شعره المجعد ذو كثافة غزيرة تنحدر على رقبته؛ وجبهته العريضة تتناسق مع تقاطيع وجهه الطوال؛ له عينان ودودتان وأنف روماني يشرف على شارب رقيق يتعارض مع شفتين غليضتين عامرتين بألابتسامة؛ اما طوله الفارع فمضرب المثل بين اقرانه.بغدادي اصيل في طباعه وسلوكه؛ وشخصية اجتماعية عاشت في صميم الحياة الشعبية؛ وشاركت في كثير من مطامح الشعب وآماله الى جانب المشاركة الوجدانية في افراحه واتراحه؛ لكل هذا وذاك فقد عرف بارتباطاته الواسعة مع مختلف الطبقات العامة.
في بداية الخمسينات من القرن الماضي؛ وكنت اصدر يومها مجلة (الاسبوع)الادبية الفنية؛ وادرس في كلية الحقوق في ذات الوقت؛ كنت اتردد على معهد الفنون الجميلة؛ وكان هذا المعهد لا يبعد سوى كيلو متر واحد عن الكلية؛ لاستمع الى المحاضرات التي كان يلقيها العميد الفنان حقي الشبلي على طلبة قسم المسرح في اسلوب التمثيل والاخراج وتاريخ المسرح العالمي؛ وكذلك حضور بعض ا لتطبيقات العملية في الفنون التشكيلية الني كان بقودها كبار الاساتذة كفائق حسن وجواد سليم وعطا صبري ومجموعة من مساعديهم وكان اسم اسماعيل الشيخلي يتررد كثيرا بين الاساتذة والطلاب لما قدمه من خدمات لهذا المعهد.
.
كان اسماعيل الشيخلي قد غادر بغداد ضمن البعثة العراقية ملتحقا باشهر المعاهد الفنية في العالم الا وهو (البوزآر) في باريس؛ وبعد مضي سنوات الدراسة بنجاح وتفوق عاد الى بغداد ليعاود نشاطه في ذات المعهد الذي تعلم فيه ودرّس؛ و ليأخذ موقعه بين الاساتذة اللامعين الذين تخرج على ايديهم صفوة التشكيليين الشباب االواعدين آنذاك كاسماعيل فتاح الترك وخالد الرحال ومحمد الحسني وخالد القشطيني وماهود احمد ونوري الراوي ومحمد غني وغيرهم عشرات سواء الذين درسوا في قاعات المعهد؛ او في صالات و مراسم الكليات الاخرى التي كان يشرف عليها بعض الاساتذة كالطب والحقوق والآداب والهندسة ودار المعلمين العالية...الخ.
وتؤرخ كتب الفن التشكيلي وبعض المطويات الفنية؛ للفنان اسماعيل الشيخلي بالمعلومات الاساسية الاتية : انه تخرج في معهدالفنون الجميلة فرع الرسم عام 1945 (الدورة الاولى) واختير من بين صفوة الخريجين ليتولى تدريس مادة (تطبيقات فن الرسم) لفترة قصيرة ثم ليلتحق بعدها مبعوثا للدراسة في (البوزآر) كما اسلفنا. والمهم في امرهذه البعثة انها لم تحجزه في نطاق الدراسة الاكاديمية؛ بل فتحت الابواب امامه ليتلقى ثقافة موسعة حرة؛ كأن يحضر الندوا ت و المناظرات والحلقات الدراسية العامة ومعارض الرسم المنتشرة في القاعات او المواقع المتميزة الشهيرة مثل (السكلكير) و(الحي اللاتيني) و(سانت ميشيل) و(الاوديون) والحدائق العامة والمقاهي والتي كانت جميعها ترفد الفنانين بثقافة متشعبة ملونة متجددة لا تنضب.
لقد بقي الشيخلي بعد تخرجه في معهد الفنون الجميلة مدة تزيد على ستة عشر عاما مدرسا ثم رئيسا لقسم تطبيقات اعداد المعلمين ومنه نسب بعدئذ الى اكاديمية الفنون الجميلة كاستاذ ثم رئيس قسم الفنون التشكيلية واعيرت خدماته الى وزارة الثقافة والاعلام ليتولى منصب المدير العام للفنون ورئيسا للجنة الوطنية للفنون الجميلة وفي منصبه ذاك قدم انجازات مشهودة على الصعيدين الاداري والفني مما حدا بمنظمة (اليونسكو) ان تختاره رئيسا للرابطة الدولية للفنون التشكيلية؛ ومن خلال هذا الموقع الفني الهام توسعت علاقاته مع التجمعات الفنية وكبار التشكيليين العالميين واصبح احد المؤثرين في منهجية وعطاء ونتاج الحركة التشكيلية بعامة. وازاء ذلك الجهد الواضح والعمل الفني المتميز؛ فقد قررت الحكومة الفرنسية منحه وسام ة (فارس) في الفنون والاداب تقديرا لمكانته واسهاماته البارزة في الفنون التشكيلية.
كانت علاقتي بالشيخلي طويلة وممتدة لاكثر من نصف قرن من الزمن؛ تواصلت وتأصلت منذ اول تعارف لنا في مقهى (سويس) و حتى السنة الاخيرة من حياته؛ لقد عرفت فيه حركة دائبة موآزرة لمختلف التجمعات التشكيليةالعراقية (كاصدقاء الفن؛ والرواد؛ والانطباعيين؛ وبغداد للفن الحديث.... الخ) او لمعارض زملائه من الرساميين او تلامذته الكثر؛ هذا بالاضافة الى حضوره المكثف لمختلف النشاطات الثقافية الاخرى التي توزعت على مساحة واسعة شملت بعض المدارس والفرق المسرحية والنوادي الاجتماعية والخيرية. لقد شاركت اسماعيل الشيخلي وفنانين آخرين كحافظ الدروبي ومحمد غني ونزار سليم في بعض المؤتمرات والمهرجانات واللجان الخاصة بالفنون التشكيلية؛ ومنها على على سبيل المثال؛ المؤتمر الاول لاتحاد التشكيليين العرب ومهرجان (بينالة بغداد 1973) الذي اعتبره مؤرخو ونقاد الفن انجازا مهما للحركة التشكيلية العربية؛ فقد ضمتنا الهيئة العليا في عمل واسع مشترك توزع على الاجتماعات والمعارض والمحاضرات.ولقد منحني هذا المهرجان فرصة تأليف كتاب ضخم (بمشاركة الفنان الاديب الراحل نزار سليم) احتوى على تفاصيل شاملة لمحاضر الجلسات والمحاضرات والمناقشات والقرارات ,وكذلك قيامي بتسجيل صوتي نادر لجميع الفنانين والنقاد والباحثين الذين شاركوا بفعالياته؛ ولمناسبة مرور عشر سنوات على ذلك الحدث الهام؛ فقداهديت النسخة الاصلية الى الفنان الشيخلي بصفته المدير العام لدائرة الفنون وذلك بتاريخ 7/4/1983؛ لكي يحنفظ بها ضمن آرشيف الفنون العراقية؛وقد اجابني على تلك البادرة بكتاب رسمي (اشارت اليه مجلة الف باء العراقية في حينه) يشكرني فيه على تلك الالتفاتة والهدية القيمة؛ ولقد استنسخت دائرة الفنون مجموعة منها واهدتها الى المراكز والتجمعات الفنية التي شاركت بذلك المؤتمر. انتشر اسم الشيخلي ونتاجاته الفنية في اغلب الدول العربية وبعض الدول الاوربية ولعل العاصمة الاردنية عمان قد نالت قصب السبق في هذا المضمار؛ اذ شارك الشيخلي فيها بسبعة معارض متتالية؛ مما اتاح الفرصة امام عشاق الفن الاصيل ومتذوقيه ان يقتنوا كثيرا من اعماله اضافة الى نتاج كبار الفنانين العراقيين الآخرين لكي تحتل مكانتها اللائقة في بعض قاعات الرسم والفنادق الكبرى والبيوتات الاردنية. لقد اتاحت لي فرصة الاستماع الى محاضرة الفنان الرائد المرحوم شاكر حسن آل سعيدفي الجمعية الملكية الاردنية للفنون الجميلة في جبل (اللويبدة) ان اقوم بجولة في انحاء المتحف التابع لها؛ ولشد ما بهرني ان اشاهد ذلك العدد االمميز من لوحات الفنان الشيخلي وهي تتصدر احدى قاعات المتحف ورواقه.. بل واكثر من ذلك؛ ففي اثناء تلبيتي لدعوة كريمة من السيد معن التل (شقيق رائدة الفن التشكيلي الاردني الراحلة دعد التل) بزيارة بيته العامر في عمان؛ فوجئت بلوحة كبيرة للشيخلي وهي تحتل واجهة غرفة الضيافة بشكل ملت للنظر. ولعل باريس، ومونت كارلو والدار البيضاء وبيروت وبعض دول الخليج هي المحطات الاكثر احتواءا لكثير من لوحاته الشهيرة بعد بغداد.
حل صيف 2001؛ وغادر الشيخلي الى باريس تصحبه السيدة الفاضلة عقيلته كعادته في كل عام؛ الا ان هذه السنة تختلف عن سابقاتها؛ فقد جاءها للعلاج من مرض عصيب الم به؛ فتركه هزيلا ومرهقا؛ ولكنه لم يستطع ان يفت في ارادته واصراره على التواصل مع ريشته والوانه. لقد اعلمني القاضي الكبير الصديق مصطفى الواعظ احد المقربين من الشيخلي؛ (انه ما كاد يعود من رحلته العلاجية الى بغداد حتى شرع بالتحضير لمعرض فني جديد مشترك مع الفنان (عبد الكريم سيفو)؛ احد الشباب المبدعين والدارسين في بغداد وباريس؛ مراهنا على نجاحه الفريد الذي يمثل اعمال عهدين مختلفين؛ وقد اطلق على ذلك المعرض عنوان (بين جيلين)؛ ويضيف الواعظ الى ذلك قوله : لقد كان كان هذا المعرض يتطلب جهدا وتنسيقا وفرزا مجددا للوحات الشيخلي التي تمثل اهم اعماله في الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي؛ وهذا بحد ذاته يمثل جهدا استثائيا له؛ حيث تم الاعداد ونظمت القاعة واعد البرنامج والمطوية الفنية التي ارخ لها يوم 24/1/2002 كدعوة لاستقبال الحضور في قاعة (حوار).. لقد اطمأن الشيخلي على كل شيء؛وداعب زملاءه كعادته ثم غادر القاعة على امل اللقاء ي ذات المساء؛... في عصر ذلك اليوم وقبل سويعات من الموعد المحدد للافتتاح؛ وصل الخبر المشأوم الذي ينبيء المحتشدين في قاعة حوار برحيل الفنان الشيخلى. لقد كانت الصدمة مذهلة والغياب المأساوي مفاجئا ومخلفا ورآءه الالم والحسرة ولوحات معرضه...يتيمة باكية.
لقد ترك اسماعيل الشيخلي وراءه ثروة فنية ضخمة تعبر عنها بصدق تلك المقدمة التي حملت توقيعه يوم رحيله الحزين؛ وهي تلخص لثقته وايمانه بتواصل الاجيال حيث يقول فيها :... (يسرنا ان ان قدم على قاعة حوار معرضا مشتركا يتضمن بعض لوحاتي القديمة ونماذج من اعمال عبد الكريم سيفو (2000 2002). ان اعمالي المرسومة في فترة (19451954)؛ اي بعدفترة الدراسة والتكوين في معهد الفنون الجميلة سنة 1945 والبوزآر في باريس 1952؛ وهي عبارة عن تطبيقات ودراسات وتجارب لمختلف المواضيع والمواد لها قيمتها التاريخية؛ اذ تعير عما كان يدور في الوسط الفني في بغداد في فترة الخمسينات من القرن الماضي. اما اعمال عبد الكريم سيفو؛ فهي تمثل تجاربه الاخيرة بين عامي (2000 2002) نقدم هذه المعروضات ليطلع عليه طلاب الفنون ومؤرخوها ونقادها؛ آملين تسليط بعض الضوء على تطور الحركة التشكيلية في عراقنا الحبيب خلال هذه الفترة.
لو درسنا اهم الاعمال الفنية التي انجزت خلالها؛ نرى ان الكثير من المفاهيم والتقاليد الفنية قد تأكدت اصالتها واتضحت معالمها. ان الغرض من اقامة هذا المعرض المشترك هو اطلاع الجيل الجديد من الفنانين وطلاب الفنون بصورة عامة على عمق التطور الذي طرأ على الحركة التشكيلية خلال نصف قرن من الزمن من عمر الحركة الفنية؛ اي بين جيلين من الفنانين...... ومن الجدير بالذكر بهذه المناسبة ذكر دور معهد الفنون الجميلة وكلية الفنون؛ في استمرار هذا العطاء وديمومته... 24 / 1/ 2002 اسماعيل الشيخلي...)
لقد ظلت حضارات العراق السومرية والاكدية والبابلية والاشورية ثم حضارات العصور الاسلامية وما تركته من اثر عميق في فنون الرسم والنحت والفخار والجداريات والمنمنمات وابداعيات الخط العربي؛ هي البعد الفكري والثقافي الشامل الذي رفد منه الفنان العراقي اصول ابداعه وتجذره.ومن فيض هذا النهر الثقافي المتدفق نهلت التجمعات الفنية التشكيلية ومنها جماعة الرواد التي كان من اعضائها البارزين اسماعيل الشيخلي ابداعها؛ لقد جابت هذه الجماعة العراق وهي تلتقي بجذور الحضارة و جمال الطبيعة وانماط حياة الناس في المدن والشواهق والقرى والارياف من الشمال حتى الجنوب؛ وكان من حصيلة تلك الجولات المنهجية الثرة؛ خزين لا ينضب من المعرفة الميدانية. لقد استلهم الشيخلي كل ذلك وهو يغرف من معين مؤصل ليعبر بصدق عن احاسيسه ومكنوناته؛ فظهرت اعماله في توهجات خياله ثم في اختيار موضوعاته التي دللت على استقلاليتها وتميزها؛ و كذلك في بحثه الدؤب عن الجدة والابداع وتجاوز ز حدود المواقع المرئية؛ الى سر حركة الانسان المشحون بالعمل في المزارع او المصانع او التعليم او من خلال حوارات البيع والشراء او التجوال في الاسواق.. الخ ولم ينس الشيخلي ساعات الهناءة والمسرة في المقاهي او في الازقة الشعبية حيث الغزل الحيي العف الذي عبر عنه باشارة عابرة او بالايحاء او الهمس اوالنظرة الخجولة او بالانطباع المباشر ايضا
ان لوحات الشيخلي بصيغتها المتفردة تمنح مشاهدها فرجة متاشبكة ما بين بريق الالوان والخطوط الشاهقة في استقامتها وعلوها؛ سواء تجسد ذلك بالمرئيات العامة او الشخوص الرائحة الآتية او تلك التي تستلهم الجلوس او الاسترخاء والتي لا تبتعد ابدا في خطوط التجسيد عن انعكاسات الضوء؛ او من خلال حركةالتنقل في حالتي؛ القرب من مساحة اللوحة او الابتعاد في فضائاتها المختارة؛ لقد اعتنى الشيخلي كثيرا في توزيع الوانه على مظاهر الملابس الشعبية بخاصة فيما يتعلق بالرجال والنساء على حد سواء وهو بكل نتاجاته اعطى لشخصيته المبدعة استقلالية تتحكم بصدق في اختيار المواضيع وتجسيد المرئيات والانطباعات وتحقيق تواجد النماذج المنتقاة بعناية لتكون قريبة مما يلتقيه الانسان في مجمل حياته اليومية؛ لهذا فقد اصبح بمقدور المشاهد الواعي من عشاق الفن التشكيلي وهو يتجول في معرض يزدحم باعمال عدد كبير من الرسامين ان يشير بثقةالى احدى اللوحات ليقول : ان تلك اللوحة هي من مفاخر ذلك الفنان العراقي المبدع اسماعيل الشيخلي.
التعليقات