هل علينا القبول أن إنسان هذا الزمن بائس؟ حيث البؤس هنا لم يأت من لوعة الحياة وثقلها بل جاء من جفافها وفراغها. بالرغم من الضجيج والدهشة المستمرة من اكتشافات لا يبدو أنها ستنتهي عما قريب، إلا أن الأمر واضح ويقيني، فبهذه الاكتشافات يفرغ الداخل ويمتلئ الخارج. بكل اكتشاف واختراع تمليه التقنية نكتشف استلابنا وبعدنا عن أنفسنا، والذي يحدث بالمعنى العام هو أن الحياة التي في داخل الانسان تفرغ كل يوم، تمنح طاقتها إلى الآلة، إلى عالم الآلة، أو قل إلى عالم الانسان الالي، ولقد تم تأثيث مكانة (السوفت ndash; ويير) كي ينتهي الانسان مستلبا حيث الروح يشار إليها الآن أنها من أعمال الخارج وليست من أعمال الداخل. وسيقبل هذا الكلام ويدركه المبرمجون والتقنيون رفيعو المكانة الذين يتواصلون يوميا مع الآلة بلغة غريبة عنهم ألا وهي machine language
في حديث الفلسفة المدنية يشار إلى مراحل تكوين العالم والمدنيات بموجات متلاحقة صاعدة هابطة، يتم تخزين الطاقة الانسانية في شوط منها وتفريغها في شوط آخر. وليس هناك من اختلاف بيننا وبين أمنا الطبيعة. فالمد والجزر قبل أن يكونا في ميدان الشواطئ والأبحر هما في قلب الانسان نفسه. كأن الكون هو إنساننا الكلي ولا نفعل سوى العيش في داخله والتناغم مع نشاطه، ان نشاطنا هو نشاط كوني.
الوقت الآن متأخر، هل غابت الشمس؟ كما قال كازانتزاكي في إفتتاحه لعمله quot;الطريق إلى آل غريكوquot; وهذا الغياب هو غياب المعنى الذي شكلهما الدين والأدب. يصف كازانتزاكي في احدى فقراته كيف العمال يستيقظون صباحا ويهرولون إلى أعمالهم في وصف استهجان وهو لا ينتقد الساعين وراء لقمة العيش بقدر ما ينتقد الزمان حين يدفع القوة العالمية الى موضع الاستهلاك، وكذلك أومأ تشارلي تشابلن مبكرا في بداية القرن الماضي في أحد أعماله ndash; الازمنة الحديثة- أن الانسان ليس سوى ابن الآلة. فهو يتحرك كما تتحرك ويقز كما تقفز. واليوم يتضح جليا، فنحن شئنا أم أبينا نسكن الآلة من دون علم أو إدراك. لسنا نحن أبدا الذين خلقنا من لحم ودم، روح تشتعل وتريد أن تتوهج، بل كائن آخر من حديد وأسلاك. وإن كانت هناك شعلة ما فهي شعلة الخارج، بصيص الآلة الذي يجذب الضائعين إليها.
إن الهم المشترك، الهم العالمي اليوم هو هم التقنية، فالحديث الذي يشترك فيه القاصي والداني، الصغير والكبير هو عن عالم الآلة. الاتصالات والكومبيوتر على سبيل المثال أو التلفزيون والذي راح يحتويه الكومبيوتر أيضا ويسلب قواه، كيف يعمل وكيف يبرمج...
أما الحديث الغريب غير المشترك، الحديث الذي لا تلق له أذنا صاغية فهو حديث الأدب.
ما الأدب؟ أو بكلمة معاصرة بعيدة عن أجواء سارتر، لماذا الأدب؟
في جو مشحون وإزدحام مضطرب، يضيع الزمن، ويضيع السؤال.
لقد مرت البلاد العربية بصحوة (توصف بالكاذبة غير الواعية) بدأت في القرن التاسع عشر بمحاولات بطرس البستاني والمنورين السوريين والمصريين - حيث من يطلع على كتاباتهم ما اشبهها بكتابات اليوم وكأن العالم العربي عاد أكثر من مائة عام الى الوراء حيث تناقش مقالات اليوم تحرير المرأة وقيود الحجاب وحرية الرأي الخ- وقد أدرك معظمنا نهايتها- ففي حوالي عام 1974 مر مظفر النوب بسورية كي يلقي قصيدته quot;وترياتquot; وكانت هذه القصيدة على لسان الصغير والكبير. ثم تلتها قصيدة quot;لا تصالحquot; لأمل دنقل. لا أضع هنا تعينات نقدية ولا تأريخا لنهاية الشعر أو الأدب ( أو بكلمة أشمل نهاية الروح العربية) بل أشير إلى رموز تصلح تعينات لتأريخ نهاية الأدب في الشرق. في ذلك الوقت انكتبت أيضا شرقي المتوسط ومدن الملح. كانت تلك المرحلة هي المرحلة التي أغلقت الباب وراء الأدب- وقد حمل متاعه وخرج.
في سوق الشعر اليوم السؤال المؤرق، هل مات الشعر، وانزوى رواده وقلت حصته من حياتنا؟
هذا السؤال الذي يطرح كل يوم بحلة مختلفة، يفتقد من يطرحه الرؤية الكلية للعالم، لم يمت الشعر بل الذي مات هو الانسان. لم يمت بل يحتضر عاجزا مشلولا لا يستطيع النطق مستلقيا على سرير المرض، ينظر بعين لا روح فيها. ماذا تحمل نظرات عاجز مشلول ملقى في غرفة تمريض معزولة؟
إن ترهل الشعر فإن الأدب كله سيترهل، فالشعر هو قلب الأدب ولا يمكن أن يحيا أدب من دونه.
بالطبع ndash; لا أحد يموت، حتى الانسان لا يموت، لكن هذا، الموت، هو مُعامِل ( coefficient ) الروح المراوغة، والذي حدث هو أنفصال لجزيرة كاملة اسمها الأدب انفصلت عن العالم كله وأمست قائمة بنفسها ( Stand Alone) بعيدة غريبة. لا أحد يأخذ بشأنها.
وكمثال، يكتب سعدي يوسف، عن الشيوعي الأخير. سلسلة من الانطباعات والاحاسيس التي لن تؤثر في أحد ولن يقرأها أحد. سيقرأها أصدقاؤه الشعراء- إلا أن هذه القصائد هي في الواقع دلالة على نهاية العالم في نفس شاعر عربي كبير. وكذا الحال مع كل شاعر.
أن الانطباع الأخير عن حضور محمود درويش الشاعر في الوعي المعاصر أخذ يتضاءل وينحسر. ورغم تدني فنيا quot;سجل أنا عربيquot; عن لوحته (الديوان) الجدارية فإن الأولى أحرزت ثقلا لم تحرزه الأخيرة مع الفارق بين القصيدة والديوان.
وهكذا فإن حضور أمسية شعرية هو حضور لحفل جماعي أو لعيد ميلاد، والتقاء لاصدقاء ينشدون فك العزلة عن طلسم الشعر، لكن ليس باليد حيلة. فالأدب بما فيه الشعر لا يدخل في صيرورة اليوم ولا مكان له في احلام الناس. لقد عاد إلى يوتوبياه وصار فائضا عن الحاجة. يحس ذلك من يمشي في شوارع العواصم العربية التي ازدحامها هو فيض غير منظم، اندلاق سكاني لأناس حالتهم ليست حالة أرواح تعيش لمهامها الانسانية بل حالة أرواح تعيش لمهام دنيوية تحكمها طاقة ميكانيكة أرضية يصعب إيقافها.
بصيغة لافتة مختصرة نلاحظ معا أن الأدب قد اعتمد طيلة مراحله على الكلمة، فالكلمة هي سره وروحه واينما حضرت يحضر أما حين تغيب فإنه سيغيب ويفقد توازنه ويعود ليدور حول نفسه في متاهة العزلة.
الذي نلاحظه في هذا العصر هو غياب قدرة الكلمة وحضور غاشم للمعلومة، لقد استبدلت الكلمة بالمعلومة data وأخذت الأخيرة مكانتها وحصانتها في مجتمع اليوم. من دون معلومات لا أحد يستطيع الحركة، ولا طريقة من دونها للتعامل.
القول الآن للمعلومة ( الأخت الصغرى للرقم) حيث الكلمة غائبة مقصية وهنا إحدى اسباب تدني اللغة، فالاهتمام بالرقم (المعلومة) أضعف بنيان اللغة وجعل استخدامها استخداما صحيحا مقصورا على أكادميي التراث واللغة. ونرى حتى الأدباء والشعراء الجدد لا يستخدمونها الاستخدام الذي كان من قبل خمسين عاما على سبيل المثال، نصوصهم مليئة بالاخطاء وفقيرة روحيا ويحار الشاعر الآن كيف يبحر في محيط اللغة. فهو مرة يريد تحطيمها ومرة تفجيرها وفي الواقع لا يفجر شيئا، إن التفكير في طريقة التعامل معها هو دلالة على البعد عنها وفقدها. واللغة التي أتكلم عنها ليست الحرف والكلمة المجردة بل هي الصورة وقد خلقت في كلمة- التي هي بصيرة في نهاية الأمر.
الصفحة الأخيرة التي كتبها الأدب في حضارة اليوم- بل مدنية اليوم، هي صفحة الهروب، أقصد تيار الوعي الذي يتدفق دون هوادة وبلا رابط. حيث أن الإهتزاز الذي حل به (بسبب التغير الديموغرافي ربما الناتج عن تطور التنقية والطب) أفقده جأشه وأدخل فيه رعشة وهذيانا. لذلك يحاول بروتون الكتابة الميكانيكة ويحاول أن يكتب شعره وهو نائم! وتأتي هلوسة السرياليين. لقد فقد نظام الرؤية وراح منطق الحياة يختلط أمامه.
لا وجود الآن لأدباء مبدعين بالمعنى المدني التاريخي، فأدباء اليوم ليسوا سوى ظلال، شهداء مغفـْلين يحملون ضريح الأدب للأجيال القادمة والتي على ما يبدو لن تقدم قريبا.
هذا الكلام يذهب إلى الغرب، أوربا وأمريكا، أما عنا نحن الشرقيين، العرب، فما نحن سوى أبواق تنقل صدى الآخر. لهذا نلمس العجز دوما في حالتنا الأدبية والثقافية، فالنص الذي ينتجه الأديب العربي بعيد كل البعد عن الجمهور وتطلعاته، بعيد عن معاصرة الهم اليومي.
أورد إشارة موت الأدب عند العرب، ألا وهي استيراد وانتشار فكرة اتحاد الكتاب العرب ومحاولة حصر مفهوم الابداع فيها. وأنني اتساءل لماذا اتحاد الكتاب، اتحاد على من؟ على الشعب أم على السلطة؟ المبدع الفنان هو مؤسسة بحالها ووجود كياني لا يحصر في اتحادات، إن فكرة اتحاد الكتاب هي فكرة دالة على أن الإبداع الانساني عند العرب المعاصرين هو مسألة حرفية لا علاقة لها بالحرية الفردية.
ودلالة أخرى على موت الأدب هو انتشار رواية عمارة يعقوبيان ورواية بنات الرياض مع فرق المستوى بينهما بنائيا، آخذ هنا مثالا من قلب الأدب، فهما قد مشيا على ترداد واحد، في داخلهما واجس وحيد ألا وهو فتح الباب على امرأة تستحم، فالجميع سيلقي نظرة عليها والنظرة هنا نظرة تطفل وليست نظرة إلى الجمال والفن. وانتشارهما على نطاق واسع يؤكد أن العرب تقرأ لكنها تقرأ كي تملأ عينا لا تشبع ولا تفكر.
ومثال آخر: أتحدث بهذه العجالة عن سعدي يوسف فبظني أنه من الشعراء المرهفين الذين وفقوا في مزج الشرق مع الغرب. وأتحدث عن الشيوعي الأخير. إن العنوان وحده قصيدة راسخة ذلك إن استنطقنا التاريخ الذي بدأ بالبيان الشيوعي الذي حرره انجلس وماركس. إن انتهاء حقبة الشيوعية بالنسبة للمثقف والمبدع العربي كانت إحدى أزماته الكبيرة تهزه وتقلق وجدانه، لقد تعلق بها كتعلق الوليد بأمه، والآن وهي تنتهي لقد فقد الثقة بالتاريخ وبالحياة نفسها. لذا جاء مسلسل الشيوعي الأخير كمحاولة من الأدب نفسه كي يوقف إغلاق الستارة على المشهد الختامي، فمازال هناك شيوعي أخير يؤكد بخفاء وباطنية أن المسرح مستمر ولن ينتهي.
هذه الضربة الأدبية لم تدخل في الصفحات اليومية للثقافة، فلولا وجود الانترنيت وسهولة القص واللصق للنصوص لما وجدناها مباحة هكذا تنشر إلى جانب نصوص متدنية ادبيا في مواقع إلكترونية هي مواقع إعلامية أكثر منها أدبية. فيها الصور الدعائية التي تطغى على النص هذا إن كان هناك أصلا نص.
مانراه هنا أن، ليس فقط الأدب قد هجر الناس بل الثقافة نفسها كجسد يغلف الأدب نفسه. فالمشتغلون بالثقافة والأذكياء منهم نراهم قد تخلصوا من هذا العبء وأمسوا إعلاميين.
كانت الموجة الماركسية الشرقية أحدى المؤثرات الكبرى على ازدهار الأدب العربي. صحيح أن هناك الموجة الفرنسية لكنها ايضا تأثرت تأثرا خفيا بالماركسية حتى أن السريالية كما أرى هي تطوير وقفزة في منهاج ماركسي جديد. الماركسية لم يطلقها ماركس وحده، لقد اطلقها الانسان ثورة وتحررا لقراءة جديدة للتاريخ المعاصر. مبدعو وفنانو القرن العشرين كانوا ماركسيين بإمتياز. وبنهاية هذه الحقبة ينتهي تقريبا الحث - الالهام الذي كان يدفع الأدباء العرب لقول مالديهم من هموم .. انكسارات وآمال. فغياب الجانب الأخر ثم حضور العالمية (العولمة) تحاول أن تحمل مفهموها الغائب- الانساني، قد غيب الاستقطاب وأنهى مشروع الفن النضالي. يحاول الاديب العربي الان ان يأخذ مكانا له في المشروع الانساني العالمي هذا المشروع البعيد كل البعد عن واقع العرب فهو مشروع لا مكان له على تربتنا.
والشيوعي الأخير هي محاولة غير واعية، محاولة الطفل الذي وجدها quot;سعدي يوسفquot; أمتداد المثقفين الماركسيين وكأنه لا يريد أن يعلن النهاية. تراه وحيدا في عالم صاخب، والقصائد الثمانية عشر ( قصيدة الشيوعي الأخير) تدل على ذلك فهي وحيدة بروحها ووهجها، هي كوكب يدور في مدار غير أرضي بل أنه أرضي ونحن الذين فقدنا مدارنا. فهي تشير الى الذين رحلوا وهجروا. وبطريقة أو بأخرى يريد أن يركب تيار العصر ولا يعرف كيف: يريد أن يتعلم. الشيوعي الأخير يتعلم الهبوط بالمظلة:
quot; أي حماقة جاءت بك؟
الأيامُ...
جئتُ هنا لأعرف كيف أهبطُ!
..............
.............
قلتُ: ياهذا، يجيء الناس كي يتعلموا الطيران!
قال: لقد تعالينا
تعالينا
..............
إلى أن لم يعد خيط ولو واه يشد عروقنا بالأرض..
اني الان اهبط بالمظلة
ربما تتعرف الأعشاب رائحتي
فتمنحني الحياة!quot;
هذا الشيوعي الأخير الذي يريد أن تتعرف الأعشاب إلى رائحته مرة أخرى وتمنحه الحياة.
الحياة التي افتقدناها وافتقدها الجميع.
من السهل الكلام عن التراجع والموت والخراب، لكن الكلام عن البناء وعن الإحياء لهو كلام صعب. ماهي مقومات وأسس بناء العالم الميت مرة أخرى - إعادة جزيرة الأدب الضالة؟
إن الفن حمل طبيعي سيتحول إلى كائن مشوه حين يتم دفعه.
ليكن البحث عن الحرية وعن الذات هو المقام الأول ومنه تنفتح الطرق الأخرى، حرية المبدع واستقلاله هما الأداة نحو ابداع محتمل فالعالم العربي مليء بالتناقضات ومليء بالأمل أيضا- النضال ضد التشوه الذي تحمله النفس العربية وضد التشوه الذي ينمو من دون هوادة في أرض الواقع. أن يكون الأديب العربي ابن بيئته وليس ابنا اوربيا أو افرنسيا ويكون حر العقل وحر النفس.
[email protected]
التعليقات