ربما كان مفيداً في الذكرى الأربعين لصدور رائعة الأديب الكبير نجيب محفوظ quot;ثرثرة فوق النيلquot; استرجاع ردود الأفعال العنيفة، التي صاحبت صدور الرواية من جانب أهل السلطة في مصر، وتسليط الضوء أيضاً على ما كاد وقتها أن يمنع ظهور الرواية إلى النور. فبحسب رواية السيد سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر - والتي أوردها الأستاذ رجاء النقاش في مقال نشر مؤخراً بجريدة الأهرام القاهرية - فقد استاء بعض أهل الحكم بشدة من الرواية، وكان أكثرهم غضباً هو المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة، والرجل الثاني في نظام عبد الناصر، والذي quot;هدد وتوعد بإنزال العقابquot; بمحفوظ، بسبب تناوله في الرواية لسلبيات موجودة في المجتمع المصري بالنقد الشديد. ول ذلك اجتمع أمر المشير وآخرون من النافذين في الدولة (كشمس بدران وزير الحربية وصلاح نصر مدير المخابرات) على quot;التصرفquot; مع محفوظ، وهو ما يعني في عرف تلك الأيام مصادرة الرواية، ومعاقبة كاتبها بما يستحق. ولم ينقذ الموقف سوى تدخل عبد الناصر شخصياً، والذي قرر بعد قراءة الرواية أنه لا مبرر لكل هذا الغضب، وأن ما كتبه محفوظ يندرج في نطاق النقد المباح لمشاكل موجودة في مجتمع ما بعد الثورة بالفعل، ولكننا ندفن رؤوسنا في الرمال، ونتظاهر بعدم وجودها. انتهت رواية سامي شرف.
لا يملك المرء إلا أن يضع هذا الموقف جنباً إلى جنب مع الحملة الشرسة التي تعرض لها فيلم عمارة يعقوبيان من جانب النخب السياسية والثقافية، إثر ظهوره في دور العرض السينمائي هذا العام ( بصرف النظر طبعاً عن الفارق في المستوى الفني بين الروايتين) . فإضافة إلى عشرات المقالات التي هاجمت الفيلم، واعتبرته يحرض على الرذيلة، والانحراف، وسوء السلوك، قدم بعض أعضاء مجلس الشعب - ومنهم نفر غير قليل من المثقفين والكتاب - طلباً لمناقشة الموضوع، بل وح ذف بعض المشاهد التي رأوا فيها إساءة لواقع المجتمع المصري. أما وزير التضامن الاجتماعي علي مصيلحي، فقد قال عن الفيلم في حواره لجريدة روز اليوسف: إنه quot;عمل مقزز يدعو للانحلال الأخلاقي، ويروج لتجارة المخدرات، وأفعال أخرى تنافي طبيعة المصريين وقيمهم.quot;
إذن، فرغم مرور أربعين عاماً على رواية محفوظ الجريئة، فإن تعاطي الجماعة الوطنية ndash; بما فيهم المثقفين ndash; مع مفهوم حرية الرأي لم يتغير كثيراً للأسف الشديد، بل ربما تراجع مستوى قبولها لأي محاولة تبغي رصد الواقع المزري بدون تزييف أو تجميل، وإبراز مظاهر الانحراف والشذوذ فيه بأمانة وجرأة.
ماذا يخبرنا ذلك يا ترى عن ليبرالية المثقفين، وقبولهم للرأي الآخر وإن بدا غريباً، واحتمالهم لأي صوت يغرد خارج السرب؟ الواقع أن اتخاذ موقف متطابق تقريباً من عملين أدبيين ظهرا في عصرين وُصف أحدهما بالشمولية والتسلط والانغلاق، والآخر بالانفتاح على كافة الآراء والأفكار يثير القلق، ويوحي بأن الشعوب العربية ونخبها مازالت تراوح مكانها في موقفها من قضية حرية التعبير، وفوق ذلك يخلخل الثقة في المستقبل الذي استبشر به الكثيرون مع ترسخ ظاهرة العولمة، وسقوط القيود، وانتشار الأفكار. فدخول عصر السماوات المفتوحة، والآراء العابرة للحدود لم يتبعه - كما هو واضح - تغيير في العقلية، إذ ظل منطق المنع والمصادرة حاضراً بقوة في الساحة الثقافية، واستمر صوت المزايدة عالياً، بل وربما أعلى من ذي قبل. والأدهى أن سطوة القوى المناهضة لأي تغيير فكري زادت بفعل استغلالها الواسع لشبكة الإنترنت في شن الحملات ضد كل ما تعتبره quot;تعريضاً بالثوابتquot;، دينية كانت أو سياسية، في نموذج حي على استخدام منجزات الحداثة لخدمة المحافظة.
هذه الأجواء المتربصة بأي رأي أو فكر أو منهج مختلف أدت إلى مفارقة شديدة، تتمثل في أنه بينما تتقلص بشكل عام مساحة الرقابة الحكومية المباشرة على مضامين وسائل الإعلام، تتزايد مساحة الرقابة الذاتية التي يمارسها المبدعون أنفسهم، خوفاً من البطش الرسمي والشعبي. وإذا كان نجيب محفوظ وعلاء الأسواني لحسن الحظ ممن لم يغيرون مواقفهم في مواجهة الضغوط والإغراءات، فإن أخرون كثر آثروا السلامة، وارتأوا أن ركوب الموجة أفضل كثيراً من السباحة ضد التيار، بينما انسحب آخرون من الساحة الثقافية تماماً، حرصاً على سلامتهم الشخصية (مثل الدكتور سيد القمني).
أربعون عاماً هي المدة الفاصلة بين صدور رواية quot;ثرثرة فوق النيلquot;، وظهور فيلم quot;عمارة يعقوبيانquot;، تغيرت فيها أشياء كثيرة في مجتمعنا كالملبس، والمأكل، وإيقاع الحياة، ومنظومة القيم، والظروف الإقتصادية، والمناخ السياسي، وبقيت أشياء عدة عصية على التغيير، لعل من أسوأها عدم استعدادنا لرؤية مشاكلنا ndash; وخطايانا ndash; تحت المجهر، وحساسيتنا المفرطة من النقد، وميلنا الغريزي إلى استخدام لغة الخطاب الزاعق مع مخالفينا في الرأي. وإن كان هناك من تغيير جزئي في هذا الإطار الثابت عبر السنين، فهو في ازدياد عدد البقرات المقدسة في حياتنا، واتساع نطاق المحرمات، وتقلص مساحات التسامح، وهو ما أدى إلى هيمنة الجمود على الساحة الثقافية، وانزواء التجديد الفكري إلى أركان المشهد الثقافي.
ليس الاستبداد في مصر حكراً على الأنظمة كما يتصور الكثيرون، بل هو مرضٌ متفشٍ بين الحكام والشعوب...والنخب أيضاً. وما بين مطرقة استبداد السلطة وسندان استنكار المثقفين، يبقى الإبداع محاصراً دائماً ومتعَقَّباً كثيراً ومنبو ذاً أحياناً.



نايل محمد شامة
باحث في العلاقات الدولية ndash; جامعة سانت أندروز ndash; المملكة المتحدة.