quot;لا يملك الكاتب الجيد فكره فقط، بل فكر أصدقائه كذلكquot; (نيتشه)

محمد اشويكة (قاص مغربي): يتجلى من خلال المعطيات السوسيولوجية بأن حياتنا قد بدأت تخرج عن أطوار البساطة المعتادة، وبدأت تتعقد بالتدريج، الشيء الذي سيؤدي بدون شك إلى صعوبة تأقلم من لم يساير ركبها. إن هذا التعقد جعل الإنسانية بصفة عامة تُسَلِّمُ جثثها، بنكران ذات كبير، لحنكة التقنيين. من هنا يمكن أن نطرح الأسئلة التالية: هل يمكن للقاص أن يبتعد عن زمن التقنية أم يجب أن ينخرط فيه؟ هل يسعى القاص المعاصرndash; بصفته يشكل مرحلة متطورة في تاريخ القصة ndash; إلى تطوير تقنياته ووضعها أمام محك التقنيات القادمة من كواكب معرفية أخرى؟ هل يمكن أن نقول بأن تقنين تقنيات الكتابة القصصية سيؤدي إلى شقاوة القاص وموت البطل الروحي؟

- 1-
إن الطفرة التكنولوجية التي نعيشها، قد فرضت ازدحاما وتدفقا في الأفكار والتقنيات وتعدد السلطات الضاغطة والمتعددة اللغات والعابرة للثقافات... هذا الزخم الإلكترونـي الذي اخترق كل شيء مهما بلغت بساطته واشتباكاته ومهما كانت شدة مقاومته، فرض على المشتغلين في حقول البحث العلمي والأدب والفكر بصفة عامة، أشياء لم تكن تخطر على البال. لقد بدأت السلوكات وأنماط التفكير تتبدل بالتدريج. ففي الأدب مثلا، والقصة تحديدا، لا يمكن للقاص أن يعيش على هامش العصر... لقد انخرط القاص الجديد في معمعان هذا التطور... أصبحت تتقاذفه الطرق الإلكترونية السيارة وتوحي إليه بأنماط كتابية جديدة وأفكار جديدة؛ لقد ولجت القصة القصيرة عالم الأنترنيت لتتحول من وثيقة مكتوبة على الورق، إلى قصة مكتوبة على حامل إلكترونـي يتيح إمكانيات متعددة للقراءة والاستيعاب والمشاركة. إن اللحظة التي تعيشها القصة القصيرة الآن، هي لحظة زئبقية يصعب القبض عليها، إنـها تدخل في إطار صيرورة تاريخية لا تعرف الانقطاع وتؤدن بأنـها مشروع لـم يكتمل بعد: مشروع للحاضر والـمستقبل.

- 2-
إن الكائن الذي يعيش هذا العصر، هو إنسان متأثر بما سبق ذكره دون شك، كائن مغامر في كل شيء، كائن مزقته التقنية بالضرورة، يكتب القصة بتقنية خاصة، يرى الأشياء باقتصاد خاص... إنه قاص خاص نسميه quot;التكنوقاصquot; كدلالة وتعبير عن العصر الذي جاء فيه.
إن النـزعات والاتجاهات السائدة في الفكر عامة والقصة خاصة، توحي بأن مفهوم المدرسة والاتجاه والمذهب... قد بدأ يتراجع، وبدأت قوى سلطته تنهار. في النص القصصي الواحد، تختفي عدة مذاهب وتيارات وعقائد تتشكل من خليط متجانس من القديم والحديث؛ إن الثورات العلمية والمعرفية المتواصلة عبر التسارع والتداخل، جعلت من التكنوقاص بوتقة لتقويض الأفكار الكبرى وبنائها في قوالب ميكروسكوبية مغلقة... وكمثال على ذلك انـهيار الفلسفات النسقية, حيث أن الوجودية كانت آخر فلسفة نسقية.
إذن، فالقصة لا يـمكنها أن تتطور الآن دون إحداث قطائع وأزمات، إن التكنوقاص جاء في عمق هذه الأزمة. يتطلب التقدم في القصة السير نحو الأمام... وإذا أراد هذا الجيل أن يترك بصمته في تاريخ القصة، عليه أن يقدم شيئا متقدما، شيئا من العصر الذي يعيشه...
التكنوقاص سائر إلى الأمام، إنه يتقدم، العصر اليوم أكثر تقدما مما سبق، القصة الجديدة أكثر تقدما مما سبق حتما.
إن القصة القصيرة ليست شيئا جامدا في حد ذاته. إنها إشكالية تتطلب طريقة نقدية جديدة؛ هذه الطريقة لا تتحقق في الوجود انطلاقا من قراءة نصوص مختارة بشكل quot;أخوي ضيقquot;، فالنظريات لم تأت بهذه الطريقة، إنها تحتاج إلى فرضيات يغوص أهلها في متاهة القصة حتى الثمالة والدوران، حين ذلك ستنبثق الخطوة الأولى. التكنوقاص انطلاقا من هذا، عليه أن يكون مبادرا باستخدام أدوات نقدية جديدة تكون أكثر فاعلية للقبض على الحقيقة القصصية. إن مجال القصة يتسع يوما بعد يوم، الشيء الذي يحتم على التكنوقاص البحث الدؤوب لاكتشاف عوالم جديدة تدعم وعيه النقدي وتطور تجربته الإبداعية. إن الحاجة إلى وعي نقدي يوازي التجربة القصصية هي المخرج الوحيد بالنسبة للتكنوقاص، لتخليص نصوصه ونصوص أصدقائه من غطرسة quot;الناقد الأخويquot; الذي يمارس الإقصاء بسادية واضحة. إن التكنوقاص هو ناقد عاشق ومبدع في آن؛ إنه كائن يبحث عن إيكولوجيا ثقافية بعيدة عن كل تلوث قصصي.

- 3 -
إن التراكم التاريخي الحاصل في مجال القصة القصيرة، لا يفرض على التكنوقاص نوعا من الوصاية التاريخية لأن القصة القصيرة تتغير بشكل تلقائي ويومي، وتتجسد في انتقال أنماط الحياة والسلوك والإنتاج. القصة ليست خطابا يلغي أشكال الخطاب الأخرى التي لا تعتمد الأسس العلمية، إن الجانب الذاتـي حاضر بشكل مكثف في نصوص التكنوقاص، ويتجلى ذلك من خلال الانفعالات والعواطف والأحاسيس والمشاعر والقيم والانتماءات... إن التكنوقاص يهدم بمعوله المعرفي ووعيه غير المنغلق، الأنساق الفكرية، ولا ينصاع للإيديولوجيات الـمغلقة, إنه يهتم بالجزئي والأشياء المجهرية للوجود، لا تحكمه المطلقيات الوثوقية المنغرسة في تاريخ القصة القصيرة كالقول بأن القصة شكل من أشكال الأدب البورجوازي الغربي، أو هي بنت التراث... بالنسبة للتكنوقاص، القصة فكرة صاخبة وكفى. إن هذا القول لا يعني أن التكنوقاص خاوي الذاكرة, إنه يعرف quot;الحيوانquot; وquot;البخلاءquot; للجاحظ، ويعرف quot;كليلة ودمنةquot; لابن المقفع ومقامات الحريري والهمذانـي وغيرها، ويعرف الأدب الشعبي والحكي الشعبـي وأدب السيـرة quot;سيف بن ذي يزن نموذجاquot; والسيرة الهلالية والأميرة ذات الهمة، وquot;ألف ليلة وليلةquot; والقصص الفلسفية quot;حي بن يقظانquot; لابن طفيل، كما أنه صرع بين صفحات كتاب quot;مصارع العشاقquot; لابن السراج، ويعرف القصص الدينية... كما أن حاجة السوق القصصية المغربية إلى المنتجات الأجنبية، جعلت منه قارئا متثاقفا حد التخمة مع القص العالمي... إذن، التكنوقاص متخم الذاكرة، علبته السوداء تحيل إلى كل الإحباطات الاجتماعية والثقافية والسياسة والنفسية... لا يمكن للتكنوقاص أن يكتب القصة دون وعي، إنه عملية ذهنية وآلية ضرورية وخاصية ملازمة للكتابة القصصية لزوم الوقود للآلات... هذا الوعي هو الذي سيصبح عبارة عن ذاكرة إلكترونية قابلة للتمدد والتقلص، تتسع حمولتها لضم كل المعلومات المتعلقة بالأبطال والأماكن والأزمنة والحوافز والعوامل... المشكلة لعملية السرد.

- 4 -
التكنوقاص لا يتحمل الجاهز في الفن والأدب، ولا يخضع للسلط الفكرية وإن كان لها فضل عليه كالجامعة مثلا... إنه إنسان منفلت يحاول إدراك الأشياء بشكل جزئي ومتشظ وانشطاري انطلاقا من المجتمع نفسه والفكر ذاته. إنه لا يعبد الأقانيم القصصية الجاهزة أو يمجد كتابها ويتزلف إليهم للاعتراف به... إنه يعترف بذاته ويكتب لذاته وينشر على حسابه الخاص، إنه ناشر quot;إيكدوميquot; ومغامر على المستوى المادي والفني: quot;مؤلف ndash; ناشرquot;. التكنوقاص ابن بار لهذه الوضعية المزرية للثقافة المغربية المبالغة في الفوضى والتناقض. إنه يتحدث عن نفسه في أمة غير مستقلة، وطبقة حاكمة ضعيفة لا تتوفر على لغة مشتركة: تطلق الأفكار الكبرى ولا تلتزم بها عبر الممارسة لأنها ليست كلا متجانسا، إنها شخصيات متفاوتة من حيث المستوى الثقافي والفكري... إن صوت التكنوقاص ndash; السارد يتصدع تحت تأثير هذا الضغط.
الكاتب الحقيقي ndash; كما يقول نيتشه ndash; إنما يعبر فقط بالكلمات عن عشق الآخرين وتجربتهم، فهو فنان لكي يتخيل الكثير انطلاقا من القليل الذي يحس به... إن التكنوقاص يحس بالكثير، لكنه يدبج القليل.

- 5 -
إن تحولات القصة من خلال أشكالها ولغتها، هي نتيجة دالة عن حركية عميقة يعيشها المجتمع المغربي، هذه الحركية التي يتصدى لها التكنوقاص بكل أسلحته المعرفية والسردية الجديدة لرصدها. تأتي نصوص التكنوقاص على شكل حكي مسترسل وممل في بعض الأحيان وغارق في التقريرية، مبهم ومقعر وفارغ يقوم على التلميح والكذب أحيانا أخرى... لكنه ماكر... يتسم بالحيوية والوضوح، عار من التنميق البلاغي والحذلقة اللغوية، بسيط في تركيبه، يفصح عن نفسه بلغة عادية، خطابه صريح وطريح في آن واحد، تقوم عبارته على ما قل ودل. إن لغة التكنوقاص تشبه لغة الـ quot;Basicquot; المعلوماتية.
يرصد التكنوقاص شخصيات مختلفة الآراء والثقافات، شخصيات مستاءة تتكلم لغة مختنقة مليئة بالأخطاء، تكترث بكل شيء ولا تكترث بالشأن العام، لا تهتم بالمثل العليا الجماعية... كائناته تميل إلى ما هو فردي، منكفئة على ذاتها، ومتقوقعة في دائرة فردانياتها الحميمية.

- 6 -
في الأخير، نود أن نديل ورقتنا هاته، ببعض الملاحظات الإشكالية حول تشكل الإطار النظري لما نسميه quot;التكنوقاصquot;:
- تضخم الصورة أدى إلى فقدان اللغة لشيء من مصداقيتها.
- السيطرة التقنية على العالم ستؤدي إلى سيطرة تقنية على القصة.
- الحاجة الملحة للإخلاص لجنس القصة القصيرة بصفتها وسيلة مؤهلة لمسايرة التطور التكنولوجي.
- ضرورة تشكل الوعي النقدي القصصي لدى التكنوقاص لتخليصه من الأفكار المدرسية العتيقة التي تجره إلى الوراء عوض الزحف إلى الأمام.
- الاهتمام بالبناء التقنـي للنص القصصي الذي يبشر بظهور قصة قصيرة تتفنن في صياغة أفكار خالصة بتقنيات متطورة.
- التكنوقاص لا يدعي النبوة القصصية أو الإصلاح القصصي، بل خلق ويخلق ويَعِدُ بأنماط وتقنيات قصصية جديدة.
- اقتناع التكنوقاص بأن القصة القصيرة هي شكل تعبيري مناسب لإدراك عالم اليوم بكل لغطه وصخبه وتعقده.
- لجوء التكنوقاص إلى خطاب أكثر فجائعية وفضائحية كفلسفة للكشف عن تمزق الذات الكاتبة وسط عالم ستسيطر فيه التقنية على ما هو روحي وستلغي الحرية الذاتية وتكبلها.
- انفصام شخصية الكاتب وبحثه الدائم عن الهوية نتيجة التغيرات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية... واستمرار سقوط وتآكل كل ما هو كليانـي... وسير العالم مرغما نحو رؤية واحدة.

www.alfawanis.nl/chouika/