أنتظر الكاتب الفرنسي ميشيل سيمان أكثر من سنتين، درس خلالها، سجلات جوزيف لوزي الشخصية، وشاهد أفلامه وقرأ ما كتب عنها، حتى تمكن من محاورته والسؤال عن حياته، وعن نظرته الى العالم. الحوار الأول وما تلاه من حوارات ولقاءات شخصية وبحث في النصوص التي كتبها لوزي حول تجربته الفنية، كمخرج سينمائي، عمل ما يقارب الأربعين عاما، أنجز عبرها أكثر من ثلاثين فيلما، الى جانب كتاباته حول سيرته الذاتية وتعليقاته على بعض أفلامه ومشاريعه التي كان يخطط لها، وأيضا رسائله الى مساعديه والى من شاركه أفلامه، كلها أعطته أمكانية تأليف كتاب quot;نظرة المعلمquot; (للمؤلف ميشيل سيمان وترجمه للعربيةلين معروف). الكتاب الذي حمل نفس عنوان بحث كتبه لوزي عن الكاتب المسرحي الألماني الكبير بيرتولت بريخت، والذي تأثر به كثيرا. تأثير سيترك أثره في نظرة لوزي الى عالم السينما.
بريخت.. المعلم
منذ لقائهما الأول، وجوزيف لوزي ماأنفك التعبير عن أعجابه بأراء بريخت، الذي عاش فترة من الزمن منفيا في الولايات الأمريكية المتحدة، هربا من الفاشية التي حكمت بلاده. وفيها يقول: quot;خلال قرابة الخمسة والعشرين عاما، تأثرت حياتي وأعمالي ببيرتولت بريخت.. أن عمله وتأثيره ليسا موسومين علي فقط، إنما كانا دائما إذا صح القول، الهواء الذي أتنفسه، كنا ملموسين وفي تطور دائمquot;. وعن عملهما سوية quot;.. ان الكتابة عن بريخت تعني بالنسبة لي الاختيار بين مجموعة من الذكريات، وقد أثر في هذا خصوصا وان الظروف قربتنا مرارا وتكرارا، فتارة جمعتنا المصادفات وطورا التقينا بطريقة متواصلة الى ان عملنا معا دون أنقطاع خلال ذلك العام الأخير 1946 ـ 1947quot;. وأعتبر مشهد تنصيب باربيريني للبابوية في مسرحية quot;حياة غاليليهquot;، quot;مثالا رائعا عن الأسلوب الذي يتبعه بريخت بالجمع بين المسرح والسينماquot;.
مرحى للمضمون الاجتماعي!
أعتبر لوزي، الاهتمام بالمضمون الأجتماعي جزءا من الموقف الأخلاقي للمخرج السينمائي، وهو التزام بذات الوقت. ومن هنا وجد في التقرب من الجمهور خطوة سديدة في أفشال مشاريع رجال أعمال الصناعة السينمائية. تجسد موقفه هذا في فيلم quot;تحقيق المفتش مورغانquot; الذي ركز لوزي أهتمامه على مضمونه أكثر من موضوعه، كما صرح بنفسه. هذة quot;الأفكار الخطرةquot; سيتهم بها لوزي أثناء التحقيقات التي كانت تجرى في هوليود أبان فترة وجود لجنة النشاطات المناهضة للولايات المتحدة. لم يجد في هذة التحقيقات غاية سوى تصنيف الناسquot; كل ما يهمهم تصنيف الناس، أنت شيوعي، أو لست شيوعيا، تنتمي الى اليسار أو لست من حزب اليسار، أنت أمريكي أو ليس أمريكيا ولكن لاتوجد قط عبارة ماهو تفكيرك أو صدقا بم تفكر؟ إن كنت شيوعيا فما المقصود بذلك؟quot; ويعري الغايات من وراء الصاق هذة التهم بالفنانين.. quot;ان عشنا في حالة خوف، فلن نتمكن من الإبداعquot;.
مواطن عالمي
دفع لوزي ثمن مواقفه الشجاعة من كل أشكال اللاعدل والأضطهاد الفكري، بهجره موطنه الأصلي، أمريكا، مكرها ليعيش في أوربا سنوات طوال، أنجر فيها أكثر أعماله السينمائية قيمة وذاع صيته هناك. عاش لوزي في فرنسا وايطاليا وانكلترا وقد وصفه أحد كتاب مجلة quot;دفاتر السينماquot; عندما تناول حياته: أولا انكليزي في أمريكا وأمريكي في إنكلترا. لقد أثمرت تجربته الأوربية عن فهم أفضل للسينما quot;.. أعيش حاليا في أوربا بشكل دائم تقريبا بعد ان قضيت في انكلترا اثني عشر عاما متتاليا تمكنت خلالها من اخراج ضعفي الأفلام التي أخرجتها خلال السنين الخمس التي عشتها سابقا في هوليودquot;. عاش لوزي قرابة ثمانية أعوام في فرنسا وكان ممتنا لها وأعتبرها مكتشفته التي حقق فيها بعضا من أعظم نجاحاته. لكن نظرته القلقة عنها لم تختف، وفيلم quot;السيد كينquot; تعبير عن قلق رجل معذب كان يصور فرنسا شبحية ومؤسلبة. وفي ايطاليا أحب فيسانس حيث صور quot;دون جوفيانيquot; والبندقية مكان تصوير quot;أيفاquot;. ورغم انه أحب انكلترا وتنمى الموت فيها إلا أن التفكير بأمريكا لم يتوقف. وتجسد في فيلمه quot;لاتستطيع العودة الى بلدكquot; لتوماس وولف. ظل الصراع الجواني بين حنينه وأوطانه الجديدة متأججا quot;.. كنت أشعر أثناء ستة وعشرين عاما قضيتها في الغربة بأنني أمريكي تقنيا، وبقيت أشعر بذلك على الرغم من أنني لم أجن من هذا الوفاء أي فائدة، انما على العكس لم أحظ سوى بالمتاعب. إذ قدمت لي انكلترا وفرنسا والعالم الغربي بأجمعه، بأستثناء أمريكا الشمالية أكثر من وطنيquot; ومن هنا جاء أنحيازه الى كونيته quot;.. أنا لا أنتمي الى بلد معين ولا أشعر بالغربة في أي مكان في العالم. أن ازالة الحواجز الوطنية وتهجين العالم لابد ان يكونا أحدى الوظائف الأساسية للأفلامquot;.
أفلام ومراسلات
أشتهر لوزان بنشاطه وحيويته بالرغم من الاحباطات الكثيرة التي واجهته في عمله. والمراسلات التي جمعها المؤلف توضح الحيوية التي تمتع بها حتى أواخر عمره. وكتاب quot;نظرة المعلمquot; في حقيقته كتاب ملاحظات وأراء لوزي أكثر منها سيرة حياة فنان. quot; كان يراقب بنظرات quot;يقظةquot; نظرات المعلم، جميع المراحل التي يمر بها اخراج الفيلم السينمائي فيدخل تعديلات على عمل مساعديه ويقترح أفكارا جديدة وينقح الأخطاء والتفاصيل الصغيرة التي من الممكن ان تتخلل السيناريو أو التصوير أو ادراة الممثلين أو المونتاج، إذ كان يساوره قلق دائم ان تشوب الفيلم أخطاء صغيرة أثناء العرضquot;. من الأشياء المثيرة في تاريخه الفني أن فيلمه quot;الصبي ذو الشعر الأخضرquot; يعد أول فيلم طويل بالألوان أحتظنته هوليود. ومنه أنطلقت نبوءة لوزي بقدوم عصر الفيلم الملون، وصيحته عام 1948 quot;أنظري يا أمي لقد أنتهى عصر الأبيض والأسود!quot; أكدت توقعه. وعن الانتاج الخاص يقول quot;.. في فيلم quot;الخادمquot; إذ تمكنت للمرة الأولى في حياتي من القيام بدور منتج لهذا الفيلم بالمشاركة مع نورمان بريجين وقد سار هذا العمل بشكل أفضل من جميع الأعمال التي عرفتها سابقاquot;. ونكتشف عمق ملاحظاته على سيناريو هارولد بينتر لفيلم quot;الوسيطquot; الى جانب رسالته الى رومي شنيدر ومشاركتها في فيلمه الشهير quot;اغتيال تروتسكيquot;. وتعليقاته على فيلمquot; دون جوفيانيquot; المقتبس من أوبرا كتبت عام 1787 تعطي فكرة عن حماسته في نشر الموسيقى quot;.. أحد الأهداف الأساسية لعملنا هو توصيل هذة الموسيقى بسهولة لأكبر جمهور ممكن، لكل أولئك الذين يحبون الأوبرا ولا يستطيعون ان يروها أو يسمعوها على المسرح الا نادراquot;. ويستغرب المرء من انتباه لوزي لأدق التفاصيل وحتى لخصوصيات العاملين معه. فعندما أقترح أسم ريتشارد بورتون للعب دور القنصل في فيلم quot;تحت البركانquot; أراد التأكد بنفسه من حالته العقلية والجسدية قبل ان يتعهد بمسؤليته عن هذا الاختيار. وبقدر ما حقق من مشاريع فأن أخرى ظلت أحلاما ولم تر النور، منها مشروع فيلم عن ابن سعود.
عاش جوزيف لوزي ( 1909 ـ 1984 ) حياة زاخرة بالتنوع، بالنجاحات والأخفاقات، لكنها بحق حياة مخرج سينمائي، ترك بعد وفاته عشرات الأفلام وجمع في شخصيته كما في أفلامه بين اللطف الجسدي والجمالي، جمع بين السينما الأمريكية والأوربية، فمن شاهد فيلمه quot;حادثquot; لن يصدق ان مخرجه أمريكيا وليس انكليزيا.
التعليقات