يبلغ مجمل الدخل الوطني بتونس حاليا 30.000 مليون دولار، يتقاسمه مجموع 10 مليون مواطن، مما يعني معدل دخل الفرد حوالي 3000 دولار، وهو ضعف المعدل بالدول العربية غير النفطية مثل المغرب، مصر وسوريا، حيث بقي بحدود 1500 دولار.توجد بطبيعة الحال عدة عوامل لتفسير هذا الفارق الكبير بين تونس وباقي هذه الدول، التي كان بعضها في نهاية الخمسينات من القرن الماضي في وضع أفضل وذات موارد طبيعية اكبر، لكن أهمها سياسة تحديد النسل التونسية التي خفضت بشكل كبير النمو الديموغرافي. عند استقلال تونس في 1956 كان عدد السكان في تونس يقارب عددهم في سوريا، حوالي 4 ملايين. اليوم عدد السكان بسوريا يفوق 19 مليون، مقارنة بـ 10 مليون فقط في تونس.

بدأت العملية مع انطلاق عملية الإصلاح البورقيبية حال حصول الدولة على الاستقلال في العام 1956، التي مثلت حجر الزاوية لترشيد النسل، وحده القادر على نزع فتيل الانفجار السكاني. حصل هذا بإصدار مجلة الأحوال الشخصية التي ألغت تعدد الزوجات ووضعت إجراءات صارمة ضد الطلاق التعسفي من طرف واحد بجعله مسالة قانونية تحسمها العدالة، كما حددت العمر الأدنى لزواج البنات بـ 18 سنة، وعممت التعليم العصري للجميع. وتبع ذلك برنامج تحديد النسل سنة 1962 بإنشاء quot;الديوان الوطني للتنظيم العائليquot; الذي لعب دورا مركزيا في نشر الوعي وتوفير الإمكانيات اللازمة للنساء، مثل توزيع حبوب منع الحمل عليهن، بالإضافة لتوفير عديد الحوافز المادية لتقليص الإنجاب. لكن المحرك الأساسي وراء العملية كان الحبيب بورقيبة، الذي سخر مواهبه الخطابية والشرعية التاريخية التي حضي بها لنشر الوعي بأهمية البرنامج، عاملا على تغيير العقلية للمواطن العادي، من خلال خطبة الأسبوعية خلال الفترة الأولى التي تلت الاستقلال. ثم واصل التذكير بأهمية تحديد النسل بمناسبة وبدونها، محذرا من خطر الانفجار السكاني على الأسرة وعلى الأمة بأكملها، مما انعكس إيجابا على النمو الديمغرافي الذي لا يتجاوز اليوم في تونس نسبة 1%، مقابل 2.5% في سوريا و2.8% في الأردن، على سبيل المثال.

لكن كيف تأثر معدل دخل الفرد بتحديد النسل في تونس؟ للإجابة على هذا السؤال يجب تقدير الناتج المحلي الإجمالي الذي كان سيحصل لو لم تحدد تونس نسلها، أي في حال عدد أجمالي للسكان بحدود 15 مليون ساكن (عوضا عن 10 مليون حاليا).

الفرضية 1: بقاء الناتج المحلي الإجمالي على حاله أي في حدود 30000 مليون دولار. تعتمد هذه الفرضية على وجود مخزون هائل من القوى العاملة العاطلة في الدول المتخلفة (Unlimited Supply of labor Hypothesis) مما يعني أن زيادة السكان لا يمكن أن تنعكس إيجابا على الإنتاج. في هذه الحالة، يكون معدل دخل الفرد في حدود 2000 دولار فقط (30000/15).

الفرضية 2 : زيادة السكان تؤدي إلى زيادة الناتج بنفس النسبة تقريبا، على أساس أن العمالة هي احد عوامل الإنتاج. وقد حصل هذا لدى النمور الآسيوية، مثل كوريا الجنوبية، حيث حصلت زيادة هامة في عدد السكان خلال السبعينات والثمانينات من القرب الماضي. مع ذلك، تم استغلال الطاقة البشرية احسن استغلال وارتفع الناتج المحلي بنسبة تفوق بكثير نسبة زيادة عدد السكان، وكانت النتيجة زيادة مذهلة في معدل دخل الفرد. كما حصل نفس الشيء في ماليزيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة. لكن هذا لم يحصل في أية دولة عربية، مما يعني أن حظوظ هذه الفرضية ضعيف جدا لان النمور الآسيوية قامت بثورة تربوية أدخلت جميع الأطفال للمدارس وأعطت أولوية كبرى لتطوير مناهج التعليم الموجهة لتدريب العمال، بالتوازي مع إنشاء جامعات تكنولوجية راقية لتخريج جيوش من المهندسين و الباحثين الذين يساهمون في الصناعة الوطنية، بينما جيوش الأطفال في الدول العربية موعودة بالأمية وبمناهج تعليمية متخلفة لا تكون سوى العاطلين وأشباه الأميين، في احسن الأحوال.

فرضية 3: ارتفاع نسبة زيادة عدد السكان تنعكس سلبا على الناتج المحلي. وهذا ما حصل في الدول العربية غير النفطية، حيث لم تتجاوز النسبة السنوية للنمو الاقتصادي 3.5%، مقابل 5% في تونس. يعزى هذا الفارق في النمو إلى عدة عوامل، مثل الاستغلال الأمثل للموارد وإتباع سياسيات اقتصادية أفضل. لكن الزيادة المرتفعة للسكان تلعب هي الأخرى دورا سلبيا كبيرا، خصوصا على مستوى الخدمات الأساسية في مجالات التعليم والصحة، حيث يتقاسم السكان بإعداد مرتفعة موارد حكومية محدودة.

يبدو هذا واضحا في مؤشرات التعليم، حيث يصل معدل معرفة القراءة والكتابة بتونس 63% عند الإناث و83% عند الذكور، مقابل 38% و63% على التوالي في المغرب، و40%- 67% في مصر (المصدر: تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004). وحصل نفس الشيء على مستوى الرعاية الصحية، حيث معدل وفيات الأطفال دون سن 5 سنوات بحدود 41 بمصر و43 بالمغرب، مقابل 26 فقط بتونس (نفس المصدر). وينعكس هذا جليا على ترتيب دليل التنمية البشرية، ضمن مجموع 20 دولة عربية، حيث جاءت تونس في المرتبة 10، مقابل المغرب (15)، سوريا (12)، مصر(14)...
بتوفير عمالة غير متعلمة، غير مؤهلة تقنيا ومريضة، لا يمكن للانفجار السكاني إلا أن ينعكس سلبا على النمو الاقتصادي. لذلك يبدو واضحا أن تحديد النسل قد عمل على رفع نسبة النمو السنوية في تونس من 3.5% (التي عرفتها الدول العربية الأخرى) إلى قرابة 5%، وهذا هو السبب الأساسي وراء معدل دخل الفرد في تونس اليوم ضعف ما كان سيكون عليه الأمر لو لم تعتمد الدولة برنامجا حازما لتحديد نسلها.
اليوم وقنبلة الانفجار السكاني تفشل كافة برامج التنمية في معظم الدول العربية، من المهم أن تعتمد هذه الأخيرة النموذج التونسي، علها تجد الطريق لتوفير الظروف اللازمة لتكوين عمال القرن الواحد والعشرين الذين يشكلون اليوم رافعة التنمية الاقتصادية، وعلى هذا الأساس سوف يكون بمقدورها مضاعفة دخل الفرد فيها، هي الأخرى.

باحث أكاديمي في اقتصاديات التنمية
[email protected]