..الدفء والقسوة الباردة والفساد المسيطر

بيروت من جورج جحا(رويترز): في أجواء رواية الكاتب التركي الشهير يشار كمال التي ترجمت الى العربية وحملت عنوان quot;صفيحةquot; يرسم الكاتب بقدراته الكبيرة المميزة عالما ريفيا منسوجا بخيوط من الدفء الانساني والقسوة الباردة ويجري فيه الفساد كنمط حياة مسيطر. وفي عالمه الريفي سمات من تلك التي تتسم بها مجتمعات العالم الثالث واجواء تحكم المقتدرين الكبار والصغار في بعض بلدان امريكا اللاتينية وغيرها. وفي ذلك العالم الريفي الزراعي يجري استغلال طيبة الطيبين وافسادهم فاذا قاوموا الفساد تحولوا الى ضحايا وشوهت سمعتهم وظهر الفاسدون المفسدون في ثياب الشرف والاستقامة المزيفين.
الرواية التي ترجمها الى العربية عبد القادر عبد اللي وجاءت في 118 صفحة متوسطة القطع صدرت عن دار quot;المدىquot; للنشر في دمشق. اسم يشار كمال الحقيقي هو كمال صادق غوجلي. وقد ولد سنة 1922 وتقلب في مهن متعددة بلغت 40 مهنة بعد ان ترك الدراسة في الصف الثالث الاعدادي. ومن تلك المهن عامل بناء وكاتب وناطور ماء في مزارع الارز في منطقة تشيكوروفا التي تجري احداث الرواية فيها كما عمل في اسطنبول في الصحافة كاتبا وشريكا في اصدار مجلة وغير ذلك. وجاء في التعريف به في المقدمة انه يعتبر quot;رائد ما سمي الادب الريفي وكتب الاساطير الاناضولية. استخدم لغة تتعدد فيها اللهجاتquot; وقيل عن ادبه بحق كما يظهر في هذه الرواية وغيرها بأنه يمتاز بلغة شعرية عالية المستوى وخاصة في وصفه للطبيعة.quot;
تتحدث الرواية عن قرية تركية ضغيرة تسيطر عليها بقسوة واستغلال واستبداد مجموعة من مزارعي الارز الذين افسدوا القرية لخدمة مصالحهم مدعين ان زراعة الارز هي واجب قومي لمساعدة جيش الوطن. تبدأ الرواية بصراع مسرحه نفس رجل مسن ضعيف يسعى الى تحاشي المشكلات لانه سيتقاعد بعد اشهر. لكن الرجل اي رسول افندي شريف صاحب ضمير ومحافظ على القانون.
نقرأ السطور الاولى في الرواية quot;ليس ثمة قائمقام في البلدة منذ ثلاثة اشهر. يقوم كاتب الديوان رسول افندي بالوكالة. لا فرق بين وجوده او غيابه.. انه رجل مسن ضئيل يخاف من ظله ولا يمكن القيام بأي عمل مع هذا الرجل. حل شهر نيسان وبدأت المراجعات للحصول على تراخيص زراعة الارز...quot; وفي ذلك جني ثروات طائلة بطرق غير شرعية عبر الاحتيال والتزوير وحتى القتل. ورسول افندي الطيب الشريف الذي لا يمكن ان يشتريه احد يبتعد عن ذلك كله.. لكنه في عمق اعماقه يتمنى القضاء على الشر.انه يبتعد عنه ولا يغني له بل يصلي من اجل زواله. يتعرض للتهديد والاهانات والاشاعات.
ويأتي الخلاص بالنسبة الى رسول افندي من خلال تعيين قائمقام جديد. انه شاب في مقتبل العمر تخرج من الجامعة وجرى تعيينه في المنصب عقب تخرجه من الجامعة. هو رجل مثقف مثالي طيب القلب وامثاله يعتبرهم الطواغيت الصغار الذين يعرفون باسم quot;الاشرافquot; صيدا سهلا يسيطرون عليهم من خلال اغداق العطايا والكلمات المعسولة عليهم. اتى الى المكان وفي ذهنه فكرة عنه رهيبة quot;ثمة خوف في داخله. ما اكثر ما حكوه عن بلدات الاناضول اسندت ظهورها الى تلال وسط السهول المترامية الاطراف. وهي عدة بيوت طينية السقوف لا ماء فيها. تدفن بالثلج شتاء. في الصيف تعج بالغبار. معزولة. بعد ذلك صراع مع الاغوات واللصوص وقطاع الطرق. حين تذكر انسان البلدات يتجلى امام عيونكم ذوو السراويل العريضة الوسط والشوارب المعقوفة حاملو المسدسات العدوانيون.. خاصة ما شرحوه له عن الاشراف...quot;
القائمقام الشاب فكرت ارتعلي المثقف المتحرر الحالم الذي كان دون وعي منه يصفر لحنا من احدى سيمفونيات بيتهوفن.. كانت له احلام لتطوير البلدة. قبل وصوله اعد له افضل بيت فخم رائع الفرش هو افضل بيت في البلدة ويملكه احد كبارها. وعند وصوله استقبل استقبال الملوك وانهالت عليه المدائح وانواع التملق والاغوات بارعون في ذلك. في استقباله quot;ركب في السيارات اغاوات زراعة الارز والموظفون مرتدين افضل ملابسهم وركب الحافلات شباب البلدة والمرددون والهتافون quot;عاشquot;.. quot;تسلمquot; باستمرار. فوق الحافلتين ركب الطبالان اللذان يقرعان طبليهما دون انقطاع.quot;
قد نتذكر هنا قول جبرا ويل عن الامة التي تستقبل الحاكم القادم بالتطبيل والتزمير وتشيع الراحل بالصفير والتزمير. تسابق الاشراف الى فتح باب سيارة الشرف له. فتح احدهم الباب قائلا quot;تفضلوا يا سيدي يا سيدنا القائمقام. يا حبيبنا قائمقامنا.quot;
ولكثرة الاكرام والتملق دهش الشاب وقال لمن معه في السيارة quot;لا تؤاخذوني. انا منفعل جدا جدا جدا.. انا مندهش. ارتبط لساني. عرّفوا لنا الاناضول بأنها جهنم. مع ان هؤلاء الناس الان كل منهم كأخي او ابي... لا اصدق لا اصدق. الانسان يقدم روحه لهؤلاء الناس ولا يقدم لهم خدمات فقط. حتى الروح.quot;
استغلوا طيبته طويلا وسرت الشائعات الى ان قرر رسول افندي ايضاح الامر له سرا وإثر تظاهرة للفلاحين الفقراء احتجاجا على اغراق حقولهم بالماء ثار الشاب وواجه الاشراف. ودارت معارك بين هؤلاء والفلاحين الى ان اشترى الاشراف املاك قرية الفلاحين باستثناء متمرد واحد.. فخمدت ثورة هؤلاء وتخلوا عن دعم القائمقام. صدم الاشراف في بادىء الامر وما لبثوا ان خططوا لهجومهم المضاد. في النهاية وقع ما حذره منه رسول افندي. جاء قرار بنقل القائمقام الشاب بعد الوف الرسائل والبرقيات الكاذبة.
وضع رأسه بين يديه وسأل رسول افندي قائلا بألم quot;كيف؟ كيف يحدث هذا يا سيد رسول؟ كيف يمكن لهؤلاء اللصوص ان يفعلوا هذا؟quot; يقول الكاتب quot;انمحى كل شيء من حوله. بقي وحيدا تماما في عالم واسع جدا. سقط في ظلام مخيف.quot; ثم سأل رسول افندي الذي سيكون وكيلا للقائمقام quot;لا فائدة من الاشتغال بهم والكفاح ضدهم. اليس كذلك؟quot; رد صديقه الطيب الضعيف quot;لا فائدة يا سيدي.quot;
ودعه الناس تقليديا كما يودعون غيره بقرع الصفائح. ترك وراءه قلبا احبه هو قلب رسول افندي العاجز. لكن بينما كانت السيارة في الطريق الى خارج البلدة قفز امامها رجل ولما توقفت بسرعة انكب هذ الرجل على يده مودعا. انه المتمرد الوحيد الذي رفض بيع ارضه كسائر القرويين الذين كانوا يحثونه على المقاومة ويعيبون عليه كما قالت امرأة ذات منزلة فيهم انه تحول الى خصيّ. كان الرجل قد طورد سنوات في السابق والتجأ الى الجبال بسلاحه لكنه لم يعد يرغب في المغامرة ومع ذلك فقد ثار ووجد نفسه وحيدا مثل القائمقام.
قال الرجل محمد علي الكردي وهو يقف في وسط الطريق quot;مع السلامة. على عيني وعلى راسي يا قائمقامي.quot; في البداية انعقد لسان الشاب الذي لم يجد من يتعاطف معه سوى رجل طيب جبان وثائر ظن انه يستطيع التقاعد والهرب. لكن quot;بعد زمن فكت العقدة في بلعوم القائمقام. ابتسم لنفسه وقال.. محمد علي. محمد علي. محمد علي.quot; القائمقام الشاب quot;كان يبتسم. بعد ذلك بدأ بالصفير. كانت هذه المعزوفة التي يعزفها دائما ونسيها.. من السيمفونية التاسعة.quot;