ثمة استهتار عربي بقوى السلام في إسرائيل، أولاً بحجة أنّ هذه القوى هامشية ولا تأثير لها في القرار السياسي هناك، وثانياً لأنّ العرب ينظرون لها على أنها صهيونية، في حقيقتها وجوهرها وطابعها العام، مثلها مثل اليمين والوسط الصهيونييْن، بل مثلها في ذلك، مثل أي يهودي يعيش في إسرائيل. ولست هنا في معرض تفنيد وجهة النظر هذه، فهي في العموم، صحيحة تاريخياً، لكن مع ذلك، من غير الصحيح أبداً، أن نظلّ أسرى هذه النظرة، الظالمة نسبياً، في مساواة هذه القوى، بالكل الصهيوني، فنكون بهذا الصنيع، كمن يضع البيض كله في سلة واحدة. فقد خرجَ من بين هؤلاء، مَن يؤمن وينادي بحل سياسي، يقوم على انسحاب كامل من الأراضي الفلسطينية التي احتُلت عام 67، بما فيها القدس الشرقية. ولقد خرجَ منهم من يرفض الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة، وفي لبنان، فضلاً عن الكثير من الأدباء والسينمائيين، الذين ما إن تقع مجزرة علينا، كعرب، سواء في لبنان أو فلسطين، حتى يستنكرونها، ويوقّعون البيانات، ويخرجون في المظاهرات، ضد وحشية ودموية حكوماتهم، رافضين بشجاعة، وبمبدئية، كل ما تقوم به دولتهم، ضدنا وضد حقنا التاريخي في بلادنا التي أُغتصبت ونُكّل بشعبها أفظع تنكيل. صحيح أنّ هذه المواقف الشجاعة لا تبلّ رمقنا ولا تكفينا، أحياناً، ولكنها مع ذلك، جيدة، ويجب تقديرها، خصوصاً إذا نظرنا إليها، ضمن سياقها التاريخي والسياسي، وحسب تعقيدات ظروفها أيضاً. فهذه القوى، تعمل في بيئة معادية جداً لها، وبلا حاضنة تقريباً. بيئة في عمومها، يمينية الطابع، لا ترى حلاً سوى في الذهاب إلى الحرب والتنكيل الوحشي. ولا تسمع لصوتٍ سوى صوتها المجنون. من هنا، يتوجّب علينا، أن نقدّر مواقف هذه القوى، وأن نطلب منهم دائماً المزيد منها. أما حكاية أنها هامشية، فتلك حجة لها لا عليها. ولا معنى من قبلنا للتهوين بقدراتها، فهي، تزداد يوماً بعد يوم، ولو على نحو بطيء. تزداد، وبالأخص في وسط النساء الإسرائيليات، والكّتاب والفنانين والشعراء والطيّارين والجنود، وهذه الشرائح المهمة من المجتمع الإسرائيلي، لا بد لها من أن تؤثر في هذا المجتمع يوماً ما. فهي شرائح مهمة، وفاعلة، لا يُستهان بها على كل حال. إن علينا كعرب، وكفلسطينيين، أن نفرز الغث من السمين داخل المجتمع الإسرائيلي، أما وضع الجميع في سلة واحدة، فليس من مصلحتنا كأصحاب حق، بل من مصلحة الطرف الإسرائيلي، وبالذات قوى اليمين منه. لقد لاحظتُ، في غير موقف وغير مكان، وخلال عقدين من الزمن، خشية حتى مثقفينا العرب والفلسطينيين، من مجرد الحديث مع أي طرف إسرائيلي، حتى ولو كان هذا الطرف من اليسار الثقافي. بحجة حاضرة أبداً وسخيفة أبداً وهي quot; التطبيع quot;. ناسين شيئاً أساسياً، لا يجوز نسيانه، وهو أننا كعرب، نقترب منهم، بقدر ما يقتربون هم من حقنا التاريخي ومن وجهة نظرنا في الصراع وفي الحلّ. هذا هو أساس أي حديث أو حوار معهم. فإن كانوا مؤيدين لنا، فلمَ لا نتحدث معهم ؟ وإن كانوا قريبين من مواقفنا فلمَ نتجاهلهم ونتحاشاهم، وكأنهم مرض معد ؟ إن ثمة قصوراً لدينا في هذه المسألة. فنحن أصحاب حق، وصاحب الحق لا يخاف. ومتفوقون عليهم أخلاقياً، بصفتنا الضحية، ما في ذلك شك. لذا فنحن الأقوى، والأقوى أخلاقياً، لا يهرب من حوار ولا من سجال ولا من مواجهة. بغض النظر أين يكون هذا الحوار وتلك المواجهة، فليس مهماً المكان ولا الزمان، ولكن المهم هو ما نقول وما تقول وكيف تقوله. لقد قيل الكثير من التهويش حول بعبع التطبيع مع إسرائيل. ولدينا مثقفون عرب، لا شاغل لهم سوى مقاومة التطبيع، حتى أصبح هذا الشأن الغامض، الوهمي في الكثير من الأحيان، هو محور حياتهم. مع أن التطبيع مع الواقفين في صفّك، هو أمر لا مفرّ منه لعاقل، أما التطبيع مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ذات الجنون العسكري، وصاحبة إلغاء حقنا التاريخي في بلادنا، فهذا هو المطلوب رفضه، والوقوف بحزم ضده. لذا، لا يجب أن نخلط بين الأمرين، ولذا، يجب أن ندقق، فلا نساوي بين هذا وذاك. فالمجتمع الإسرائيلي، ودولة إسرائيل، فيها ما في كل مجتمع ودولة في العالم : فيها اليمين واليمين المتطرف، والوسط، واليسار الصهيوني، واليسار الليبرالي الإنساني، وغير ذلك من ألوان الطيف. أقول هذا الكلام، بمناسبة خروج مظاهرة يوم السبت الماضي، من ساحة إسحاق رابين، في قلب تل أبيب، ضد الحرب في لبنان : مظاهرة من حوالي سبعة آلاف مواطن إسرائيلي وعربي، من عدة مشارب واتجاهات، لكنها جميعاً من قوى السلام والعقلانية، تضم في صفوفها مثقفين يهوداً، ومواطنين عاديين. وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فلا بد من التذكير أيضاً، بالبيان الذي وقّعه، قبل فترة، حوالي 15 مثقفاً إسرائيلياً، ضد ما فعلته حكومتهم، من مجازر في قطاع غزة، بعد مقتل عائلة غالية. هذه مواقف لا يجب أن نستهين بها، على ضعفها وحيائها، بل يجب رصدها، والترحيب بها، على أمل أن تكبر يوماً بعد يوم، فتؤثّر في نسيج مجتمعها، هذا المجتمع الذي ينحو منحى يمينياً في الأغلب، وبخاصةٍ وقت الأزمات، يوماً بعد يوم أيضاً. وبهذه المناسبة كذلك، أودّ أن أحيي وأُثمّن مبادرة السينمائيين اليهود الأخيرة في فرنسا، الذين نشروا بياناً ضد جرائم إسرائيل في لبنان، نشرته الصحافة الفرنسية، وبعض صحفنا العربية، والذين وقفوا معنا ومع حقوقنا، واستنكروا ما تقوم به آلة الحرب المجنونة في إسرائيل. صحيح أن هذه المواقف، أو بعضها على الأقل، لا تكفي، ونريد منها أن تتقدّم خطوات أبعد، إلا أننا يجب ألا نغمطها حقها. فالصراع معقّد وطويل، وفيه من الحساسيات، ما يكفي ليفتح أبواباً من سوء الفهم والتأويل، ولكننا، وفي كل الأحوال، يجب أن نقف معهم، بشجاعة، كما اتخذوا هم مواقفهم بشجاعة أيضاً. إنني على بعض الثقة لا كلّها، بأن المستقبل سيكون مفتوحاً لهذه القوى، أكثر من الماضي والحاضر، فهذا زمن الشعوب لا الحكومات، وهذا زمن المعرفة لا الجهل، وزمن الإنسانية المعذبة، لا الأيدولوجيات والمواقف الدوغمائية : زمن التغيير في أنساق الوعي، وفي المشاعر، زمن عولمة الصورة، وبثّ الحدث مباشراً، ومن يظن أن إسرائيل، دولةً ومجتمعاً، نخبةً وعواماً، بمعزل عن كل هذا، فهو واهم. فإسرائيل، ومن عمق نسيجها الاجتماعي والثقافي والسياسي، تتغيّر، ببطء شديد ؟ لا بأس، ولكنها في النتيجة تتغيّر، ونحن نراهن على هذا التغيير : نراهن على من يقف بجانبنا : على من يتفهّم مأساتنا بعمق أكبر من ذي قبل. وعلى من نكسبه منهم، بعد كل صدام أو حوار أو سجال. فهذا هو قدرنا، وذلك هو إيماننا المبدئي، الذي نأمل أن يكون هو ذاته قدرهم وهو ذاته إيمانهم المبدئي بأن : لا حل للصراع عسكرياً، وأنّ لا خيار لنا، لكلا الشعبين، سوى أن نعيش معاً على هذه الأرض الطيبة، أو نموت معاً. وسوى أن يُردّ الحق لأصحابه، مهما طال أمد هذا الصراع الأشدّ قسوة في التاريخ الحديث.