إلى كمال سبتي

لم أعرفك شخصياً، للأسف. كانت معرفةُ قراءاتٍ وتواصلٍ عن بُعدٍ، فقط. وذات يوم تلقيت منك إيميلاً بسطرين، ورددت عليه، بطريقة quot;الريبليquot;، ثم انتهى كل شيء. إيميلاً، أشرع الآن في البحث عنه، بعد خبر وفاتك الصاعق ، وسط غابة من فوضى شخصية، فلا أجده. لأنني، كما يبدو، لم أحفظه في حينه. كنت أتابع بعض مقالاتك وأشعارك، وبعض ما كُتب عنك، وبالأخصّ المقال الرائع لصديقنا المشترك حسن النوّاب، وكنت أقول لنفسي، سأبعث لهذا الشاعر والإنسان النبيل بتحياتي. وسأشكر لحسن فضلَ تعريفي بهذا الجانب المشرق من شخصية كمال. فأن يكتب شاعر عن شاعر، بمثل هذا الغنى الإنساني، المذهل والحميم، فهو أمر نادر حقاً: نادر ويستحق الثناء على كاتبه، قبل، ربما، المكتوب عنه. ثم، كعادتي في الاطمئنان لهذه الدنيا، وكأننا سنبقى مواطنيها الأحياءَ إلى ما نشاء، حتى نقرر نحن مكان وتوقيت رحيلنا _ أنشغل وأتكاسل، مؤملاً بفرصة أخرى، على حين متسع من وقت وصفاء بال.
لكم غدرتني الدنيا يا كمال مع عديد الأصدقاء الأدباء، ولم أتعلّم. لم أتعلّم! على حين فجأة، أفقد الواحد منهم، هكذا، دفعة واحدةً وإلى الأبد. أسمع الخبر، وللوهلة الأولى، لا أتأثر ولا أستوعب. فقط رعشة ثقيلة مُقبضة تسري، كالماء البارد، في حنايا القلب وأطراف الأصابع. ثم يبدأ الجرح السرّي في النزيف يوماً بعد يوم. حين يصمت الرّاثون، ويغيب الفقيد، عن ورق الصحف وشاشة الإنترنت. حين ينزل السكين بطيئاً بارداً في اللحم. إنها المأساة، فاجعة موت الأعزّاء، تبدأ معي صغيرة، ثم تكبر، على غير مألوف البشر الأصحّاء الطبيعيين.
الأصحاء الطبيعيون؟ هل ثمة أصحاء طبيعيون حقاً؟ ظز. وماذا يعنيني!
حدث هذا معي مع شيخي عبد الحميد طقش، ومع صديق عمري أحمد عمر شاهين، ومع العزيزين حسين البرغوثي وإميل حبيبي، ومع سواهم من أدباء عرب، هم بعض المعنى لهذا العمر المنكود في رحلة بحثه الخائب عن إطلانطس المعنى. يأخذنا زحامُ القراءة والكتابة والمتابعات، فلا ننتبه، إلى زميل منا، قد يكون شيخاً مريضاً أو كهلاً وحيداً. قد يحتاج إلى مسامرة أو عزاء، أو تواصل إنساني فيزيقي، أو أقلّه: مكالمة تلفون. ننساه في ذروة انهماكنا بمشاغلنا وبمطالب الحياة الخانقة. وفجأة، ودائماً ما يحدث هذا quot;فجأةquot;، ينزل الخبرُ الصاعق: صاحبك فلان تعيش أنتَ!
لم يقلها لي أحد بخصوصك يا كمال. فلا أحد يعرفك هنا في غزة. ولم أقلها لنفسي. فهذا من قبيل تحصيل الحاصل كما تعرف، فأي عيش هو هذا الذي يأتيك من موت أصدقاء وأشقّاء روحك؟ كلام على عواهنه بالطبع، مثل جلّ كلام العرب، قدماء ومعاصرين. ومع هذا، ها هو ذا: كمال تعيش أنتَ! فمتى؟ وكيف مات كمال؟ وأين؟ بالطريقة ذاتها التي ماتها أحمد عمر شاهين: وحيدأ غريباً أعزبَ في شقته، أعزلَ إلا من كتبه وأرفف مكتبته ومخطوطاته، إلا من هواجسه ورؤاه، من خمره وقهوته وشايه، أعزلَ، يموت بنقص السكر في الدم، أو بتشميع الكبد، أو بفشل الكلى، أو بسرطان، فسيان سيان..
أعزلَ يموت في الخامسة والستين أو الحادية والستين أو الثامنة والأربعين أو الثانية والسبعين، فلا فرق. إن هي إلا سنوات يعدّونها أياماً وشهوراً على أصابعهم، ونعدّها نحن كتباً وقراءات وذهولاً في دهاليز الليالي الموحشة.
أحمد مات عاكفاً على جهاز كمبيوتره، يكتب. فيما الخادمة، يا لحسن الحظ، تعدّ له الطعام، في يوم زيارتها الأسبوعي. يطلب منها فنجان قهوة، وحين تأتي له به، ساخناً، غير شهيّ بالمرة [فأين منه قهوة غزة ذات العرف المعطر]، تجده مائلاً على صدره، كحكيم بوذي، مبتسماً قليلاً، وهو يوغل في إغماءة الموت المحقق. أما أنت يا كمال، فقد وجدوك ميتاً على كرسيك، منذ ستة أيام، لا تردّ على تلفون، ولا على أخ لك ولدته أمك، أو لم تلده. ستة أيام من الموت، في وحشة وفراغ الشقة، إلى أن تكبر الهواجس السوداء، وتصبح شكاً وطيداً، فتأتي الشرطة الهولندية، وتقتحم عليك الباب المغلق، لتجدك متخشّباً على كرسيك. إنها نفس طريقة موت الماغوط أيضاً [هل تلاحظون كيف يمزح الموت مع زملائنا على نحو سيىء؟] أما أحمد عمر شاهين، فلولا مصادفة وجود الخادمة الطيبة، لكان مآله نفس مآلك. ولكان مآله عينه المآل الذي سيواجهه على الأرجح، كلُّ من لم يتزوج، وكل من آثر صداقة الكلمات المجرّدة، على صداقة اللحم الأنثوي الحيّ. لكأنها ضريبة quot;الغامضquot;: يقتصّ من كل المبدعين الخالقين، غيرةً وضغينة! موت موحش وطريقة في الموت أكثر إيحاشاً، وأمضّ ألماً. موت، كنتُ فكرّتُ فيه، ذات سنة، أنا مريض السكّر المزمن، وجوّابُ المدن والكتب، فتنازلتُ عن مبدأي، بحكمة ألا يتزوّج الفنان، وقبلتُ بتسويات الحياة الواقعية، فتزوّجتُ فتاة طيبة، كي تقيني من تلك الطريقة في الموت. وفعلاً يا كمال. أنقذتني زوجتي أو quot;البشريةُ التي أحتضنُها كل ليلةquot; بتعبير صديقنا النبيل الجنابي، أكثر من عشر مرات، من إغماءة الموت المحقق. ولولاها، لما كنت حياً حتى يوم الشعراء هذا. فلمَ لم تتزوج يا صديقي؟ ولمَ آثرتَ المرأةَ صديقةً لا زوجة! لا بأس.. فربما كنتَ محقاً، في هذا. من يدري.. أنا نفسي أحياناً أندم، ويتأكّلني الندمُ، حين لا أستطيع التوفيق بين التزامات المثقف وبين مسئوليات ربّ العائلة. أقول أكان لا بدّ من حمْل كيس ملحٍ على الكتف الكسيح، وقد أحنتهُ القراءةُ والكتابةُ والتأملات؟ لا بأس.. على بعضنا أن يحمل الحِمْليْن معاً، وأن يمضي، صاعداً مرتفَعَ الطريق، إلى أن تحين ساعته، فيمضي إلى مآل الناس، منذ كان الناسُ وكان مآلهم المقدّر في منخفَضٍ من تراب.
وماذا أيضاً يا أخي؟ أنذا أكتب عنك، فأكتب عن نفسي، كما لا يليق بكاتب عاقل! أهي الأنانية أم نقص التجربة المباشرة أم بهتان المزاج أم فقدان اللحظة المؤاتية أم كل ذلك جميعاً مضافاً إليه، عدم معرفتي الجيدة بشعرك وأجوائك، فضلاً عن شخصك؟
كلا كلا.. كل هذه تعلاّت يا كمال. فقط ينقصني الاستماع إلى ساعة من الموسيقى الكلاسيك، وإلى زجاجة عرق، وإلى عزلة ووقت، كي أدخل quot;الحالةquot; وأكتب ما يليق بك وبي. فمن أين لي هذا، وأنا أكتب الآن، وسط زحام الموظفين فاقدي الروح، وعلى زلزلة القذائف من نوع 105 ملليمتر، قذائف quot;المركفاهquot;، أعجوبة سلاح البرّ الإسرائيلي، التي تخلخل جدران البناية، وتمرق من فوق رؤوسنا فلا نأبه، وقذائف وأنواع أخرى غيرها، تضربنا بها أخواتٌ من أجيال الدبابات الإسرائيلية المتنوعة، التي لا تني، منذ أشهر، تصبّ علينا جحيم غضبها، نحن العزّل، إلا من إرادة العيش ومن صيانة الأمل؟
كمال سبتي وداعاً، واعذرني أني لم أستطع، بما أكتبه الآن، أن أعطي للاستذكار شكلاً ما، بل ولا حتى: معنى! فإنه لأمر متعذّر، جليل مع هذا، أن ينجح الفنان بذلك، في بلد لا يُتاح بها السكْرُ لا بقناني البيرة الهولندية ولا بالنبيذ الأسباني، لا بالواين الفرنسي الروج، ولا بالعرق الإغريقي، فغزة مدينة أشهى وأعذب الكروم في الإقليم والمنطقة ربما، لا توجد بها كأس بيرة أو حُقّ نبيذ، وإن وجدا، فبأثمان خرافية لا يقدر عليها إلا كلب سلطان أو كاتب سلطان.

وداعاً يا كمال، ووعداً، ربما لا أفيه، وشيكاً، بعودة.