استثمارات عربية مجمدة تنتظر الترخيص
في عدد أخير من مجلة المال والأعمال العربية، صرح أحد رجال الصناعة في مدينة حلب السورية بان ما لا يقل عن 10 مليار دولار من المشاريع الاستثمارية التي ينوي رجال الأعمال تنفيذها، هي مجمدة حاليا في انتظار الحصول على التراخيص! هذا طبعا رقم ضخم. فإذا اعتبرنا أن مجمل الاستثمارات المجمدة على مستوى البلاد ككل تساوي 5 أضعاف هذا الرقم، وأن إحداث فرصة عمل واحدة يكلف استثمارا يقدر بـ 30 ألف دولار، فسيكون تنفيذ هذه الاستثمارات قادر بمفرده على وضع حد لبطالة حوالي 1,6 مليون عامل في سوريا. مع التنويه أننا نتحدث هنا عن مشاريع استثمارية وقع تبنيها من طرف رجال الأعمال، رغم كل العراقيل التي تعترض الاستثمار. كما أن الحالة السورية آنفة الذكر ليست حالة معزولة وإنما هي القاعدة في مجمل الدول العربية. في مصر على سبيل المثال، قامت مجموعة استثمار سعودية بالبدء في مشروع تجاري وسكني كبير في القاهرة منذ بداية التسعينات من القرن الماضي بعد حصولها على quot;التراخيصquot; (مشروع سيتي ستارز) لتفاجأ، بعد ذلك، بعراقيل غير محددة عطلت تنفيذ المشروع قرابة عقد كامل، مما فوت على العاصمة المصرية خلق آلاف فرص العمل...
بدا الاهتمام بالعراقيل البيروقراطية المعوقة لبيئة الأعمال في دول العالم الثالث بدراسة أعدها عالم الاجتماع quot;هارناندو دي سوتوquot; في مركز الحرية والديمقراطية الذي يديره في العاصمة البيروفية quot;ليماquot;، والتي ضمنها كتابه الصادر سنة 1989 بعنوان quot;الدرب الآخرquot; The Other Path))، الذي يمكن التعرف على أهم محتوياته بالرجوع لموقع المركز (WWW.ILD.ORG). اعتمدت الدراسة الميدانية على مقارنة قام بها فريقا عمل انشاهما المركز، الأول بولاية فلوريدا الأمريكية والثاني بالعاصمة quot;ليماquot;، اللذان انطلقا في نفس اليوم للحصول على كافة التراخيص اللازمة للبدء بمشروع صناعي صغير. وكانت النتيجة أن حصل الفريق الأول (بفلوريدا) على جميع التراخيص في نفس اليوم، بينما تطلب ذلك اكثر من 270 يوما من الفريق الثاني بعاصمة البيرو. واستنتج السيد quot;دي سوتوquot; من كل هذا أن استمرار الفقر والبطالة في دول العالم الثالث ناتج بالأساس عن العراقيل البيروقراطية المدمرة للمبادرة الفردية والطاردة للاستثمار. وهذا ما أكد عليه الرئيس بوتفليقة اثر انتخابه في الولاية الأولى عندما صرح بان كسل البيروقراطية في الجزائر حرمها من مليارات الاستثمارات. ويحصل نفس الشيء في معظم الدول العربية المصابة بمرض المركزية في القرار الاقتصادي الذي يتطلب اللامركزية قبل أي شيء آخر، وأن أية حلول تتجاهل هذا الواقع مثل الانفتاح على التجارة العالمية ومساعدة الدول الغنية ستكون محدودة النتائج في احسن الأحوال.
استرعت أبحاث السيد quot;دي سوتوquot; اهتمام المؤسسات الدولية وفي مقدمتها البنك الدولي الذي أطلق منذ سنوات مشروع استبيان ضخم حول مؤشرات بيئة الاستثمار في مجموع 150 دولة. ويعطي مؤشر quot;سهولة مزاولة الأعمالquot;، المنشورة لهذه السنة الترتيب الأول عربيا لتونس (58)، تليها الأردن (74)، ثم لبنان (95)، المغرب (102)، سوريا (121)، الجزائر (128)، واخيرا مصر (141)، مقارنة بتايلندة التي جاءت في الرتبة 20 تليها ماليزيا (21)، بينما تصدرت فنلندة وسنغافورة والولايات المتحدة الأمريكية القائمة (النتائج منشورة على موقع: WWW.DOINGBUSINESS.ORG ).
يتكون المؤشر العام من أربعة عناصر رئيسية أولها quot;عدد الإجراءاتquot; التي يمر بها المستثمر للحصول على الترخيص النهائي، وعددها 14 في الجزائر، 12 في سوريا، 11 في الأردن، 10 في مصر، 9 في تونس، 6 في لبنان و5 في المغرب، مقارنة بـ 3 إجراءات فقط في فنلندة.
والعنصر الثاني يتمثل في عدد الأيام الضرورية للانتظار وهي مقدرة بـ 47 يوما في سوريا، 46 يوما في لبنان، 36 يوما في الأردن، 34 يوما في مصر، 26 يوما في الجزائر، 11 يوما في المغرب و 14 يوما في تونس، مقارنة بثلاثة أيام فقط في تايلندة و 6 أيام في سنغافورة.
والعنصر الثالث يتمثل في تكلفة هذه الإجراءات كنسبة مؤوية من معدل دخل الفرد، وهي 111% في لبنان، 105% في مصر، 46% في الأردن، 35% في سوريا، 25% في الجزائر، 12% في المغرب و10% في تونس، مقارنة بنسبة واحد في المائة فقط في كل من فنلندة وسنغافورة.
والعنصر الرابع والأخير هو الحد الأدنى من راس المال اللازم الذي يجب حجزه في حساب بنكي، كنسبة من معدل دخل الفرد، وتأتى سوريا في المقدمة بنسبة فلكية تساوي 5112%، تليها الأردن (1111%)، فمصر (740%)، فـالمغرب (700%)، فلبنان (67%)، فـالجزائر (55%)، فتونس (30%)، مقارنة بلا شيء في كل من سنغافورة وفنلندة. تتسبب هذه التعقيدات البيروقراطية التي ما أوحى بها الله من سلطان، بدليل عدم وجودها في عديد الدول الأخرى غير المصابة بالداء البيروقراطي، بما فيها دول متخلفة كنا نعتقد إلى وقت قريب أنها دون مستوى الدول العربية (مثل تايلندة)، في طرد الاستثمار، مما يفسر نسبته المتـدنية من إجمالي الناتج المحلي في دول مثل مصر (17%)، سوريا (20%)، والأردن (21%)، وإن كان الوضع افضل قليلا في المغرب (23%)، وتونس (24%). ولا ينجوا الاستثمار الأجنبي من ذلك بدليل أن قيمته السنوية في الفترة الأخيرة لا تتجاوز الــ 500 مليار دولار في هذه الدول، بينما تحصد دولة صغيرة مثل سلوفاكيا 5،3 مليار دولار، وسنغافورة ما يفوق 6 مليار دولار، ناهيك عن الــ 70 مليار دولار التي جلبتها الصين السنة الماضية.
اليوم والدول العربية تراجع بيئة أعمالها لتطوير الاستثمار، من الضروري الانطلاق من مؤشرات استبيانات البنك الدولي ومقارنة وضعها مع افضل الممارسات الدولية في هذا ا المجال، مع الإلغاء الفوري لما هو غير ضروري والقيام بالإصلاحات المطلوبة على مستوى السياسات والتشريعات والمؤسسات:بإنشاء مؤسسات جديدة أن لزم الأمر- حيث أن الفشل على هذا المستوى يعني التفويت في فرص استثمار تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، مما يعني الحكم على الملايين بالبطالة المؤبدة.
هذا نداء لوزراء الاقتصاد وكافة المسؤولين العرب لاتخاذ الإجراءات العاجلة لتحقيق اللامركزية الاقتصادية ووضع حد للبيروقراطية القاتلة. ونأمل أن يأخذ العراق الجديد الدرس من هذه النماذج الفاشلة والعمل على تفاديها.
باحث أكاديمي في اقتصاديات التنمية وخبير سابق بصندوق النقد الدولي
[email protected]
التعليقات