أسامة العيسة من القدس: أصرت ماري اليزا روجرز (1828-1910م)، ابنة إحدى العائلات البريطانية المعروفة، اللحاق بشقيقها توم الذي عين نائبا للقنصل البريطاني في حيفا في منتصف القرن التاسع عشر، وكان عمرها 27 عاما. واتاح لها ذلك المجال، لإظهار مواهبها الأدبية وشغفها للمعرفة، بعيدا عن التقاليد التي واجهاتها كبريطانية عزباء في لك الفترة التاريخية، والتي نتج عنها لاحقا كتابها المهم (الحياة المحلية في فلسطين). ووجدت روجرز نفسها، في فلسطين، في فترة تاريخية مهمة، بالنسبة للعلاقات بين الشرق والغرب، حين كانت الدول الغربية تريد لها موطأ قدم في فلسطين، مستفيدة من نتائج حرب القرم (1853-1856م) التي اندلعت بين الإمبراطورية العثمانية وحلفائها ضد روسيا القيصرية وحلفائها، والتي كان السبب المباشر فيها، اتهام طائفة اللاتين في فلسطين بسرقة نجمة المهد الفضية في كنيسة المهد، مما أثار روسيا التي نصبت نفسها آنذاك حامية للأرثوذكس، واعتبر المؤرخون فيما بعد سبب الحرب تافها ونتائجها عظيمة.
ولان العثمانيين حققوا نصرا في تلك الحرب، فان نفوذ قنصلا بريطانيا وفرنسا في القدس زاد بشكل ملحوظ، لوقوف دولتيهما مع العثمانيين، فرفع العلم البريطاني على دار القنصلية البريطانية بالقدس، وهو أمر مهم في تلك الفترة، ووصل الأمر بالقنصل البريطاني الطلب من متصرف المدينة المقدسة العثماني كامل باشا الاحتفاء بتتويج الملكة فكتوريا، وهو ما تم وأطلقت 21 طلقة تحية لملكة إنكلترا، وهو أمر كان له دلالته في تلك الفترة، وحفز ذلك القنصل الفرنسي ليطالب بما حظي به القنصل البريطاني، ورفع العلم الفرنسي على دار القنصلية الفرنسية، ويمكن فهم مغزى خطوة كهذه إذا علم بأنه في عام 1843م حاول الفرنسيون رفع العلم على قنصليتهم ولكن ماذا حدث؟ المؤرخ عارف العارف يقول بان quot;المقدسيين لم يمكنوهم من ذلك، بل ثاروا عندما سمعوا بعزم الفرنسيين ثورة مضرية، وراحوا إلى العلم فأنزلوه، ثم أخذوه، ومزقوه، وطرحوه على الأرض، فلم يستطع الفرنسيون أن ينبسوا يومئذ ببنت شفة، لانهم كانوا ضعفاء، ولم يكن لهم حول ولا طولquot;.
وفي هذه الفترة وقبلها وبعدها، وصل إلى فلسطين رحالة تلقوا منحا من دولهم لاستكشاف الأرض المقدسة، وتأسست جمعيات اثارية واستكشافية تاريخية، ووضعت كتبا مهمة، اغلبها لم يترجم إلى العربية ومعظمها لم يوضع على طاولة التشريح، ولم ينل ما يستحقه من نقد.
وربما تكون ماري اليزا روجرز، محظوظة بنتائج صراع القوى السياسية في فترة تاريخية فاصلة وحاسمة في تاريخ الشرق الأوسط وعلاقة الشرق بالغرب، ولكنها أظهرت شجاعة نادرة، لفتاة بريطانية، تترك بلادها، لتأتى إلى حيفا، ومنها تجوب المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، وهي تركب وسيلة النقل الشهيرة آنذاك وهي الدواب أو الحنطور، وتدخل المنازل وتحاور الفلاحين والإقطاعيين، وتنقل ما تبوح به النساء والرجال، بعد أن أتقنت اللغة العربية بسرعة وتحدثتها باللهجة المحلية. ورافقت ماري شقيقها توم في لقاءاته المباشرة مع زعماء العائلات المختلفة وفي أحيان كثيرة المتحاربة فيما بينها والمتمردة في أحيان أخرى ضد السلطة المركزية. وكتبت ماري عن الحياة اليومية ومنازل وأسواق وناس يافا، وحيفا، وقرية أبو غوش الاستراتيجية التي تتحكم بالطريق الهام بين القدس ويافا، وخولها هذا الموقع لان تكون لاعبا مهما في أقدار وسياسة الشرق الأوسط خلال القرن التاسع عشر، وعكا، ونابلس، وبيت لحم، والناصرة، والرملة وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية، وتركت مجموعة والتقطت صورا مهمة نشرت فيما بعد من حيفا وجبل الكرمل ومواقع أخرى. ونسجت ماري صداقات مع الزعماء المحليين، خصوصا صالح عبد الهادي، الرجل القوي في تلك الفترة وسليل العائلة الإقطاعية التي هيمنت على المنطقة، وأقامت تحالفات استراتيجية مع قوى إقليمية مثل المصريين أو عالمية مثل الأوروبيين، ودخلت في حروب زعماء إقطاعيين آخرين من عائلتي جرار وطوقان.
ودخلت ماري قصر عائلة عبد الهادي في بلدة عرابة، قرب جنين، في أواخر شباط (فبراير) 1856 وأقامت مع عائلة الشيخ صالح، في قسم الحريم بالقصر وتذكر بان نساء هذه العائلة الإقطاعية المتنفذة كن في شغف لمعرفة كل شيء عن أول امرأة أوروبية يلتقين بها, فطرحن عليها الأسئلة. سألنها، مثلا، إذا ما كانت متزوجة, وبعد أن أبلغتهن أنها كانت عزباء, سألنها عن والدها. وفي إشارة إلى مدى اهتمامهن في معرفة مدى ثرائها والأساس الذي أردن تقدير ثرائها عليه, كان أول سؤالين طرحنها عليها, حسب قولها, هما quot; كم عدد الجمال التي يملكها والدك؟quot;، و quot;هل أشجار الزيتون التي يملكها والدك حديثة العهد ومثمرة؟quot;. ورغم أن البعض سيلاحظ فيما كتبته ماري انه لا يخرج عن النظرة الاستشراقية التقليدية، التي لا تخلو في أحيان كثيرة من تعال، إلا أن ذلك لا يخفي أبدا حبها للبلاد التي جابتها طولا وعرضا، ويوفر ما كتبته استفادة مهمة للباحثين لفهم ظروف تلك الفترة.
وعادت ماري إلى لندن في عام 1859م، وانكبت على تدورين مشاهداتها في كتابها (الحياة المحلية في فلسطين) الذي صدر لاحقا وفي سن 56 تولت تربية أطفال شقيقها الخمسة بعد أن اصبحوا يتامى، وعاشت في لندن مشاركة في الحياة الفكرية والأدبية حتى توفيت عن عمر 82 عاما في 1910.
وبقي كتابها عن الحياة في فلسطين يثير اهتمام الباحثين في الدراسات المقدسية والفلسطينية خصوصا الغربيين حتى الان، وتعتبر الدكتورة آن لوكوود، من جامعة كارولينا الشمالية كتاب ماري إسهاما كبيرا متميزا ضمن أدبيات الرحالة التي كتبت من قبل نساء بريطانيات.
ورأت لوكوود بان كتاب ماري شكل إسهاما، في نقل التفاعلات الحياتية والسياسية في مرحلة حرب القرم على الشرق الأوسط.
وأيضا يمكن أن يشكل كتابها وما يمكن تسميته مغامرتها المثيرة في فلسطين رمزا على تحرر المرأة البريطانية نفسها، التي وجدت نفسها في وضع مختلف في أثناء وبعد حرب القرم.
ويذكر المؤرخ (و0ا0فيشر) في كتابه المرجع (تاريخ أوروبا في العصر الحديث) ما اعتبره فوائد تلك الحرب، ومن بينها quot;أنها خلقت الظروف الملائمة لتحرير الأمتين الألمانية والإيطالية، وحررت مقاطعتين للنمسا بالإضافة لنهر الدانوبquot;.
وليس هذا فقط، فان حرب القرم كانت لها فوائد أخرى هذه المرة لنساء بريطانيا، فالسيدة البريطانية (فلورنس نتينجيل) والتي نشأت في ظروف حياة فكتورية ناعمة هجرت وطنها وتوجهت لمواقع الحرب لتمرض الجرحى.
ويعلق (فيشر) على ذلك قائلا بان هذه السيدة quot;رفعت بمثالها الحي هذا وبنموذجها المتأجج أبان الحرب وبعدها مركز صناعة التمريض بين مواطناتها لعله كان أقوى من أي تأثير فردي آخر، فظفرت لنساء وطنها بحق الدخول في مهن مفيدة جدية، والحق أن عمل هذه السيدة وجرأتها الخارقة في تحدي التقاليد البالية، وانخراطها في عملها الجديد لتخفيف الآلام البشرية هو إحدى المكافآت القليلة التي عوضت عن التدمير والتخريب والتبديد التي أحدثتها حرب القرمquot;.
ومثلها فعلت ماري اليزا روجرز، التي أعلنت تمردها على التقاليد الفكتورية واختارت أن تكون فلسطين، مسرحا لذلك التمرد.