كان قدر جان باتيست غرونوي (الضفدع)، بطل فيلم quot;العطر، حكاية قاتلquot; لمخرجه توم تيكوير، المأخوذ عن رواية الألماني باتريك سوسكند بنفس العنوان، والذي ظهر هذه الأيام في قاعات السينما الباريسية، هو أن يقارب إشكالية الوجود الملتبس من خلال حاسة الشم. ذلك أن حواس بل وظائف ذاته الأخرى شبه معطلة، ففاق الجميع في سبر وفك تعقيدات كل رائحة، إذ يتعرفها جميعها ويميز جيدا بين الواحدة والأخرى في أدق خصائصها. فإن كانت اللغة لا تسعفه كي يضع اسما لكل ما يشمه فإنه خلص أيضا إلى كون اللغة عاجزة عن استيعاب كل وقع الروائح التي تصل إلى مسام أنفه. ظل ثمة إذن راعيا بائسا لكل روائح العالم التي لا تحصى.
شيء آخر هو أن باريس القرن الثامن عشرة؛ زمن ومكان أحداث الفيلم، كان مستنقع روائح غير هين. حتى أن جان قد وضعته أمه بين نفايات سوق سمك شعبي، بكل ما يعني ذلك من تراكم قمامة وأحشاء سمك ورءوسها وكثير من بشاعة كريهة.
باريس العفن آنذاك (أنظر كتاب أرليت فارج (بالفرنسية) حول باريس القرن الثامن عشرة مثلا)، ثمة كتل مواد لزجة تتقطع لها أنفاس من يدنو ثمة، أرجل سيئة الطالع تنغمس متلطخة حتى أقصاها بوحل مجبول بأقذر ما يمكن أن يتصوره عقل. باريس وسوق السماكين، ثمة تنطلق عالية صرخة جان باتيست غرونوي وقد آذنت بولادة صبي آخر، خامسهم، لتلك المرأة التي لم تأنف تلد ويموت للتو ما تلده من لقطاء في نفس المكان عينه بين كل تلك الأوحال والروائح المقززة عاليا. في تلك المباءة إذن يولد جان ويصر على البقاء، بصرخته وجسمه الصغير مثل الطغمة المكسو ثمة بكل تلك النفايات التي يرسلها عبثا ناس السوق الشعبي. أجد أن الفيلم قد أتقن جيدا لقطات ذلك الوليد، بدءا بسقوطه المصوت مفرقعا من رحم أمه إلى تفاعله البات مع حركة ولزوجة الأحشاء الدامية التي طرحت عرضا على جسده البض الصافي من كل لوثة. صور دود مكثف يتحرك متلويا تعبر خاطفة أمام المشاهد، حتى أن أحد المشاهدين أمامي في القاعة كان يخبئ وجهه في راحتيه غير قادر على تحمل صدمة العفن. صرخة جان سقت إذن أمه الموت من عل الحبل لما اكتُشف أنها من خلفت وليدها كي يموت بين القمامة. ثمة إذن يبدأ قدر جان باتيست هذا.
مضى الفيلم سريعا إلى بداية لغز الشم عند جان مباشرة لدى مدام غايار التي تكفل الأطفال ما دام هنالك من يؤدي عنهم ولم يتوقف لحظة عند بعض التفاصيل الجميلة والعميقة في الرواية. واضح أن الرواية مليئة بتفاصيل كثيرة ومكثفة فإن الفيلم حقيق به أن يتعثر ويصعب عليه استيعابها غير أنه مع ذلك أهمل هذه التي أجد فيها لفتة فلسفية تستحق ألا تسقط عن فيلم يقتبس من هذه الرواية.
قبل أن يصل الصبي عند مدام غايار فقد دار دورة كبيرة لدى بعض النساء اللواتي عهد إرضاعه إليهن، مادام الصبي ما يزال مكفولا لدى الشرطة ويتكفل بأمره الضابط المسمى بلافوس. تلك المرضعات جميعهن لمحن أن الصبي غريب إذ ليكاد ينضب الحليب في أثدائهن ويهم مرارا بقطع مئونة صغار آخرين ويقطع عيش المرضعات. ضاق ذرع الشرطي أيضا، غير أنه ليس بوسعه أن يدفع به إلى ملاجئ لأنه أولا غير معمد وليس يحمل اسما بعد. فنقلُ الصبيان إلى روان (غرب باريس) آنذاك حيث يوجد ملجأ كبير يستلزم تسجيل أسمائهم وضبط تسلمهم، خاصة بعد حادث موت الكثير منهم مكدسين في النقل ومخنوقين. سلم الصبي بعد ذلك إلى دير سان ميري بحي سان مارتان وعمّد ثمة وأطلق عليه اسم جان باتيست. وتم وضعه تحت إمرة مرضعة في حي سان دوني (حي باريسي عريق معروف بالدعارة أيضا) تدعى جين بيسي على أن تتقاضى مقابل ذلك ثلاثة فرنكات كل أسبوع.
الفصل الذي أريد أن أشير إليه هو الذي يحكي إعادة هذه المرأة نفسها للصبي إلى الدير عند السيد تيريي، هذا الراهب الذي يصفه سوسكند بأنه quot;في الخمسين من عمره، أصلع نوعا ما وأنه يفوح برائحة الخلquot;.
يقول سوسكند، مترجما إلى الفرنسية من طرف برنار لورتولاري، أن quot;الأب تيريي أب هادئ. كان مسئولا على إدارة الشؤون الخيرية لديره وعلى توزيع المال على الفقراء والمحتاجين. في المقابل، يتطلع أن يسمع كلمة امتنان وليترك لشأنه بعد ذلك. كان يشمئز من التفاصيل التقنية، لأن التفاصيل تعني دائما المشاكل والمشاكل تعني دوما أن سكينة روحه سوف تمس، على أن ذلك هو أشد ما لا يتحمله أبدا (...).
جان باتيست أثار فضول تلك المرضعة بغرابته واختلافه عن كل الصبيان الذين مروا من بين يديها، لذلك الأمر أعادته للذي سلمها إياه، أي الأب تيريي. غير أن هذا الأخير ظن أن السيدة جين بيسي لم تدفع باب ديره سوى لأنها ترغب في مزيد من المال. يقول الأب: quot;للأمر دوما علاقة بالنقود. فعندما يطرق هذا الباب، يكون للأمر دوما علاقة بالنقود. أمل أن أفتح الباب يوما لأحد ما يحدثني عن شيء آخر من دون النقود. شخص ما يحمل لي مثلا، وهو يعبر من هنا، شيئا ما؛ بعض فواكه مثلا أو بعض فستق. لا نعدم أبدا شيئا كهذا نمنحه في فصل الخريف. أو لربما بعض أزهار. أو فقط لربما يمكن أن يجئ بكل بساطة شخص ما يقول لي: يرحمك الرب أب تيريي عمت صباحا! (...).
يجد الأب تيريي أن ذلك من المحال ولن يحدث قط. غير أنه وهو منخرط في تلك التأملات لم يلمح أن المرأة على أهبة أن تؤكد له أنها لا ترغب في مال بل فقط تريد أن تعيد الأمانة إلى أهلها. ولما أصر الأب أن يدرك لماذا؟ أشارت له بأن الصبي قد سكنه الشيطان!
ثمة ينبري الأب: quot;مستحيل. من المحال تماما أن يملك الشيطان رضيعا ما. الرضيع ليس بعد إنسانا وإنما هو فقط مخطط له وروحه لم تشكل بعد. فهذا ليس يهتم به الشيطان بعد (...).
المرأة أثارت بعد ذلك إذن بيت القصيد : quot;ليست له رائحة؛ أية رائحة!quot;
يرى تيريي أن الشيطان لو سكن الصبي فليس من الطبيعي إلا أن تكون له رائحة كريهة. ومادام الصبي في صحة جيدة فليس من عجب في ذلك الأمر إذ فقط الأطفال المرضى هم من تكون روائحهم منتنة حسب منطق الأب تيريي.
يلح الأب تيريي إذن على أن الصبي من خلق الرب أي من بنيه غير أن جين بيسي تضيف قائلة: quot;أنتم يا أب تيريي هو من يستطيع وحده أن يقرر إن كان الرضيع ابن الشيطان أم لا. فليس ذلك من كفاءاتي قط. كل ما أعرفه هو أني أتقزز من هذا الرضيع، إذ ليست له الرائحة التي يلزم أن تكون للأطفالquot;.
بعد ذلك تحاول هذه السيدة أن تحتج على ما تقول غير مبالية باعتراضات الأب تيريي، تقول: quot;ليس من السهل التعبير عن ذلك، لأن رائحتهم ليست هي نفسها في كل مناحي الجسد، فإن كانت طيبة على العموم. أتفهمون ما أعني أب؟ خذوا مثلا أقدامهم، فثمة لهم رائحة حصاة ملساء ودافئة. أليس كذلك؟ لعلها رائحة جبن أبيض... أو مثل زبدة، مثل زبدة طرية، نعم إنه كذلك، نشم منهم رائحة زبدة طرية، وفي باقي الجسم نشم منهم... نشم منهم رائحة رغيف نغطسه في الحليب...
دون أن نمضي في سرد كل الروائح المحتمل أن نشمها هنا أو هناك من جسد الصبيان حسب حكي جين بيسي، مثلما تعب الأب تيريي نفسه من المجادلة معها، فقد دعاها إلى الانصراف وأخذ الصبي وعاد إلى مكتبه. ثمة راودته أفكار كثيرة فهو ليس يذهب أبعد من أن ينكر وجود الشيطان وهو من أكبر ركائز كل فكر ديني. غير أن الذي تبادر إلى ذهنه بعدما أنكر أن تكون تلك المرأة هي من يكتشف الشيطان هو ما حيره وقد عبر عن منولوغه سوسكند كالتالي: quot;واقعة أن تكون تلك المرأة نفسها هي من يكتشف ذلك دليل قاطع على أن ليس ثمة أي شيء له علاقة بالشيطان. لأن الشيطان نفسه ليس يسفل في غباء حتى تكتشفه المرضعة جين بيسي. وتكتشفه أكثر من ذلك بأنفها! بأتفه عضو شم؛ أحقر الحواس على الإطلاق! كما لو أن للجحيم رائحة كبريت وللجنة رائحة البخور (...).quot;
على كل يمضي الأب تيريي بالصبي إلى مدام غايار بحي شارون كي يبعده عنه نهائيا ويهنأ من سوئه لأنه في الأخير كاد أن يقتنع بأن الصبي شيطان صغير. غير أنه طاف بخلده أن بإمكانه هو نفسه لو ارتبط، وسُمح في العرف الديني بذلك، بامرأة أن يرزق صبيا ودرّت نفسه حنينا ما وشعورا بفقدان وخسارة أبوة محتملة ومشروعة حقا. كلها تأملات حري بها أن تثبت في الفيلم. غير أنه، أحد أهم أسباب إخفاقه، هو أنه تعامل مع الرواية كعجينة يجبل منها ما يشاء كما يشاء، إذ أن هدفه ليس هو أن يخضع الرواية لعمل سينمائي وإنما هو أن يقتبس منها فقط العناصر التي تسمح له أن يظهر شخص جان باتيست غرونوي مثل بطل خارق وقاتل محترف دون أن يعير كبير اهتمام للبعد الفلسفي للرواية، رغم علاتها هي نفسها.
لن أسترسل في سرد كل تفاصيل الرواية، رغم جمال وعمق الكثير منها، بل سأمضي مباشرة إلى التساؤل حول الهم الثقيل الذي قصم ظهر جان بابتيس، وكيف ظهر ذلك في الفيلم.
لم تدرك مدام غايار أن جان يمتاز بقوة شم خارقة، إذ فهمت بعض تصرفاته وبعض خصائص شخصيته على عكس ما هي عليه في الواقع. إذ رأت فيه شخصا خارقا وعالما للمجهول وعرافا بامتياز. فهو يدرك أن ثمة شخصا ما آت ويصل بالفعل في لحظات، كما يوري لمدام غايار المكان الذي خبأت فيه نقودها إذ نسته، مثلما لا يخشى أبدا في الظلام لما ترسله كي يأتيها بالخشب في المخزن خلاف كل الصبيان الآخرين، من دون أن يحتاج إلى مصباح كي يستنير به، وأشياء أخرى. لم تدرك مدام غايار بأن جان يشم الأشياء وأنه ليس يبصر كل ما خلف الجدران والأثواب وغيرها. في الأخير تخلصت منه وشغلته لدى السيد غريمال في ورشة دباغته.
أمر آخر هو أن الصورة أبعد عن منح تدقيقات هامة حول الروائح والشم مثلما استطاعت الرواية أن تنقل لنا كل ذلك العالم الذي يفوح، بكلمات كثيرة.
جان ولد في مكان نتن، لذلك ليس من الغرابة أن تكون أول كلمة ينطقها هي كلمة quot;سمكquot;! ثم أن أول عضو فيه يتحسس الحياة والوجود هو الأنف. كان عليه مثلما تقول الرواية لحظة ولادته ألا يصرخ كي يمنح لأمه فرصة أخرى للحياة، وألا يقوم بدورة بلا طائل هو نفسه من دنيا الحياة كي يعود إلى الموت.
شخص غريب فعلا بلا أحاسيس وبلا علاقات حميمية مع أحد، ليس يحس وليس يحن وليس يجد في القتل شيئا بشعا. حياته ليست سوى محاولة قبض معنى لمروره من على البسيطة من خلال الروائح. هذه الروائح نفسها التي تزعج سكينة روحه وتعصف به. وكأنه جامع لأدوات عتيقة يحتفظ بها ويقتنيها بأي ثمن كان فقط من أجل لذة ليست تفهم قط.
لكل شيء في الوجود رائحة ما، يشمها جان باتيست ويتحسسها على طرف أنفه ويقلبها في سكينة روحه ويتألم لأنها تنضاف لآلآف الروائح التي سكنت جهازه وظلت هنا في تلافيف غير واقعة تحت تصرف مباشر أو إرادة تحكم كبرى. ما يؤلمه أكثر، خاصة لما وصل لدى صانع العطر السيد غيزيب بالديني جهة بون نوف في باريس. ثمة أدرك لما لقنه بالديني أن صناعة العطور تحتاج إلى علم وفهم ودراية بالصيغ وحسن دربة وأخذ موازين ووصفات وكميات لائقة، ما ليس بمقدور جان أن يدركه لوحده.
لقد فرح جان لما اطلع على أدوات الرشح التي فتح بالديني أعينه عليها، ثمة فقط داهمه فرح سري غال، إذ سوف يستطيع أن يحفظ الروائح مذ ذاك فصاعدا ويستل كل منها من الشيء الذي تصدر منه. لقد ساء ظن جان مع ذلك لما أراد أن يستل رائحة الزجاج والنحاس وغيرها من الأشياء التي ترسل إلى أنفه روائح متميزة، مثل ماء نهر السين نفسه الذي مرره في آلته غير أن النتيجة كانت منعدمة. لم أدرك لماذا حشر الفيلم مشهد أن يحاول جان أن يستخلص رائحة قط ما ليس في الرواية، وإن كان من حقه أن يضيف ما يريد غير أن هذه اللقطة ليست تقدم شيئا جديرا بإضافتها مثلما أضاف كذلك لقطة أن يضع بنتا مقتولة في آلة التقطير بمدينة غراس التي رحل إليها كي يتعلم من أهل الصناعة فيها. يسقط جان مريضا لأن أمله خاب. ليس يستطيع أن يستل بواسطة آلة التقطير تلك التي فرح بها كثيرا كل الروائح التي يعج بها العالم وتحدث له وخزا قاسيا في روحه!
كما يبدو ذلك ليس جان كائنا ينتبه إلى شيء آخر في الحياة وليس يهتم بأمر من أمور العيش المألوفة من قيم وغيرها. ليس سوى أسير كرامة أو معجزة شمه. ليس يعرف الحب وليس يطمح إليه بل يظل كما كان دوما ضائعا في عالم ليس يقوده فيه سوى إعجاز الروائح وسلطتها عليه.
تلك البنت التي اصطادته رائحتها من بعيد في باريس مساء حفل وطني، يشمه ويقترب ويبحث يخترق الطرقات والأزقة حتى وصل إليها في حي ليماغي، عكس ما جاء في الفيلم إذ أظهر أنه تعقبها في الشارع قبل أن يتبعها إلى البيت. لقد قتلها دون أن يكون ذلك هو همه، وشمم كل مناحي جسدها خاصة تحت الإبطين والسرة والعنق وبين فخذيها وفخذيها حتى امتلأ إلى الأبد بريحها وروحها وريحانها. ثمة اكتشف رائحة جديدة للأدميين لأن الناس عادة تفوح منهم روائح كريهة روائح عفن وبول وعرق مز. أما عضو تلك الفتاة فيفوح بريح بحري عسير الإمساك وساحر.
يحتاج جان باتيست بعد ذلك أن يستوعب تقنية الشحم الحيواني الذي عليه أن يلصقه بأجساد الفتيات الجميلات اللواتي سقط صريع روائحهم كي يستخلص ثمة بعد ذلك بتقطير دقيق روائحهن كي يصنع العطر الذي سخر له كل حياته.
جان لا يهتم قط بجسد ضحاياه سوى من جهة الرائحة التي يمكن أن يمنح ويجفل أمام ما هو دون ذلك. ليس الجنس ولا الإيروسية مما ينشده قط. حتى وإن كان يتحسس ويشم تلك الأجساد الجميلة التي اصطادها بحنكة حرفي مميتة فهو ليس يصبو إلى إشباع آخر خارج عالم الروائح الذي يأسره ويعصف بروحه التي ترفرف على طرف الشم الحرج.
لقد فطن الفيلم إلى ضرورة استعمال تقنية قراءة النص نفسه وإن كان يحتوي على كثير من مناطق صامتة. الفيلم جسد جيدا تلك اللقطة التي تلت مثول جان أمام العدالة إذ حدث للجميع أمر غير خليق به أن تفك رموزه. جان الذي حمل في عربة بلباسه الأزرق بعد أن خضب عنقه بقطرة من ذلك العطر الذي استل من أجساد فتيات جميلات. الناس لم يستطيعوا قط أن يصمدوا تحت وطأة ليس يدرك مصدرها أحد. طار الناس جميعهم إلى أصلهم وتعروا واقتربت أنفاسهم جميعا ورشف الريق وتقاطعت الأعضاء ووصل الارتعاش إلى الرعشة. كل الساحة كانت ببلاغة لا تضاهى عودة إلى النقاء الأول. أولم يكن عطر جان قد صنع كي يدفع الناس إلى الحب. أوليس الحب هو ما ينقص الإنسانية؟
لم يستطع جان أن يحب وتصدرت كتل هائلة من الكراهية أقاصي روحه. تنقل بين تلك الأجساد العارية التي خطفتها غفوة السكر من خمر ومن سر سليل ارتجاج آت من عطر جان. عاد مرة أخرى إلى باريس وكل أمله هو أن يموت فيها إذ يئس من كل شيء بعد أن تعذب quot;بوعي أنفيquot; ولم يستطع أن يمسك بسر الوجود، وهو الكائن الذي يقصه كل شيء كي تكتمل إنسانيته، ليس يتمكن من اللغة وليس يشبه البشر في صورته جراء بشاعة بادية للعين. لذا دخل باريس محتفظا دوما بقارورة عطره الذي عانى كل المعاناة من أجل أن يصنعه. وصل إذن كي يموت، مثلما ماتت مدام غايار في الوضعية التي كانت تخاف وتحتاط منها كل حياتها موتا باديا أي جماعيا في سرير مشترك مع عجائز أخرى في النزع الأخير وذلك في مستشفى quot;أوتيل ديوquot; كي تدفن في حفرة جماعية بعد ذلك، ومثلما مات سيده غريمال الذي انزلق واستقرت جثته في طمي السين جراء مساء أفرط فيه في السكر. صانع العطر الذي حمل له جان كل المجد الكبير بقدرته الخارقة على صناعة كل عطر طيب ونفاث، مات هو أيضا إذ أيلت البناية التي يسكنها وضاع إلى الأبد تحت الركام. إنها رواية الموت إذن بامتياز!
إنها بعد كل ذلك تقنيات باتريك سوسكند في كتابة روايته التي أحدثت ضجة بلا نظير لذا ترجمتها إلى الفرنسية سنة 1986، عام واحد فقط بعد طبعتها الألمانية، إذ حققت مبيعات عالية وما تزال حتى اليوم. غير أن الرجل لم يستطع أن يوفق في كل ما كتبه فيما بعد، لربما عصفت به الشهرة أو لربما لأنه لم يفهم أنه جاء ليكتب رواية العطر بكل ما لها وعليها وكفى. فقد قرأت كل أعماله المترجمة إلى الفرنسية على قصرها فهي ليست في غالبيتها تختلف بشكل جانبي عن كتابات معاصره بيتر هندكه اللذان يعيشان هما معا بفرنسا. آخر كتبه ظهرت ترجمته الفرنسية بداية هذا العام لدى فايار وكان quot;حول الحب والموتquot; فهو ليس رواية وإنما هو تأملات حرة حول الحب والموت من خلال حياة وكتابات وأفكار فلاسفة وكتاب. صحيح أن ثمة منحى فلسفيا في قصصه الطويلة quot;الحمامquot;، quot;الكونترباسquot;، quot;المعركةquot; وغيرها، لكن القوة والنَّفَس وأصالة الفكرة ليست هي نفسها.
هذا الفيلم إذن سوف يحقق شهرة مضاعفة للكتاب مع أنه لم يستطع أن يمسك بكل تعقيداته.
عطر جان إذن هو سر حياته وسر موته. فقد قادته أقدامه إلى المكان نفسه الذي رأى فيه نور الوجود. ثمة لمح جماعة من الناس يأكلون بعض ما يجدون، إذ الزمن زمن خصاص وسوء مئونة وغذاء. اقترب منهم فتح قارورته الصغيرة/السر دلقها توا على جسده فإذا بتلك الشلة تنهال عليه وتمزقه إربا إربا، وثمة في حفل كانبالي ينتهي جان باتيست غروني، ينتهي فعلا، بالرغم من أنه ألح أن يقوم بدورته الغامضة حول الحياة. العطر احتوى إذن ما يشي باندفاع إلى افتراس وحياة. هل هو رائحة لورا أم روائح كل تلك الفتيات اللواتي تألم من أجل أن يستبد وحده هو البئيس بجوهر إقامتهن على الأرض. لم يعرف الحب منذ البدء وليست تكتسب حياته أي معنى حتى بمعجزة الشم وقلقه الداخلي جراء كل طوفان الروائح الذي ينسدل على روحه إلى الأبد.
[email protected]