أيام دامية جديدة، وأسابيع وشهور أكثر دموية ربما تنتظر العراقيين وهم يعيشون أعقد وأدق وأحرج لحظات تحولهم التاريخية، ويحاولون دخول العصر الكوني الجديد برؤية وطنية ووفق تصورات لعوالم جديدة تتجاوز حالة التخلف الفكري والسياسي والمعلوماتي التي سادت ردحا طويلا من الزمن وفرضت الجمود الفكري والعقائدي الذي رسم خطوطا دموية مرعبة على رمال العراق وروابيه وبما وفر للقوى الظلامية والطائفية والتكفيرية أغطية عمل ومجالات حيوية واسعة للتحرك والنمو ومحاولات فرض الأجندة السياسية والطائفية والفكرية المريضة، فبعد أكثر من ثلاثة سنوات من التحرر من نظام البعث الذي هشم الحياة السياسية والفكرية وحتى السلوكية والأخلاقية في المجتمع العراقي، وبعد تحولات هائلة في مجريات الصراع الكوني، وبعد أطنان هائلة من الضحايا والدماء نتيجة الأخطاء المعروفة وغير المعروفة، لم يزل الوضع العراقي هشا ومريضا رغم وجود دستور دائم مفترض، وحكومة منتخبة شرعيا وفقا لمقاييس الديمقراطية الحديثة، كما لم تزل الأوضاع الإقتصادية والسياسية والإجتماعية متوترة وركيكة، ولم تزل محاولات الهدم للتجربة الجديدة قائمة على قدم وساق من فلول البعث النافق وعصاباته التي تحولت لقوى دينية وطائفية وأصولية تزرع الموت والدمار في العراق وتحاول تصديره للآخرين.
فبعد رحيل المجرم (الزرقاوي) لمزبلة التاريخ لم نشك لحظة واحدة من أن ذلك العمل لن ينهي الإرهاب أو يمحيه، بل أنه سيكون خطوة أولى ستتبعها خطوات كثيرة مكلفة ومرهقة، فأعداد الإرهابيين في أرض العراق أكثر من أن تعد أو تحصى كما أن حمولاتهم الفكرية والثقافية السوداء لها بعض من الأتباع والإرث المتواجد في الساحة العراقية، وهاهو المجرم الأردني قد نفق وحل محله مجرم (مصري) هذه المرة! رغم أن القاعدة قد فقدت زخمها الأكبر وهو ما سيؤدي في النهاية وعلى مراحل لنهاية تلك المنظمة الإجرامية أسوة بشبيهاتها في التاريخ الإسلامي أو في التاريخ العالمي المعاصر؟ فأين (الألوية الحمراء) الإيطالية؟ و أين توارت منظمة (بادر ماينهوف) اليسارية المتطرفة الألمانية؟ وما هو مصير (الجيش الأحمر) الياباني؟ وأين منظمة (أبو نضال)!! بل أين أضحى الجيش الجمهوري الإيرلندي ذاته؟ وتتوالى الأسئلة حول نهايات الإرهاب بعد مرور دوراته الحياتية بمراحلها المعروفة ذات النهايات التراجيدية أو الصامتة، وخيار الإرهاب وأهله في العراق لا علاقة له بقضية تحرير العراق من الإحتلال الأمريكي أصلا، لأن تلك المسألة لها أدواتها الدولية والقانونية و أعتقد أن الأميركان لا يرغبون في البقاء يوما إضافيا واحدا في العراق ولكن ليس قبل إنجاز المهمة.. وواهم من يتصور أن الخسائر البشرية في صفوف الجنود الأمريكان يمكنها أن تجبرهم على الرحيل سريعا وعشوائيا؟ بل العكس هو الصحيح تماما، فالإدارة الأميركية ما فتأت تعلن بوضوح من أنها في حالة حرب عالمية ثالثة ضد الإرهاب، وهذا يعني في القاموس العسكري الإستعداد لتحمل الخسائر مهما بلغت أو ثقلت كلفتها! ويكفي أن نعود للتاريخ القريب لنرى أن القوات الأمريكية تكبدت أكثر من 74 ألف قتيل في السيطرة على جزيرة (يوكوهاما) اليابانية خلال المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، وهو رقم خيالي في مقاييس الخسائر في العراق؟ وحروب جماعات الإرهاب الديني والأصولي المتوحش لن تزيد من معاناة أحد إلا الشعب العراقي ذاته الذي وحده يدفع الثمن من جرائم أهل الإرهاب، أو أخطاء الجيش الأمريكي القاتلة في العراق والتي أضحت توفر الوقود والزخم لأهل الإرهاب السلفي والطائفي المتوحش والذي يتخفى البعثيون تحت عباءاته الفضفاضة!.
فتنة طائفية سوداء... الخيار الأوحد؟
لعل الإشكالية الرئيسية القائمة في العراق والتي تتسلل من خلالها قوى الإرهاب السوداء هي إشكالية إستغلال النزاعات الطائفية والتي حتى وقت قريب لم تكن لها في العراق أي إمتدادات حقيقية كما هو الشأن في باكستان مثلا التي تعيش حالة دائمة من النزاع الطائفي، فقضية الشيعة والسنة لم يكن لها حضور على المستوى الشعبي أو على مستوى الصراع السياسي قبل أن يخرب البعثيون كل الأربطة الجامعة لوحدة الشعب العراقي، وقبل أن تتراجع القوى السياسية الوطنية لصالح القوى الطائفية المتخلفة التي تصاعد تأثيرها بعد إنحسار العمل السياسي وسيادة الدكتاتورية في العراق وهي التي هشمت كل الركائز القوية والسليمة للوحدة الوطنية، بحيث نجحت القوى الظلامية في أن تفرض أجندتها الرهيبة وأن يهيمن على الساحة الشعبية جموع من الهمج والرعاع من كلا الطائفتين، فبهائم التفخيخ والتكفير السلفية المجرمة لا تختلف في مبناها ومعناها عن المجرمين من عصابات التطرف الشيعية من أهل فرق الموت التي تزرع الدمار في الشارع العراقي المرهق المستنزف، ولعل في الأحداث الأخيرة بالتفجير الإرهابي المجرم الحقير لمسجد (براثا) الشهير منذ العصر العباسي في بغداد بهدف قتل الشيخ (جلال الدين الصغير) وهو الحادث التي تقف خلفه بهائم الحقد والتكفير والضلالة، وبين إغتيال مفتي مدينة البصرة وأحد كبار العلماء المعتدلين السنة في المدينة الشيخ (يوسف الحسان) وفي نفس اليوم وعلى يد جماعات الإرهاب الطائفي المدعومة إيرانيا والتي لها في مواقع السلطة الحالية نفوذ وهيمنة ووجود فاعل! هو بمثابة رسالة إرهابية لكل العراقيين مفادها أن سيناريو الحرب الأهلية الطائفية لم يزل هو الخيار المفضل لقوى التطرف والموت من السنة أو الشيعة، ولكن المريع أن تلك القوى ق
نجحت في إدارة أوراق الصراع رغم الخطة الأمنية الجديدة التي أعلنها السيد نوري المالكي والتي لم تثبت جدواها ولا فاعليتها المرجوة حتى اليوم، فالإنفجارات ما زالت تتوالى كل ساعة و ماكنة الإغتيالات لم تزل دائرة بأقصى طاقتها محولة العراق لجحيم لا ينتهي من العذاب والمعاناة! ولا أعتقد أن السيد المالكي سيحقق الكثير فيما لو ترك الأمور على غاربها بالنسبة للميليشيات المسلحة من عصابات الصدر والموسوي وحزب الله ويد الله وبقية الله وثأر الله.. وأستغفر الله!، وهنا أتذكر قول الشاعر السوري عمر أبو ريشة وهو يقول:
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم
فأحذري الشكوى فولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم
ولا أدري كيف تم إغتيال الشيخ البصري يوسف الحسان في ظل الهيمنة الواضحة للأحزاب الطائفية على الشارع البصري؟ وفي ظل حالة الطواريء؟ وفي أيام الخطة الأمنية؟ أما هجوم مسجد (براثا) فهو هجوم همجي إنتحاري على طريقة (الحشاشين) من الصعب السيطرة عليه أو منعه، ولكنه أمر مرعب يؤكد من أن الإرهاب وجذوره لم يزالا في حالة حركية متقدمة وأن الخطط الأمنية المرتجلة والبعيدة عن تخطيط أهل الفكر الستراتيجي لن تحقق أي تقدم طالما كانت الأحزاب أقوى من الدولة، وطالما كان الولاء الطائفي متقدما على الولاء الوطني... وتلك هي المعضلة الحقيقية في العراق؟.
التعليقات