احتفلت مؤخرا حركة النهضة الأصولية التونسية بذكري تأسيسها الـ 25 ، بتنظيم لقاء بالمركز الإسلامي بلندن. وقد استعمل مؤسس الحركة وشيخها مدى الحياة، راشد الغنوشي، بهذه المناسبة quot;لهجة معتدلةquot; ، حيث أعلن أن الحركة quot;لم تعد تعتبر نفسها تحتكر الدينquot; على اعتبار أن الديمقراطية quot;ملك للعمومquot;. بل وصل به الأمر إلى حد التأكيد على أن الهدف الأساسي للحركة هوquot;إعادة الحريات من خلال عمل سلمى وشعبيquot; ومن خلال quot;جبهة سياسية تعدديةquot;، حسب ما ورد في مقال لمجلة quot;جون أفريكquot; بتاريخ 2 يوليو الماضي. لكن ترديد مثل هذه الاسطوانة المشروخة بخصوص quot;اعتدال الحركة الأصوليةquot; لم يعد ينطلي على احد.
للتذكير، تم تخصيص أول ندوة صحفية عقدتها الحركة بعد إنشائها عام 1981 للتحامل على مجلة الأحوال الشخصية التونسية، التي مثلت الحجر الأساس لقاطرة الحداثة في هذا البلد (أنظر مقال العفيف الأخضر: الحداثة التونسية في عيدها الخميسين). وهذا أمر طبيعي بالنسبة لحركة متطرفة اعتبرها المؤرخ الإسلامي التونسي الأستاذ محمد الطالبي حركة quot;طالبانيةquot; ومعتبرا الغنوشي quot;طالبانياquot; لا أكثر ولا اقل (أنظر مقاله في أسبوعية جون أفريك بتاريخ 25/02/2005).
للتذكير، مؤسس الحركة وشيخها مدى الحياة ndash; خريج مؤسسة فقه الإرهاب لما يسمى بكلية الشريعة بجامعة دمشق- له باع طويل في معاداة كل مظاهر الحداثة, بدءا من تنظيم النسل، أحد أهم عوامل تطور مستوى العيش في تونس خلال العقود الخمسة الماضية، الذي اعتبره quot;وأدا معاصراquot;. كما سبق له أن قام بتكفير حكام عرب من أنور السادات إلى ياسر عرفات. وكأن هذا لا يكفي، اتهمت الحركة quot;الطالبانيةquot; بعمليات إرهابية أكثرها شهرة حرق حارس فرع تابع للحزب الحاكم بحي quot;باب سويقةquot; بمدينة تونس العاصمة، وهي الجريمة التي أدت إلى رد فعل قوي من طرف السلطة، ومثلت كارثة حقيقية لاتباع الحركة، بينما لاذ الغنوشي بالفرار -كعادته- للإقامة بين ظهراني أخيه حسن الترابي في الخرطوم، ومن ثم في لندن.
من المؤكد أن quot;الشيخquot; يدرك اليوم كل هذه الحقائق والتغييرات الطارئة على الساحتين التونسية والدولية، كما يدرك العزلة التي توجد فيها حركته. فزميله القيادي السابق عبد الفتاح مورو، سبق له وأن جمد عضويته في الحركة منذ جريمة باب سويقة. ومنظر الحركة صالح كركر تم طرده منها منذ سنوات. كما حدث أكثر من تصدع داخلي، بدليل ما صرح به أحد مسئولي الحركة السابقين، حبيب مكني، الذي قال انه يأسف quot;لعدم قدرة الحركة على جلب المنخرطين الجدد بالعدد الكافي وباستفحال أزمة الانقسامات والتيارات المختلفة والصعوبات التي تعترضها لعقد جلسات فروعها، وكذلك فيما يخص إعداد مشروع سياسي خاص بهاquot; (انظر مقال مجلة جون أفريك بتاريخ 2 يوليو2006).
لقد أقنعت هذه الحقائق، بالإضافة للإفلاس الكامل والشامل الذي منيت به التجارب الأصولية الأخرى من أفغانستان الطالبان إلى سودان حسن الترابي، بالإضافة لمسلخ حركة quot;الإنقاذquot; الأصولية في الجارة الجزائر، الذي أدى إلى نحر 200 ألف مواطن وخسائر مادية تقدر بــ 30 مليار دولار، حسب تصريحات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الرأي العام ومعظم القيادات السياسية التونسية برفض مشروع الحركة الطالباني. وهذا ما عبرت عنه منذ أشهر حركة التجديد التونسية والقوى اليسارية المتحالفة معها عندما أعلنت عن قطيعتها الكاملة مع التيار الأصولي مهما اختلفت مشاربه، نتيجة التناقض الأساسي بين برامج هذا الأخير التكفيرية ومتطلبات المجتمعات العربية في الحداثة والتقدم. ونجزم ألا يكون هذا حدثا عرضيا ولا مقتصرا على تونس، بدليل أننا نرى بشائره في دول مثل المغرب، الأردن ومصر.
فلا عاقل يمكن أن يعول اليوم على مشروع سلفي جهادي ومتخلف، معاد للمرأة وغير المسلم والحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام بين الأمم والشعوب. وسؤالنا هنا كيف تحترم quot;الدولة الإسلاميةquot; كل هذا وقد سبق وأن حدد الغنوشي برنامجها quot;الطالبانيquot; عندما اعتبر أن مهمتها ستكون quot;منع الزواج بالفسقة والملحدينquot; وأعداء الإسلام عامة، بل لم يتورع عن الدعوة إلى شنق المفكرين الأحرار في الساحات العامة، كما سبق له وأن دعا إلى ذلك بخصوص العفيف الأخضر ورجاء بن سلامة. والأرجح أن تزيد الكوارث الجديدة التي تسببت فيها حماس وحزب الله على رؤوس شعوب الشرق الأوسط، المدعومين -وبأي حرارة وبأي سفاق- من راشد الغنوشي، ومن أعلى منبر قناة الجزيرة التي هوفي واقع الأمر أحد quot;رؤساء تحريرهاquot; الفعليين. بناء على هذه القناعة عند نخب المجتمعات العربية وصناع القرار، ستحصل بالتأكيد قطيعة كاملة بين قوى المجتمع المدني والتيارات التكفيرية quot;الطالبانيةquot;، مهما حاولت هذه الأخيرة الخداع والالتفاف والتستر وراء الشعارات الفضفاضة بهدف تضليل العامة ومن ثم الاستيلاء على الحكم. ففي الحالة التونسية، سوف يعني هذا العودة بالبلاد الحديثة قرونا إلى الوراء، بل إلى عصر quot;الخلافة الراشدةquot; كما سبق وأن كتب زعيم quot;الطالبانيينquot; التونسيين راشد الغنوشي (نفس المصدر السابق للاستاذ محمد الطالبي).

[email protected]