رحل عبد الأمير الورد، الدكتور والجامعي والشاعر والممثل المسرحي. في خريف العام 1984 درّسني الدكتور عبد الأمير الورد مادة النحو، ومذ ذاك صارت علاقتي به تتخذ أبعاداً يوماً بعد يوم. كان يحملنا بقسوة أكاديمية على ألاّ ننظر إلى النحو مطيّة للكلام الصحيح، بل كان يرغب رغبة يائسة في أن يجعل من تلامذته ذوي فطرة كلامية فصيحة غير فطرتهم العامية. والجميع يعلم أنه ما كفّ عن الحديث بالفصيحة في كلّ شؤون حياته. كان هوسه هذا يلفت إليه الانتباه أنّى حلّ وارتحل، وكان مثار سخرية بعضهم ونقمة بعضهم الآخر أيضاً بمن فيهم أغلب أساتذة قسم اللغة العربية في كلية الآداب - جامعة بغداد. هؤلاء الأساتذة كانوا يرون فيه شذوذاً، إذ كان يُفترض أن يكون مدرّس النحو، كغيره من مدرسي النحو الآخرين، ذا نزعة محافظة في كلّ شيء، فما بالك بعبد الأمير الورد الشاعر والممثل المسرحي. بعد عام الدراسة ذاك، أٌقصي الراحل إلى قسم الإعلام ليدرس العربية لغير الاختصاص، وليحرم من ممارسة تخصصه العميق بدعوى قسوته الأكاديمية على طلاب اللغة العربية، ورسوب نصف الصف الدراسي في مادة النحو. ما كان الراحل يخشى لومة لائم في هذا المجال، وكان عنيداً بشكل لا يمكن ثنيه عن قسوته الأكاديمية، وما زلت أتذكر احتجاجي عليه وصمته أمامي حين قلت له: إنك بهذه القسوة ترسل الطلبة إلى جبهات القتال.
عاش عبد الأمير الورد يحلم بأشياء كثيرة، يرى إلى نفسه موهوباً مُضيَّعاً وسط قيم تعليمية يراها بالية؛ ولذا لم يجد مكانه الحقّ في الوسط الأكاديمي، ووسط زحمة تنافس الشعراء على مديح الطاغية وعلى مكاسب مادية، ولذا لم يجد مكانه بين الشعراء، وكنتُ كلما مازحته بأن ديباجة أشعاره العمودية الكاسحة ستؤمن له ثروة طائلة لو صرّفها في سوق المديح الجديد الذي افتتحته حرب صدام على إيران، كان يردّ عليّ ببيتيه الشهيرين بين من عرفوه عن قرب:
المجدُ للممسكين النفس عن عرضٍوالمهلكيـها إذا مـا استفحلتْ إزمُ
والعائدين على عُـدْمٍ ومسـغبةٍ من منهبٍ وعفافُ الكفِّ مـا غنموا
وكان هناك المزيد من أشعاره التي يحفظها عن ظهر قلب، ويقرأها بصوته المتحمس والواثق. أشعار ما زلت أستطيع استحضار أجوائها وأسلوبها، وهي مشبعة بمعان إنسانية سامية، أما لغتها التي تقوم على معرفة رصينة بأساليب الشعر العربي فهي تراوح بين تلك اللغة الجزلة الفخمة للقصائد العمودية التي بلغ بها الجواهري الذروة، واللغة المتأملة التي يهيمن عليها هاجس معالجة قضايا الوجود والفكر في القصائد الحرة. وإني لأستثمر هذه الفرصة لأدعو وزارة الثقافة واتحاد الأدباء والكتاب بالعراق إلى الاهتمام بأشعار الراحل الورد وجمعها وطبعها في ديوان هو أبسط عرفان نزجيه له بعد وفاته.
منذ العام 1984 حتى العام 1996، عام مغادرتي العراق، لم تنقطع صلتي بالراحل انقطاعاً نهائياً، فتلك السنوات إنما هي سنوات الدراسة الأكاديمية الممتدة، وكان يجمعنا المكان (الجامعة) كلّ حين، ولم أختبر في نفس الراحل غير المحبة وهذا الفيض الحميم من المشاعر التي يكنها إلى أصدقائه وتلامذته والأساتذة في قسم اللغة العربية. بل كان يحدثني عن ميزات كلّ أستاذ من أساتذة القسم، ولم أسمع منه تجريحاً بأحدهم قطّ. مرة كنا نتجاذب أطراف الحديث أمام مبنى القسم في كلية الآداب، ورأيتُه فجأة ينحني إلى أحدهم انحناءة إجلال مشفوعة بتمتمة quot;السلام عليكم ورحمة الله وبركاتهquot;، إلتفتُ إلى الخلف لم أرَ أحداً معيناً يحيّيه بكل هذه الانحناءة وهذا التبجيل، سألتُه لمن يوجّه هذه التحية دون أن يردّ أو يراه الشخص الذي يحييه، فأشار إلى شخص بعيد وقال: ذاك إمام اللغة فاضل السامرائي. كانت هذه طريقته في تقدير زملائه وأصدقائه، وكانت تفعل فعلها الإيجابي في نفوس تلامتذه، وتزرع في نفوسهم هذا الإكبار للمعلم والعلم والتعليم.
في العام 1998، أسعفني القدر برؤية الراحل في الأردن، كان في وضع المخذول. الحصار بكل معانيه دمّر بقية الحماسة التي عهدتُها فيه، وانسداد الآفاق المزمن أحبط آماله في كلّ شيء. لا يميّز حالة عبد الأمير الورد لديّ أيّ شيء أكثر من صوته، وحينها كان مجهداً ومستكيناً. حينها كنتُ أعمل في جامعة ناصر الليبية، إقترحتُ عليه السفر إلى ليبيا للعمل هناك، وافق دون تردد، وأمّنتُ له طريقاً إليها، وبقي فيها مدة يلاحقني بالشكر الذي يُخجل، والوعد بعدم نسيان ما فعلتُ، يكرر ذلك بمناسبة أو بدونها، متجاهلاً إيماني بواجب التمليذ أمام أستاذه. ثمّ تغير حاله فانتقل إلى اليمن وعمل هناك مدة حتى عودته إلى العراق بعد سقوط صدام.
في أيّار 2006 الماضي، زرتُ العراق وقضيّت خمسة أيام في بغداد. أمّن لي الصديق ناظم عودة اتصالاً هاتفياً مختصراً بعبد الأمير الورد، لا شيء يميّز حالته لديّ أكثر من صوته، جاءني صوته منكسراً مرة ومتقطعاً مرة وباكياً مرة، قال لي: quot;لا تعد إلى العراق، هذه آخر نصيحة أقدمها لكquot;، ثم أردف شاكراً إياي الشكر الذي يخجل، والوعد بعدم نسيان ما فعلتُ. وكانت تلك آخر ما سمعتُ منه. سيستأنف عبد الأمير الورد حياته في الوجدان والذاكرة، الذاكرة الراهنة لتلامذته، والذاكرة الممتدة للغة العربية.
- آخر تحديث :
التعليقات