عندما يقول الأمير تركي الفيصل أن العنف سلاح الضعفاء واللاعنف سلاح الأقوياء، ثم ينصح الفلسطينيين بالاستفادة من تجارب المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ، فهو أمر يجعلني أتفاءل، أن كلماتنا التي نتحدث بها منذ ثلاثين عاما، بدأت طريقها إلى وعي السياسيين، وسببه ضغط الأحداث، وانحباس الطرق، والنتائج المروعة للعنف في كل مكان، ولكن الجملة السابقة تحتاج إلى تفكيك نفسي اجتماعي.
العنف دورة مجنونة لا تأتي إلا بالعنف. والعنف دورة تزداد اتساعا والتهابا. والعنف لا يحل مشكلة بل يخلق مشاكل. فهذه ثلاث حقائق أساسية في سيكولوجية البشر.
واليوم كل من العرب واليهود مرضى بالعنف. وشارون وبن لادن وبوش من معدن واحد، يرون أن القتل أفضل الحلول. مثل الطبيب الذي يعالج مريضه بالتخلص منه وليس تخليصه من المرض؟
وفي كتاب (البؤساء) تبدأ القصة من سرقة رغيف خبز، من اجل إطعام أطفال جياع، لتنتهي في السجن لخمس سنين.
هكذا كتب (فيكتور هوغو) روايته العالمية عن (جان فالجان). ويقول طالما كان في العالم بؤس وشقاء وجهل؛ فيجب أن تكتب مثل هذه الروايات.
والذي ثبت أن السجن لم يخرج مواطنا صالحاً، بل مجرما عتيا. ولبث جان فالجان في السجن من أجل رغيف الخبز 19 سنة، بسبب مسلسل التمرد والعقوبة، التي كان يقودها الشرطي (جافير) حرصا على تنفيذ القانون.
والقانون وضع للناس وليس العكس.
وفي الإنجيل؛ أن الكتبة عابوا على المسيح وعظه للمخابرات ورجال الحكومة (العشارين) يوم السبت؟ فقال لهم لو وقع خاروف لأحدكم في الماء يوم السبت ألا تنقذوه؟
ويلكم إن إنقاذ إنسان، أهم من خاروف، والسبت وضع للإنسان، ولم يوضع الإنسان للسبت؟
والذي حرر جان فالجان من الأفكار الشريرة السوداء لم يكن السجن أو القانون، بل قس كافأ سرقته بالصفح عنه؛ لأنه رأى المنظر خارج إطار القانون والعقوبة. ومن ينبوع الحب والمغفرة ولد إنسان آخر هو العمدة (مادلين) الذي أحيا مدينة كاملة.
وعلى نفس الغرار يكتب ديستوفسكي روايته (الجريمة والعقاب) ليقول لنا أن (راسكولينكوف) هو مجرم في داخل صدر كل منا.
وأن المجتمع هو الذي يجعل البشر مرضى بالعنف والجريمة.
وهذه الروايات تنفع في شرح الأبعاد السيكولوجية لآلية العنف وحدوثه.
وعندما اقتيد اللص لعمر ر في عام المجاعة ليطبق الحد، فيقطع يد الفقير، أطلق عمر ر الفقير، وقال لسيده لو جئت به مرة أخرى؛ فلسوف أقطع يدك أنت؟
وعمر ر فهم أن القانون للإنسان وليس العكس.
وهذا الفقه بيننا وبينه مسافة سنة ضوئية، بعد أن تحنط العقل عندنا بأشد من مومياء الفرعون بيبي الثاني؟
وما يحدث في صيف عام 2006م في فلسطين هو مكرر مأساوي لحلقة العنف الشيطانية المغلقة، التي تأكل من دخل دائرتها دما وحقدا، كما حصل مع إمام صليت خلفه فدعا دعاء سالت فيه الدماء في ردهات المسجد.
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا.
وخيار المقاومة السلمية ما زال مفتوحاً للقيادة الجديدة من الفلسطينيين، أن يتبنوا طريق اللاعنف فيكفوا عن الدماء ومن طرف واحد؛ كما جاء في قصة ابن آدم الأول. والقرآن يقول عمن قتله أنه كان من (الخاسرين).
من لم يقتل نجح مرتين في الحياة والممات. فقد تقبل قربانه ولم يتقبل من الآخر. ومات فلم يدخل في مذهب القاتلين الظالمين. وكان مصرعه السلمي سببا في تغيير موقف القاتل فأصبح من النادمين؟
وكما يقول سقراط إن كان لي الخيار بين الظالمين والمظلومين فأحب إلي أن أكون من الفريق الثاني.
وفي حركة الدفاع عن النفس القاتل والمقتول في النار، والقاتل في عرف الناس بطلا، والمقتول (راح من كيسه؟). وفي القرآن أن من لا يدافع عن نفسه ليس من الخاسرين. ولكن الثقافة يمكن أن تحول كل شيء إلى ضده.
وجماعة حزب الله في لبنان يريدون دفع الفلسطيين إلى المحرقة، بعد أن أغراهم خروج إسرائيل من جنوب لبنان، والفرق بين الحالتين مثل الزواج والزنا، فكله عمل جنسي. وحزب الله طائفي ولو حمل اسم الله. وحين يقوم باستعراض عضلاته العسكرية فهو يقيمها في مسقط رأس من أعطاه الدعم، ولو رفعت إيران وسوريا أيديهما منه لهلك كأن لم يغن بالأمس. فهو صنيعة ميتة، منذ أن وضعت القابلة شوهاء بكماء صماء. ومن بنى مجده على الطائفية هلك وانتكس. وكانت التجربة مع خروج السوريين من لبنان، فآثر أن يكون في خندق الظالمين.
وهذا أمر سيكولوجي نراه حتى اليوم عند الشيعة وهم يجلدون أنفسهم في عاشوراء إحياء لذكرى المقتول ظلما الحسين رضي الله عنه وأرضاه.
وهو قانون نفسي ليس عند الشيعة فقط بل في صور شتى من المصلحين الذين فضلوا الموت من أجل أفكارهم ولم يمارسوا العنف.
وما زال الناس يقبلون على رؤية فيلم المسيح وذرف الدموع؛ لأنه يذكر بمصرع الحسين على نحو أشد سلامية؛ فليس أعظم من السلام الذي يكسر حلقة العنف المجنونة. وعلى الفلسطينيين أن يفكروا في وقف العنف ومن طرف واحد كما فعل ابن آدم الأول.
وهناك من يخلط الآيات القرآنية وهي آيات متناثرة مثل نجوم السماء. ولولا الإسقاط العقلي على نجوم الدب القطبي ما عرف الناس الشمال من الجنوب.
وآيات القرآن كذلك ففيها (كفوا أيديكم) وفيها (اقتلوهم حيث ثقفتموهم) وفيها قصة (نبأ ابني آدم بالحق). في ثلاث نماذج مثل مواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم؟
فيجب رسم (بانوراما) لمعرفة المحيط من الإطار، وقوانين الطواريء من أحكام السلام. ويا أيها الذي آمنوا ادخلوا في السلم كافة.
وهناك نقطة جوهرية لــ (فهم إسرائيل) نتغافل عنها بشعور ودون شعر، بسبب الكراهية، وحينما تستولي الكراهية على النفس امتنع عليها التحليل السليم، والتفكير المنطقي؛ فيجب أن نستوعب أن إسرائيل لم تكن لتوجد لولا المرض العربي، وهو أمر لا يعترف به العرب.
ولولا انهيار الجهاز المناعي العربي ما انفجر الالتهاب الصهيوني.
ولولا وجود المستنقعات ما تكاثر البعوض وانتشرت الأمراض.
وفي الوقت الذي يتعافى فيه العرب فلن تزيد إسرائيل عن فورموزا الشرق الأوسط.
ولكن أن تقطع أنف أحدهم بالمقص وبدون تخدير أسهل من استيعاب هذه الحقيقة؟
وكل ما نكتب ليس له قيمة، ومن يقاومه أكثر ممن يناصره.
وهذا الأسلوب إنساني وأخلاقي واقتصادي ويمكن التخلص به من ديكتاتوريات الداخل، والاحتلال الخارجي. ويمكن به قهر إسرائيل وإخراج أمريكا.
ولكن الشعوب تتعلم عادة بالعذاب أكثر من الكتابات فيزاد العذاب جرعة جرعة حتى ترجع، أو تموت فتبتلع من قوى أفضل منها. كان ذلك في الكتاب مسطورا. والمفكر فدائي بقلمه فيجب أن يصدع بالحق.
واليوم تنبه الرأي العام العالمي إلى عنف إسرائيل وظلمها وبدأت أسهمها في التراجع حتى بين اليهود، فيجب الرهان على الرأي العام العالمي، ومنحى التاريخ، وإعلان نبذ العنف. ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
ولكن هذا يحتاج إلى وعي مختلف وأرضية معرفية متباينة.
ويجب أن نعلم أن ولادة إسرائيل تمت على يد قابلة أوربية.
ومن أنجبها كان (الهولوكوست Holocaust) و(الحل النهائي Endloesung) النازي. وهو نتاج أوربي، وبلفور أوربي، والسلاح النووي الإسرائيلي صنع بيد فرنسية وغض نظر أمريكي. كما تحدث بذلك سيمور هيرش في كتاب خيار شمشون.
ويجب أن يستوعب العرب هذه الحقيقة ويتعاملوا بها. أن إسرائيل جيب أوربي أمريك، وامتداد غصن من شجرة الحضارة الغربية، وأنها ديموقراطية من الداخل وعنصرية من الخارج، وأنهم أشداء على الفلسطينيين رحماء بينهم. وأن الأوربيين أوجدوها لتبقى. وأن الأوربيين حلوا الهولوكوست على حساب العرب. وأنهم وضعوا العرب واليهود في قدر تغلي بالاثنين؛ فأرسلوا اليهود إلى هولوكوست جديد، وهم يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون. وأن إسرائيل محكوم عليها بالفناء. وأنها ولدت بأخطاء كروموسومية غير قابلة للحياة والاستمرار.
وأمريكا جاءت إلى المنطقة لأنه يجب أن تأتي؛ فالطبيعة تأبى الفراغ. وحيث نبتت الديكتاتوريات ماتت الأمم. ولا تحلق النسور إلا فوق الجيف.
وطرد الأجنبي سهل، وبناء نموذج حضاري هو التحدي الأعظم. وعلى العراق اجتمع الاحتلال مع بقايا الاستبداد مثل الإيدز والسل. فانتقل من قبضة صدام إلى جيب رمسفيلد، إلى الفوضى والتفسخ والحرب الأهلية، مع أنه كان بالإمكان السير في طريق اليابان وألمانيا، بعد أن تخلصوا من الساموراي وهتلر، وكذلك بعد خلاص العراق من صدام والبعث المجرم.
هل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟؟
- آخر تحديث :
التعليقات