفاعلة مع موريتانيا ثقافيا واقتصاديا، حيث ألف كتاب «شعراء موريتانيا القدماء والمحدثون» المنشور في بيروت عام 1963.
رغم التجاهل والسخرية... للمبالغة ما يبررها
وعلى الطرف الآخر أثارت هذه المقولة ردود فعل سلبية اتسمت بنوع من السخرية خصوصا في السنوات الأخيرة حين لم ترافق الشعر الموريتاني نهضة نشر تسوقه في العالم العربي، فضاع أغلب قديمه تحت وطأة عاديات الزمن وظروف الجفاف والتصحر وقسوة النقلة من البداوة الى التحضر ومن أنساق التعليم الأصلي الى التعليم الحديث. كما تقوقع غالبا في جذاذات أصحابه ولم ينشر منه إلا دواوين قليلة لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وهو ما عبر عنه أحدهم بالقول «إن هذا الأدب يظلمه أبناءه إذ لم يجاهدوا في التعريف به ويظلمه العرب إذ أعرضوا عن التعرف عليه».
وهذا هو وجه المفارقة الحادة بين لفظة المليون شاعر من جهة، وحجم الحضور الموريتاني في الساحة الأدبية من جهة ثانية، فكأن القارئ العربي شعر بخيبة أمل في كون العطاء الشعري المعروف للبلد لا ينسجم مع حجم مقولة المليون شاعر ذات الزخم الاعلامي الكبير ومن هنا ظهرت بوادر السخرية من هذه المقولة تتجلى هنا وهناك شفهيا وكتابيا.
واللافت للنظر أن هذه المقولة لم تؤخذ مأخذ الجد من طرف الكتاب الأكاديميين في موريتانيا حيث لم يعرض لها الدكتور محمد المختار ولد أباه في كتابه «الشعر والشعراء»، ولا الدكتور أحمد ولد الحسن في أطروحته عن «الشعر الشنقيطي في القرن 13 هـ» وخصوصا حين توقف عند تسميات موريتانيا القديمة مثل: شنقيط وبلاد السيبة وبلاد التكرور وصحراء الملثمين، ولم يتطرق لاسم «بلاد المليون شاعر». وهذا التجاهل يوحي بعدم النظر لهذه المقولة بعين الجدية، على الرغم من أن أطروحته أعدت في نهاية الثمانينات بعد اطلاق هذه المقولة بحوالي عقدين من الزمن. والأمر ذاته ينطبق على الأديب الخليل النحوي في كتاب «بلاد شنقيط المنارة والرباط». ربما تجاهل أدباء موريتانيا لهذا اللقب هو اعتراف ضمني بعدم استحقاقه، وبالتالي التخلي عنه حتى لا يعلق بالذاكرة ويظل محل جدل دائم.
ومهما كان تنازع الأسطورة والحقيقة داخل فضاء المقولة حتى لو رجحنا جانب الأسطورة، فان مصداقية هذه المقولة تبقى حاضرة بشكل أو بآخر، إذ الأسطورة لا تنبثق إلا من نواة حقيقية فلو لم يكن واقع الشعر في موريتانيا قابلا للبوس الأسطورة لما أطلق عليه هذا التعميم الكبير.
وإذا كانت مرتكزات التشكيك في مصداقية هذه المقولة تنبني على ضياع الكثير من الشعر الموريتاني خارج الذاكرة والتدوين، بالاضافة الى شح المدَوَّن منه وضآلة المنشور منه قديما وحديثا وإذا كان هذا يعزز جهل الموريتانيين أنفسهم بهذا الشعر أحرى غيرهم. فان المرتكزات المدعمة لمصداقية هذه المقولة تنبني هي الأخرى على تفشي تداول الشعر بين ساكنة بلاد موريتانيا انتاجا ورواية وتمثلا واستشهادا.
بالاضافة إلى أن ذلك التعميم واجد مسوغه في كون مفهوم الشعر يتسع للشعر الفصيح والشعبي وحتى النظم أحيانا وإذا أخذنا بهذه السعة فإنك قلما تجد موريتانيا إلا وهو يتعاطاه بهذا الشكل أو ذاك. فالشعراء المبدعون يتعاطونه على مستواهم والعلماء ينظمون به معارفهم المختلفة نحوا وصرف وفقها وعقيدة، والشعراء الأميون يتعاطون الشعر الشعبي تعبيرا وابداع وينظمون به معارفهم الشعبية البسيطة. وأما على مستوى تعاطيه رواية فهو شائع لدرجة تتداخل فيها مختلف المستويات المثقفة وغير المثقفة. حتى ان أحد تقارير المستعمرين الفرنسيين عام 1937 اكد انه «لا يوجد أي مجتمع بدوي بلغ مبلغ البيظان (وهم الموريتانيون) في العلم بالعقيدة والتاريخ والأدب والفقه وعلوم العربية...انهم يتحدثون العربية الفصحى بطلاقة ويسر افضل مما يتحدث بها سكان تونس والقاهرة ولا ينذر ان تجد بينهم راعي ابل من ابسط الرعاة يتغنى بالشعر الجاهلي».
وان مجتمعا يتغنى أبسط رعاته بالشعر الجاهلي، أصعب أنواع الشعر وأعرقه لجدير بلقب المليون شاعر مهما كانت المحاذير المحيطة باطلاق الحكام على عواهنها. وما دمنا في السياق الكمي لمصداقية بلاد المليون شاعر فاننا واجدون ان الشعراء الموريتانيون المحدثين لا يقلون من حيث الكم على الاقل عن اضرابهم في الدول العربية الاخرى. ويكفي لتأكيد هذه الدعوى ان نعود لـ«معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين» الذي أعدته ونشرته مؤسسة عبد العزيز سنة 1995 والذي جاء فيه ان عدد شعراء موريتانيا المعاصرين يبلغ 60 شاعرا متفوقا على مصر وبلاد الخليج.
اما على مستوى مصداقية هذه المقولة من حيث الكيف فان ذلك يعتبر هو التحدي الأصعب، ومع ذلك فان الكاتب العراقي عبد اللطيف الدليشي يعزز القيمة الكمية والكيفية للشعر الموريتاني القديم، حيث يسجل اعجابه لكثرة ما يجده الباحث من الأعداد المتزايدة من هؤلاء الشعراء الفحول المجددين العريقين في الجزالة اللغوية والصور الشعرية الجميلة الرائعة المبتكرة في شتى الأغراض. وهو يقول ان الشعراء الشناقطة «شعراء فحول لا يقلون مستو عن أمثال المتنبي والبحتري وشوقي والرصافي». ومهما يكن فمقولة «بلاد المليون شاعر» ورغم أنها مبالغة إعلامية محظة فهي جديرة بالدراسة والتمحيص وبوقفات اخرى ترصد أبعادها حتى لا تظل في الهواء تتجاذبها أفواه المادحين او القادحين بدون تبصر.
كاتبة المقال صحافية وكاتبة موريتانية
[email protected]
التعليقات