السّيّد حسن نصر اللّه يعد الأمّة بالنّصر كما يعدها بالمفاجآت الميدانيّة التي ستحقّق هذا النّصر، ويكاد اليوم يجرّ أكثر الجماهير العربيّة خلفه فهي تعتقد في وعوده.
قلّ من يصدّق هذه الوعود من أهل جيلي، لأنّ جيلنا مرّت عليه أساطير سابقة عابقة بالأوهام، مثل صواريخ الظّافر القاهر النّاصريّة، وصواريخ صدّام الكرتونيّة، وكلّ أولئك القادة العرب الذين حقّقوا النّصر فقط على شعوبهم، ولم يحقّقوا غير المزيد من الهزائم والنّكسات لهذه الجماهير المدمّرة نفسيّا واقتصاديّا وأخلاقيّا جرّاء فعل طاحونة القهر والدّكتاتوريّة والفساد الأبديّ. ولكن لا بأس من تحليل هذا الخطاب الجهاديّ الأخير للسّيّد نصر اللّه ومن محاولة إلقاء الضّوء على ما يمكن أن تفضي إليه الأزمة الرّاهنة.
بادئ ذي بدء، يجب أن نقرّ بأنّ إسرائيل قد انسحبت من كافّة الأراضي اللّبنانيّة المعترف بها دوليّا منذ سنة 2000، وأنّ موضوع مزارع شبعا ما هو إلاّ ذلك الفخّ الذي نصب للبنان من قبل النّظام السّوريّ لتوريطه في النّزاع الشّرق أوسطيّ وتكليف حزب اللّه بحرب بالوكالة لمصلحتها وكذلك لمصلحة إيران التي تسعى لأن تكون دولة لها شأن عالميّ وإقليميّ، بحيث يكون كلّ سلام أو تسوية أو هدنة متوقّفا على طهران بحيث تقبض رسوما مكلفة تخدم أغراضها التّوسّعيّة قبل أن تضع ختمها أو تمهر بتوقيعها.
ولمّا كانت سوريا وإيران غير راضيتين على أيّ اتّفاق فإنّه لم يتمّ الاتّفاق بل استطاعت هاتان الدّولتان أن تقلبا المعادلة الدّوليّة السّابقة القائمة على quot;الأرض مقابل السّلامquot; إلى quot;الأرض مقابل الحربquot; على حدّ تعبير دنيس روس.
لنعد إلى النّصر الموعود من السّيّد نصر اللّه والذي سيتوّج المفاجآت الميدانيّة. إذا كان النّصر من وجهة نظر حزب اللّه نصرا ميدانيّا في ساحات القتال، أي هزيمة للجيش الإسرائيليّ هزيمة ساحقة، فمعنى ذلك أنّ المقصود بالنّصر بقاؤه بقضّه وقضيضه حتّى يواصل اختطافه لبنان... فإنّ طرده من الجنوب أو تدمير أسلحته التي تهدّد إسرائيل لا يعتبر هزيمة ما دام له من الأسلحة الخفيفة والمتوسّطة ما يمكّنه من ردع الأحزاب والقوى السّياسيّة في لبنان وإملاء شروطه عليها وتجميد ديمقراطيّتها التّوافقيّة بالعودة إلى ما قبل استشهاد الحريريّ.
فما نسمعه اليوم من حزب اللّه يدلّ على أنّه يؤمن بقدرة إسرائيل على دحره من الجنوب، ولكنّ الخطّ الأحمر هو محاولة تفكيك بنيته العسكريّة وتجريده من السّلاح، وهذا عمل ليس من مهامّ القوات الإسرائيليّة، بل من مهامّ القوى السّياسيّة في لبنان، ومن مهامّ الدّولة والجيش. وعدم موافقته على ذلك بعد أن تجرّع لبنان بمغامرته ما تجرّع يعني إمكانيّة حرب أهليّة أخرى. ولكن في كلّ ذلك، لا نرى أين تكمن مفاجآت السّيّد نصر اللّه التي تحقّق النّصر على إسرائيل، لذلك يجب أن نتصوّر سيناريو آخر.
إنّ حزب اللّه ليس لديه ما يخسر، فهو ميليشيا منفصلة عن المجتمع اللّبنانيّ، لها اقتصادها الموازي والمموّل من إيران، ولذلك فإنّ معاناة الشّعب اللّبنانيّ لا تعنيه ولا تؤثّر فيه، كما أنّ هذا الحزب ليس دولة لها ممثّلون في المحافل الدّوليّة، ولهذا فهو غير ملزم بالقواعد والأعراف والمعاهدات الدّوليّة.
وبما أنّ مموّله وصانعه هم ملالي إيران، وجب علينا أن لا ننظر إلى هذه المليشيا إلاّ على أنّها أداة ويجب أن نتفحّص من يستعملها وهو إيران.
إيران ترفض أن تجيب عن ورقة الأوروبّيّين حتّى 22 أغسطس الحالي، وهذا أمر أعلنته منذ البداية، ممّا يدلّ على أنّ التّخطيط لما نفّذه حزب اللّه كان تخطيطا إيرانيّا مع سبق الإصرار، لأنّ إيران تريد أن تخلق وضعا صعبا في منطقة الشّرق الأوسط يساعدها على كسب هذه الورقة لضمّها إلى الأوراق التي بحوزتها حتّى تتفاوض من موقف أقوى.
السّيناريو الثّاني هو أنّ صانع حزب اللّه، وهو إيران، يقول على لسان رئيس جمهوريّتها أحمدي نجاد بأنّ تدمير إسرائيل وإزالتها من الخارطة هدف دولته النّبيل، وهذا ما يجعلنا نفترض أنّ إيران ربّما تكون قد زوّدت حزب اللّه بأسلحة غير تقليديّة وصواريخ تحمل هذه الرّؤوس إلى المدن الكبرى في إسرائيل، وهذا السّيناريو إذا صحّ رغم أنّه يبقى في دائرة الممكن الذي لا يرقى إلى مستوى الاحتمال، سيكون كارثيّا على كلّ المنطقة، وسيكون القتلى بالملايين لا بالآلاف، وسوف تخضع المنطقة برمّتها إلى وصاية دائمة، ولعدّة أجيال.
قد يرى البعض بأنّنا نشتطّ في خيالنا بشكل يبعدنا عن الواقع، ولكنّ جوابنا هو أنّ الجنون بطبيعته منفلت من عقال العقل، فمن قال قبل شهر إنّ حزب اللّه يمكن أن يشعل حربا تدمّر بلدا بأكمله؟
ثمّ إنّ المفاجآت التي ما انفكّ السّيّد نصر اللّه يعلنها من منبر قناة الجزيرة تبيح لنا تصوّر كلّ ممكن ماعدا المستحيل عقلا. ثمّ إنّ حزب اللّه إذا بقي بكامل أسلحته بعد هذه الحرب، ومنع اللّبنانيّين من إقامة دولة حقيقيّة تبسط نفوذها على كامل التّراب الوطنيّ، فمن يستطيع أن ينفي احتمال قيامه مستقبلا بالسيّناريو السّالف الذّكر؟
إنّ معركة كسر العظم بين إيران وإسرائيل في لبنان ستنتهي آجلا أم عاجلا، ولكنّ الخاسر الوحيد هو شعوب المنطقة التي يجب أن تتعلّم إدارة آلامها بعد أن فشلت في إدارة أزماتها.
التعليقات