شهد العراق الحديث تغييرين اساسيين. الاول تمثل بالاطاحة بالنظام الملكي بثورة تموز عام 1958 والتي قادها الزعيم عبد الكريم قاسم واعلان النظام الجمهوري بدلا عنه، واما التغيير الثاني الذي جاء بعد خمسة واربعون عاما من الاول فقد تمثل بالاطاحة بنظام صدام- البعث الديكتاتوري واحلال النظام الديمقراطي بدلا عنه. ورغم المدة الزمنية الطويلة نسبيا مابين التغييرين الا ان الاعلام العربي اتخذ موقفاً واحدا ًومتشابها اتسم بالسلبية والمناكفة رغم اختلاف آلية التغيير في كل واحد منهما. فالاول تم بأرادة وآلية عراقية خالصة والثاني تم بآلية دولية وارادة ورغبة عراقية جامحة.
ولقد مثلت اذاعة (صوت العرب) التي تبث من القاهرة موقف هذا الاعلام من ثورة تموز عام 1958 حيث ناصبت القيادة السياسية العراقية الجديدة العداء ووفرت الغطاء الاعلامي لحركة التمرد التي قادها العقيد الشواف في مدينة الموصل ضد قيادة العهد الجديد مثلما يوفر الاعلام العربي اليوم من خلال (الجزيرة) غطاءاً اعلامياً كثيفاً لعملية التمرد الحاصلة في مناطق معروفة من العراق. وفي الحالتين كانت العملية السياسية وتحديدا عملية التحول الديمقراطي مكشوفة الظهر لانها بلاغطاء اعلامي عراقي كافٍِ مما جعلها فريسة سهلة الانقضاض بالنسبة للاعلام العربي المدعوم من تحالف الدولار- نفط والمتمرس بإثارة الفتن وترويج الاشاعات لطمس الحقائق من أجل تأجيج النزاعات الداخلية بين ابناء الوطن الواحد وذلك بالوقوف مع شريحة ضد آخرى كما حدث قبل عدة شهور عندما اصطفت القناة المذكورة مع احزاب المولاة ضد احزاب المعارضة في لبنان. ولئن ظهرت اسماء لبعض الاعلاميين العرب في يومنا هذا تمثل الوجه القبيح للاعلام العربي وموقفه المنحاز ضد التغيير الجديد في العراق فأن ( احمد سعيد) والذي بح صوته وهو يقرأ بيانات التحريض على ثورة قاسم في حينها مثل ابرز الاعلاميين العاملين في (صوت العرب) المناكفة لعملية التغيير. وما اشبه الليلة بالبارحة اذ لم يتورع الاعلام العربي الحالي عن تشويه الحقائق وبث الاخبار المحرفة والمبالغ بها في الشأن العراقي عملا ً بمنهج احمد سعيد الذي كان سباقا الى ذلك والذي طالما اذاع اخباراً مفبركة حتى ما عاد يفرق بين المفبرك منها في دوائر المخابرات بقصد معاداة عملية التغيير وبين ما كان يرسله اليه العراقيون للسخرية منه كما في حادثة (حسنة ملص) الشهيرة يوم سربوا اليه خبراً عن قيام انتفاضة في الموصل بقيادة الرفيقة (حسنة ملص) وراح احمد سعيد بصوته المبحوح يقرأ الخبر مما جعل منه ومن اذاعته موضع تندر وسخرية العراقيين. ويبدو ان اشقائنا المصريين استمرؤا الحالة (الملصية) حتى اصبحت افتتاحية (الاهرام) الجريدة الرسمية وافتتاحيات بقية الصحف القومية حول الشأن العراقي الراهن من نوع (الملصوية) نسبة الى طيبة الذكر الرفيقة حسنة ملص.
ان اذاعة خبر انتفاضة ( حسنة ملص) لهو مثال من بين عشرات الامثلة على عدم الدقة وغياب الموضوعية والحيادية في نقل المعلومة الخبرية وهو المرض الذي يعاني منه اغلب الاعلام العربي في وقتنا الراهن مع فارق بين زمن احمد سعيد وبين زمن (الجزيرة) التي تحمل نفس اجندة اذاعة (صوت العرب) المصرية في حينها. ان الاعلام العربي يتعامل اليوم مع عملية التحول الديمقراطي في العراق بنفس الطريقة التي تعامل بها سابقا مع العهد القاسمي. والسبب في ذلك يعود لتشابه اجندة هذا الاعلام والناتج عن التشابه بين حالتي التغيير.
ان اوجه الشبه بين التغييرين تتمثل في انهما هزا اسس النظام السياسي الذي قامت عليه الدولة العراقية وفسحا المجال امام المشاركة السياسية لكل العراقيين ووجها ضربة قوية للفكر القومي الشوفيني الطائفي. وانهما ركزا على شعار العراق اولا، وجعلا مصلحة العراق والعراقيين قبل كل شئ، كما انهما اوقفا عملية سرقة ثروات العراق المنظمة باسم فلسطين والامة العربية مما ادى الى رفضهما من قبل القوى الطائفية والعنصرية.
فالتغيير الاول رفض لان قائده هو الزعيم قاسم ابن كيفية وكيفية اختلفوا في امرها فمنهم من عدها كردية فيلية ومنهم من اعتبرها عربية تميمية لكن الشئ المتفق عليه انها شيعية. ورفضوا التغيير الجديد ايضا لانه أتى بعبد الزهرة وعبد الحسين وكاكا ئوميد يشاركون الاخرين في الحكم بعد ان كانوا مهمشين. التغيير الاول نعيش هذه الايام ذكراه الثامنة والاربعين وما يزال موضع جدل فبينما ينظر اليه اغلب العراقيين نظرة افتخار وتقدير نجد ان الاعلام العربي يسعى الى طمس معالمه ولا يعامله كتغيير كبير كما عامل ثورة يوليو الناصرية.
اما موقف الاعلام العربي من التغيير الجديد ومما يجري في العراق الان فحدث ولا حرج حيث شحذ العرب كل سكاكينهم الاعلامية ضده وتحولوا الى طرف اساسي في الصراع الذي نشأ بسببه ويدل على ذلك التقارير الاخبارية المعدة باقلام عربية منحازة لطرف عراقي معروف رغم ان بعض اصحاب هذه الاقلام يعمل في وكالات انباء عالمية محترمة كـ(البي بي سي) و(رويتر) التي ما عاد بوسع المرء ان يفرق بين اخبارها وبين اخبار اي فضائية او وكالة انباء عربية بسبب التغطية المنحازة.
ماهو السبب الحقيقي ياترى وراء موقف الاعلام العربي هذا من عملية التغيير في العراق سواء التغيير الجمهوري او التغيير الديمقراطي؟
قد يُجاب على هذا التسائل بالقول ان السبب هو كراهية العرب لامريكا راعية التغييرين. لكن هذا الجواب غير دقيق اذ امريكا تواجدت بالعراق بشكل مكثف بعد انقلاب 1963 الذي اطاح بقاسم والذي نفذه البعثيون وقد افصح عن ذلك احد قيادي هذا الانقلاب المشؤوم يوم قال ( جئنا الى السلطة بقطار امريكي). والمعروف ان امريكا لم تكن مع قاسم في ثورته ضد النظام الملكي بل كانت تقف موقف المتفرج والمراقب لما ستؤول اليه الامور وتحولت ضده حينما اكتشفت ميوله اليسارية وتقربه من الاتحاد السوفيتي السابق وسياسته النفطية الوطنية التي شبهت بسياسة مصدق في ايران واصداره لقانون رقم 80 الشهير فدعمت الانقلابيين البعثيين الذين اعترفوا لها بالجميل. ثم عادت امريكا ذاتها لتنهي حكمهم في عهد صدام بعد ان تحولوا الى خانة الانظمة الارهابية المتعاونة مع القاعدة كما اثبتت مؤخرا الوثائق ذلك.
اذاً ما هو السبب الحقيقي لموقف الاعلام العربي السلبي من التغييرين؟ في تصوري انه سبب طائفي محض وان لم يصرح عنه. وتعالوا معي لنسبر اغوار هذا الزعم لنرى مدى صحته من عدمها ولنبدأ بثورة قاسم التي مثلت التغيير الاول وما افرزته من واقع جديد ادى الى تغيير المعادلة السياسية الطائفية التي حكمت العراق منذ تأسيسه عام 1921. اذ شيدت الدولة وفقا لاتفاقية السير بيرسي كوكس_ عبد الرحمن النقيب التي منحت امتيازات للاقلية السنية على حساب تهميش الاكثرية الشيعية العربية لاسباب معروفة.
واستمرت الاقلية تتحكم بالاكثرية بمساعدة قوات الاحتلال البريطاني الى ان جاءت الثورة القاسمية التي الغت هذا الامتياز وبدأت تُؤسس لمبدأ المواطنة والشراكة السياسية الذي يعني مساواة الجميع في امتيازات الحكم والسلطة وفي الحقوق والواجبات مما اثار حنق العرب الذين كانوا ينظرون الى العراق على انه بقرة حلوب لهم وبذلك شكلوا وما زالوا يشكلون عمقا طائفياً للطائفة التي كانت تتحكم بالعراق وتوزع عليهم ثرواته اي انها خدمة متبادلة وفقا لسياسة التخادم اعطيك نفط العراق على ان تدعم بقائي في الحكم وهذا هو السبب الرئيسي وراء اعتناق اغلب سياسيي ومثقفي الاقلية للفكر القومي وتباكيهم على عروبة العراق كغطاء لدافع طائفي غير معلن ، رغم ان نسبة غير قليلة منهم من اصول غير عربية بالمرة وهذا ما تشير اليه القابهم الاسرية.
وهناك شاهد تاريخي يدعم زعمنا هذا هو مادار من حوار في القاهرة بين عبد الناصر وعبد السلام عارف قائد انقلاب 1963 يوم سئله ناصر عن نسبة الشيعة والاكراد في العراق فأجابه عارف بالقول: (ان نسبتهم ليست اكثر من ابناء الامة العربية ) فتبسم حينها ناصر لهذه الاجابة ذات المغزى الواضح. ولعل هذا ما يفسر لنا ميل الاقلية دائما للاستقواء بالجار العربي ضد اشقائهم في الوطن الذين يختلفون معهم في الانتماء الطائفي. وفي اعتقادي ان هذا هو السبب الحقيقي وراء دعوة عبد السلام عارف الى الاتحاد الفوري مع الجمهورية المتحدة وقتها وذلك من اجل التغلب على عقدة الاقلية تجاه الاكثرية، وبكلمة اخرى فان الدافع الاساسي كان طائفيا لا غير.
السيناريو ذاته يتكرر اليوم بعد عملية التغيير الثانية التي انهت حكم الطائفيين في العراق والى الابد كما حاول التغيير الاول انهائه. ولئن كانت اذاعة (صوت العرب) تمثل الاعلام العربي المعادي للنظام السياسي العراقي الجديد في وقتها فان الاعلام العربي اليوم ممثلا بـ( الجزيرة) ومعها عشرات الفضائيات ومئات الصحف والمجلات العربية والآف الساعات من البث الفضائي يقف ضد النظام السياسي الديمقراطي الجديد الذي اتت به عملية التغيير ولنفس الدافع الطائفي والقصة باتت معروفة للجميع كيف ان هذا الاعلام الطائفي تحول الى ممثل باسم الارهابين وكيف راحت تتسابق شاشاته لعرض حفلات ذبح العراقيين عبر اشرطة الفيديو التي يرسلها الذباحون. وكيف ان الاقلية راحت تستقوي كعادتها بهذا الاعلام ضد الاكثرية من ابناء الوطن التي ما انفك الاعلام العربي يشكك بعروبتها بالرغم من ان عروبة العراق تتأتى اصلا ً من عروبتها ويتهمها بالعجمة تارة وبالتبعية لايران وذلك لاسباب طائفية بحتة تارة أخرى فيما مايزال بعض العرب يعتزون بالعثمانيين ويتشرفون بالانتماء إلى عجمتهم. والمفارقة انه بقدر ما كان العربي عثمانيا كان قحا في قبائل العرب.
اذا هي الطائفية المقيتة التي تجعل من ذبح انسان عربي شيعي منقبة وبطولة لانه من مذهب غير مذهب القاتل الذي ينتمي الى نفس طائفة الاعلام العربي فيالها من ازدواجية وياله من اعلام منافق؟ انه الاعلام العربي الاموي وكرهه التأريخي للعراق العلوي وهذا هو تأويل موقف هذا الاعلام من عملية التغيير الجديد في العراق والتي اوصلت اتباع ابي تراب الى دفة الحكم وهو ذات الموقف الذي لم يتغير منذ التغيير الاول وهناك من يذهب ابعد من ذلك في تأويله ليرى أنه موقف القوم منذ صفين والقوم ابناء القوم علما ان شمس الحقيقة لا يحجبها غربال الدجل.
التعليقات