ارتفع فائض الحساب الجاري لموازين المدفوعات في الدول العربية النفطية إلى 400 مليار دولار، خلال الفترة 2002 ndash; 2005. وتم استثمار البعض منها في عديد الدول العربية غير النفطية، حسب آخر تقرير عن منطقة الشرق الأوسط واسيا الوسطى لصندوق النقد الدولي ( مايو 2006 ).

في ميدان الاستثمار العقاري، قامت شركة إعمار ndash; ومقرها دبي ndash; باستثمار مليارات الدولارات في مشاريع عمرانية في المغرب، قصور تونس، بوابة دمشق، منطقة العقبة في الأردن و غيرها. كما قامت عديد المجموعات الخليجية الأخرى (دلة البركة السعودية، مجموعة الخرافي الكويتية، مجموعة الحبتور...) بالاستثمار في أنشطة صناعية مختلفة وفي أكثر من بلد عربي، باستثناء العراق.

في تقرير أممي صادر سنة 1971، اعتُبر ان الدول التي لها مستقبل في القرن الحادي والعشرين هي التي يتوفر لديها النفط و الماء. وربما يتوجب إضافة المعرفة (العمالة المؤهلة والمدربة وعمال القرن الحادي والعشرين: المثقفين، المهندسين، الباحثين، العلماء والأطباء) كعامل ثالث. ويتوفر في العراق كل من النفط والماء. كما توجد عمالة يمكن إعادة تأهيلها للمساهمة في اقتصاد المعرفة، الذي لا تقدم بدونه في عالم اليوم. ويمكن الاستعانة بالمخزون الهائل لملايين العراقيين المهاجرين، الذين اكتسبوا خبرة لا تقدر بثمن نتيجة احتكاكهم بالمجتمعات المتقدمة، من واجب الحكومة الجديدة العمل على جذبهم للعودة للاستثمار في العراق الحر الديمقراطي الجديد وللعمل فيه.
الحقيقة اذن هي أن الفرصة المواتية للاستثمار في بلاد الرافدين لإعادة الاعمار هي الآن ودون تردد. العامل الأول للاستثمار العربي في العراق هو الآفاق الواعدة نتيجة فائض الطلب مقابل العرض المحدود، في كل المجالات، نتيجة السنوات الطويلة من الحروب والحصار والدمار الذي خلّفه صدام والإرهاب من بعد الذي هدفه منع إعادة اعمار العراق لا اكثر.

والعامل الثاني للاستثمار هو عامل الطاقة، المتوفرة بأسعار زهيدة مقارنة بالأسعار العالمية، حيث استؤنف ضخ النفط من كركوك عبر خط الأنابيب إلى تركيا، الذي سيزيد حوالي 700 ألف برميل يوميا للصادرات العراقية التي كانت تعتمد على حقل البصرة بمعدل 1.5 مليون برميل يوميا، بالإضافة إلى الاكتشاف الجديد الذي أعلنت عنه شركة quot; دي ان. أو quot; النرويجية في حقول توكي بالمنطقة الكردية. كما تمثل الأسعار المخفضة للطاقة عاملا هاما لتنافسية الاستثمارات العربية المرجوة. ففي دبي والبحرين، على سبيل المثال، تم تطوير صناعة تنافسية لصهر الألمنيوم بالرغم من افتقار هذه المناطق لمناجم quot;البوكسيتquot; (المادة الأولية لإنتاج الألمنيوم)، وذلك نتيجة السعر المنخفض للغاز الطبيعي، مصدر الطاقة الأساسي لهذه الصناعة.

ويتمثل العامل الثالث في وجود المواد الأولية، مثل النفط لصناعة البتروليماويات ومصافي التكرير لسد احتياجات السوق المحلية، والزراعة والماشية للصناعات الغذائية، ونفس الشيء بالنسبة لصناعة مواد البناء الضرورية لتلبية احتياجات إعادة الاعمار. ومن مصلحة رجال الاعمال العرب البدء بتمويل الـ 19 مشروع لمصانع الاسمنت التي حصل اصحابها العراقيون على موافقة السلطات المختصة ولا ينتضرون الا الشركاء الاجانب لبدء عملية البناء.
لعل اقوى عذر يمكن أن يتذرع به المعترضون على الاستثمار الآن في العراق، يتمثل في العامل الأمني. لكن هذا عذر واهي. ومن المهم التنويه هنا بان الأمن يعم 14 إقليم من مجموع 18 إقليم التي يتكون منها العراق. بالإضافة إلى ذلك، يبقى خطر الإرهاب موجها بشكل أساسي لمراكز تجمع المدنيين العراقيين ( المقاهي، الأسواق، الإدارات... ) وقوات الأمن، مما يعني أن خطره المباشر على المشاريع الاستثمارية يبقى محدودا. وقد أعلن الرئيس جلال طلباني في ملتقى المدى الذي حضرته شخصيا في ابريل الماضي في اقليم كردستان العراق، عن قرب الاتفاق مع بعض فصائل التمرد المسلح، وأعلن توقعاته بامكانية وضع حد للعنف مع نهاية سنة 2006. وبالتاكيد تصفية المجرم الزرقاوي وقياداته تصب في هذا الاتجاه. ويحفز كل هذا المثقفين العرب الديمقراطيين من امثالنا استثماررأسمالنا الرمزي ndash; الثقافة ndash; في عراق المستقبل، ومنذ الان.
اما الرد المقنع على من ينادي بانتضار تحسن الوضع الامني، نحن نقول لو كان من الحكمة أن نستثمر فقط في الأسواق المنتعشة لأغلقت كل أسواق رأس المال الخليجية أبوابها مؤخرا. على العكس، حالة التعثر الراهنة قد توفر فرصة فريدة يجب على رجال الأعمال العرب اغتنامها بالاستثمار في العراق الآن مادامت الأسعار منخفضة، تماما كما اغتنم الأمير الوليد بن طلال حالة تعثر مجموعة quot;سيتي بنكquot; المصرفية للاستثمار فيها عندما كانت أسعار أسهمها في الحضيض، وهو القرار الحكيم الذي استفاد منه لتطوير ثروته وأصبح بذلك من اكبر أثرياء العالم.
لعل أهم حوافز الاستثمار العربي المباشر في العراق هو البيئة الجيدة، حيث يمنح قانون الاستثمار الجديد الأجانب امتلاك 100%، وإعادة الأرباح إلى بلدانهم الأصلية دون عوائق ودون ضرائب، بالإضافة إلى تأجير الأراضي لمدة 40 عاما. كما توجد سوق 27 مليون مستهلك بالإضافة لنمو الدخل الذي بلغ 2.6% سنة 2005، وهي نسبة ستتعزز مع ارتفاع إنتاج وأسعار النفط المتوقعة للفترة المقبلة، ومع انحسار الإرهاب ( انظر الملحق الإحصائي لمجلة ميد المتخصصة، موقع : wwww.meed.com ).

استجاب البنك الدولي بإعلانه بتاريخ 16 مايو الماضي عن قراره لتعزيز تواجده في العراق بـ: (1) إعداد مذكرة للإصلاح سيتم تقديمها للحكومة الجديدة، (2) مواصلة الاستثمار في مجالات التعليم، الصحة، الري والصرف الصحي، و (3) العمل على إشراك أطراف أخرى للتمويل أهمها الجمعية الدولية للتنمية ومؤسسة التمويل الدولية (البيان منشور على موقع البنك الدولي: www.worldbank.org ). وخصصت اليابان 3.3 مليار دولار لتمويل استثمار كونسورتيوم من الشركات اليابانية في العراق، وهي كلها مؤشرات على ان الاستثمار في اعادة الاعمار في امان و واعد بارباح مغرية، ونأمل أن يلبي رجال الأعمال العرب والشركات الخليجية الرائدة وفي مقدمتها شركة إعمار والمجموعات الأخرى هذا الطلب ويهرعوا للاستثمار في هذا البلد الواعد. كما نأمل أن تقوم الحكومة الجديدة بتطوير آليات وسياسات ومؤسسات ملائمة قادرة على تسويق العراق ووضعه على خارطة الاستثمار العربية والعالمية.

باحث أكاديمي في اقتصاديات التنمية وخبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن.

[email protected]