كان الأديب سمير النقّاش أوّل مَنْ نبهني قبل سنوات، إلى ريادة مراد ميخائيل للشعر المنثور (وهوالمصطلح الذي استعمله الرصافي عام 1922)، بالعراق، وأرسل لي فصلاً من أطروحته عنه. لم أستفدْ من الفصل لأنه كان مرقوناً بماكنة طباعة قديمةلم تـتبيّنْ معها الحروف. مع ذلك عرفت أن الرصافي أثنى برسالة إلى محرّر إحدى الصحف، على الشاعر، وصعبت عليّ بقية الرسالة، مما زاد في فضولي.
بعد ذلك طُبعت quot;الأعمال الشعرية الكاملةquot; لمراد ميخائيل عام 1988. وتيسرت لي نسخة. رأساً إلى رسالة معروف الرصافي. مما يبعث على العجب والإعجاب معاً أنّ شاعراً نمطيّاً كالرصافي يهزّه في ذلك التاريخ ، الشعر المنثور فيبعث برسالة إطراء إلى محرّر الصحيفة. (يجد القارئ هذه الرسالة منقولة بكاملها فيما بعد). ماذا لو ان الرصافي حاول هو نفسه كتابة هذا النوع من الشعر، أما كان قد تغير مسار الشعر العربي؟
على أية حال، لم يقف الرصافي موقفاً عدائياً من الشعر المنثور، وهذا هو المهم. والأغرب هو ما جاء في مقدمة قصيدة : quot;نحن الشعراءquot;. فقد ألقى ميخائيل مراد هذة القصيدة ببغداد في مهرجان مبايعة احمد شوقي أميراً للشعراء عام 1927 واشترك فيه : معروف الرصافي، وجواد عليّ، ورفائيل بطّي، وعبد الكريم العلاّف وجميل صدقي الزهاوي، ومحمد مهدي الجواهري، وأحمد حامد الصرّاف، وعبد الرحمن البنّا. ألا يدلّ وجود قصيدة من الشعر المنثور، وفي مهرجان عامّ، بين أهم الأصوات الشعرية النمطية في ذلك الوقت، على اعتراف به أو قبول؟
ليس من هموم هذه المقالة العجلى، بحثُ أية فنيّة في شعر مراد ميخائيل ، وإن تميّزت قصائده عموماً بكثرة اسئلتها الوجودية أوّلا،ً وبنهاياتها الحائرة القلقة. أي أنّ مراد ميخائيل لم يكنْ شاعراً يقينياً، وهذه خصلة لم تكن شائعة في الشعر العربي.
قد يكون من المفيد أن نذكر أنّ التبشير بكتابة الشعر المنثور باللغة الإنكليزية بدأ - أوّل ما بدأ كما يبدو- حينما أدرك إزرا باوند بالذات وبعض مجايليه، بأن الشعر ما انفكّ ينحسر أمام تسوّد النثر منذ صدور رواية :quot; الأحمر والأسودquot; عام 1830 لستندال (1783 ndash;1842)، فقرّرا قراراً غريباّ، يقضي بقراءة النثر قراءة متمعنة، واستنباط أوزان جديدة منه، من النثر نفسه، لا من الشعر. وهكذا كان.
الشئ بالشئ يذكر، يبدو أن الشعر المنثور العربي في بداياته تأثّر بالشعر المنثور المكتوب باللغة الإنكليزية، كالريحاني ورفائيل بطي، وحتّى في مرحلة متأخرة فقد تأثر الماغوط كما يقول البروفسور سامي موريه بإليوت ولا سيّما بأحد مقاطع قصيدة أغنية حبّ جيْ. الفريد بروفروك.
من أمارات استحواذ النثر على اهتمام القرّاء بأوروبا هو لجوء الكتّاب المسرحيين لكتابة المسرح النثري مثل بيراندللو، وإبسن، وتشيخوف، وجيمس جويس.
قد يكون من المفيد تقديم المثلين التاليين للتدليل على الأهمية التي تميز بها كذلك، النثر في اللغة العربية، وما المؤثّر الأول الذي حدا بمراد ميخائيل لكتابة الشعر المنثور. يقول :quot; وقع نظري على مجلة تسمى quot;النفائسquot; التي كان يصدرها طانيوس عبده، على ما أتذكّر. وحينما تصفحت عدداً منها وجدت كلّ عدد منها يحتوي على رواية بوليسية من تأليف كونان دويل. وكان في كل هذه الروايات شخصية أطلق عليها المؤلّف جان ملتون. وفي صغري كان أحد أقاربي يقصّ علينا في ليالي الشتاء قصصاً لهذا الكاتب. فاشتريت المجموعة بأكملها وأخذت أطالعها بنهم شديد. وهذه المجموعة جرّت إلى مطالعاتي في اللغة العربية، ومن روايات بوليسية إلى روايات ذات موضوعات أخرىquot;.
هلْ أثّرت هذه القراءات النثرية في أسلوب مراد ميخائيل الشعري؟ وفي طريقة معالجته لموضوعاته؟
يذكر quot; الباحث العراقي عبد الإله أحمد في كتابه quot;نشأة القصة وتطوّرها في العراقquot; الصادر 1969 quot;أنّ أوّل قصة فنيّة في تاريخ الأدب العراقي الحديث هي قصة quot;شهيد الوطنية وشهيد الحبّquot; التي ألّفها مراد ميخائيل ونشرتها له جريدة quot;المفيدquot; البغدادية في نيسان 1922وهو في السادسة عشرة من عمرهquot;.
لكنْ كيف استدلّ مراد ميخائيل على الشعر المنثور؟ يذكر هو نفسه، الحكاية الطريفة التالية عن طاغور أو كما يسميه تاغور :quot;طالعت جميع كتبه والتقيت به ببغداد عام 1932 وسمعته منشداً قصيدة صوفية باللغة البنغالية وقدّمت له بنفسي قصيدة من الشعر المنثور باللغة الإنكليزية كتبتها بالأسلوب التاغوري وما زلت أطالع كتبه ولا سيّما كتابه البستاني، وقد تعرّفت على هذا الشاعر عندما كنت موظفاً بسيطاً في السكة الحديدية في شمال العراق وكان مدير المحطة بنغالياً من ريف تاغور يحسن الضرب على آلة شبيهة بالكمنجا ويغنّي فكنت أجلس في غرفة مجاورة لسماع أغانيه التي صادفت هوى في نفسي. وسألته عن هذه الأغاني فأخذ يحدّثني عن هذا الشاعر، وأعارني كتاب quot;البستانيquot; لتاغور فاشتريت جميع مؤلفاته التي ترجمها بنفسه إلى الإنكليزية وهكذا أخذت أكتب النثر الشعري كتاغورquot;.
هذه شهادة لا لبس فيها من أنّ هذا الشاعر كتب هذا النوع من الشعر لا تقليداً للشعر المنثور الفرنسي ولا الإنكليزي وإنما بتأثير مباشر من طاغور.لا ننسَ أنّه يمكن اعتبار الريحانيات لأمين الريحاني من أولى محاولات كتابة الشعر المنثورباللغة العربية. كما صدر بالعراق عام 1925 ديوان الربيعيات لرفائيل بطّي. وديوان quot;المروج والصحارىquot; لمراد ميخائيل عام 1931

نبذة عن الشاعر:
(المعلومات التالية، وما سبقها من اقتباسات عن مراد ميخائيل مأخوذة من مقدمة ساسون سوميخ للديوان، وما كتبه الشاعر عن حياته).
ولد الشاعر ببغداد عام 1906. وأكمل فيها دراسته الابتدائية والثانوية والجامعية فتخرّج محامياً من كلية الحقوق عام 1938. عين أستاذاً للغة العربية في ثانوية شماش وكانت أهم مدرسة غير حكومية معنية بتدريس اللغة الإنكليزية، ثمّ أصبح مديراً لها . كان من زملائه في الهيئة التدريسية الباحث المصري بدوي طبانة، وحسين مروّة، ومحمّد شرارة، ومحمّد حسن الصوري. هاجر أو هُجّر مراد ميخائيل إلى إسرائيل عام 1949وهناك حصل على الماجستير في العربية وآدابها، وعلى الدكتوراه وكان موضوع أطروحته، وثائق الجنيزة القاهرية. كتب مراد ميخائيل الشعر الموزون المقفى . ونُشر ديوانه : الأعمال الشعرية الكاملة بعد وفاته. أدناه رسالة الرصافي وبعض المختارات من شعره.

حضرة الفاضل محرّر quot;المصباحquot; الأغرّ
قرأتُ في العدد الثاني والعشرين من جريدتكم فقرةً من رسالة أرسلها إليكم الأديب الفاضلمراد ميخائيل يجوز أن تُعَدَّ بما فيها من المعاني العليا من أرقّ الشعر المنثور، ولقد حوتْ من دقّة التعبير ودقّة التصوير وبداعة الخيال ما يمتلك السمع ويستفزّ النفس ويختلب القلب ويدلّ على شعور راقٍ يلوح لي من خلاله ابتسامَ أملٍ كبيرٍ بمستقبل صاحبه الشعري ومَنْ ذا الذي لايتمنّى لمثل هذا الشعر الحيّ الراقي أنْ يتبلّج صبحه الوضّاح في آفاق العراق. أمّا الفقرة المذكورة فهي:
quot;أنا ليل بكآبتي الخرساء، لا منتهى لسماء خيالاتي
ولا ساحل لبحر تأمّلاتي
في سكوني أذيع مجد الممات، وفي وجودي أعبد الصباح
وأقدّس الفجر.
أغرس في روحي زهَرات مجنّحة من النور تسكب عواطفها
شعاعاً، وأبتدع صوراً سحريّة أعبّر بها عن نوازع نفسي.
الحقد يكدّر صفوي، الضوضاء ترنّق كأسي،
الوحشة ترفع عنّي ستار الغيب
أنا زهرة لا تذبلها سموم الخريف
أنا غصن لا تقصمه عواصف الشتاء
أنا حلم لا تخفيه اليقظة
أنا ضعيف لا يفترسني الأقوياء
لأني قويّ بضعفيquot;
وما أدري هل لصاحبك من الشعر المنثور غير هذا ما يشابهه ويجري مجراه فإن كان فقد بلغ المدى.ومهما كان فقد جئت أعلن للملأ في صحيفتكم الغرّاء أنّي به من المعجبين وبأمثاله في بلادنا من المبتهجين والسلام عليكم.
بغداد في 7 أيلول سنة 1924
معروف الرصافي


من ديوان المروج والصحارى (1931)

الوجوه
تفرّست في أوجه الناس فرأيتُ
وجهاً ذا ألف قناع فقلتُ مراوغ.
ووجهاً تستشف خباياه/ فقلتُ بسيط القلب.
ووجهاً صافياً كالمرآة، فقلتّ جاهل قليل الخبرة.
ووجهاً مجعّداً كصفحة النهر، فقلت حكيم رزين.
ثمّ وقفت أمام المرآة لأرى وجهي ولكنّي لم أجدْ شيئاً
فقلتُ في نفسي هذا لغز يحلّه الناس!

أحلم وأتأمّل
عندما تنام الأزهار تحت أطباق الثلوج
عندما تتجرّد الغصون من الأثمار وتتعرّى من الأوراق
عندما يجمّد الشتاء الجداول البلّورية
عندما تختفي النجوم بالغيوم السوداء
تحلم وتتأمّل من خلال سكونها
تحلم وتتأمّل وهي في عالم من الأحلام
ولكنني أحلم وأتأمّل وأنا في عالم اليقظة،
فاجعلي يقظتي أحلاماً أبدية بجميل ذكراك!

نبي يحتضر

دعوه يموت لتحيى تعاليمه ولا تقاطعوا سكينته بعويل ندمكم!
عذّبتم روحه بضلالكم، وأزهقتموها بأباطيلكم
فسيروا إلى الهاوية
مجروفين بالتيّار، وافترسوا الجبناء
ولا تتركوا آثار دمهم على أظافركم الحديدية
وشفاهكم المصبوغة بالكذبّ
دعوه يعاني من سكرات الموت ليعيش في عالم غير محدود
ويطير في فضاء غير مسمّم بأنفاسكم
بعد أنْ يطهّر روحه بالنار المقدّسة
ويشرب من خمرة الآلهة
ويشاهد بعينيه ما حلم به منذ عصور!


نحن الشعراء
(ألقيتْ في مهرجان مبايعة شوقي أميراً للشعراء في سينما الوطني، وكان شوقي بويع بإمارة الشعر في القاهرة في مهرجان عظيم عقد عام 1927، أمّا مهرجان المبايعة العراقي فقد اشترك فيه أدباء مشهورون منهم: معروف الرصافي، وجواد علي، ورفائيل بطي، وعبد الكريم العلاّف، وجميل صدقي الزهاوي، ومحمد مهدي الجواهري، وأحمد حامد الصرّاف، وعبد الرحمن البنّا.)

عندما ينسج البدر ثوباً فضيّاً للمروج والوديان،
ننسج لأنفسنا ثوباً من الوجد والحنين
وعندما ينثر الليل ما في جيوبه من أحلام،
نستنزل الوحي بألف سكونٍ عميق
وعندما ينشر الصباح ذؤابته على قنن الجبال
وعندما تتفتّح الأجفان المنطبقة
تنطبق أجفاننا المقرّحة بالسهاد
نحن عشاق الحقيقة نحن أبناء الخيال

نحن نعيش وفي عيشنا ألف موتٍ معنويّ
ونموت وفي موتنا حياة لا ترتضي الفضاء حرّية..
ولا الوجود مسرحاً
نحن نبكي لتفترّ الثغور التي غاب عنها الابتسام
ونضحك ليبكي مَنْ أراد أن يستشفّ عَظَمَةَ نفسه
من خلال الدموع
نحن نوالي النفخ في الرماد المتكدّس في موقد الحياة
لنوجدَ من خموده جمرات تلتهم الأشواك
نحن عشاّق الحقيقة نحن أبناء الخيال

هذه بذورنا المطمورة في أعماق التراب مَنْ ينميها بدموع حنانه؟
هذه خمورنا المعتّقة في قوارير أنفسنا مَنْ يشرب منها وينتشي؟
هذه أناشيدنا في فم الطبيعة والحياةِ من يُنْشدها ويرتّلها؟
هذه معازفنا السحرية الأوتار من يضرب عليها أعذب الأنغام؟
قد خُلِقْنا لنبذر ونجعل الناس يحصدون
وقد وُجِدْنا لننتشي ونجعل الناس يستفيقون
نحن عشّاق الحقيقة نحن أبناء الخيالhellip;(مقاطع من قصيدة أطول)