يعرف الاقتصاديون الأموال المهربة (capital flight) بالتحويلات المالية التي تتم بصفة غير رسمية، وغالبا بالتحايل على الاجراءات المتبعة، مثل المبالغة في تكلفة الواردات، وابقاء الفارق في الخارج. حسب التقديرات المتوفر خلال الفترة 1982 ndash; 2002 (1)، بلغ المجموع التراكمي للأموال العربية المهربة 85,5 مليار دولار بمصر، 35.4 مليار دولار بالجزائر، 15.7 مليار دولار بالأردن، 171.1 مليار دولار بالكويت، 16.5 مليار دولار بلبنان، 36.4 مليار دولار بالمغرب ، 11.8 مليار دولار بالسعودية، 6.5 مليار دولار بالسودان... ومن المهم التنوية بان هذه الأموال المهربة تساوي أضعاف إجمالي الدين العام الخارجي القائم في ذمة بعض الدول، كما هو الحال بالنسبة لمصر حيث الدين الخارجي لنفس السنة (2002) يساوي 28.8 مليار دولار فقط. ويمكن المقارنة مع الدول الأخرى: الجزائر 22.6 مليار دولا، الأردن 7.2 مليار دولار، لبنان 14.3 مليار دولار، المغرب 14 مليار دولار، السودان 23.6 مليار دولار...(2)

تحرم هذه الظاهرة الاقتصادات العربية من مصادر مالية هي في امس الحاجة إليها، كما تضطر الحكومات، نتيجة هذه الظاهرة، من مزيد الاستدانة من الخارج بهدف تغطية العجز الناتج لميزان المدفوعات.وهكذا تتقلص الموارد الحكومية ومن ثم دورها في توفير البنية التحتية والخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة العمومية. من أهم عوامل quot;التهريبquot; المنصوص عليها أعلاه: عدم وجود فرص مجزية للاستثمار المحلي والحاجة الملحة لرجال الأعمال العرب للعملة الأجنبية، حيث تمثل هذه الأموال (المهربة) مخزونا يمكن الرجوع إليه عند الاقتضاء، كما تعكس انعدام الثقة في الاقتصاد الوطني بصفة عامة. ومن اكبر الأخطاء على مستوى السياسية الاقتصادية محاولة الحيلولة دون هذا الظاهرة بمزيد التضييق على حرية التحويلات المالية إلى الخارج، حيث أن هذا الإجراء غالبا يفاقم الوضع عوضا عن اصلاحة، بل يزيد من محاولات التحايل على الاجراءات المتبعة وعمليات التهريب.

على اي اساس يمكن القول بامكانية عودة هذه الاموال الى دولها الاصلية؟ للاجابة على هذا السؤال يجب التذكير بان هذه الاموال تم quot;تهريبهاquot; بالاساس نتيجة الظروف المعادية للاستثمار داخل الوطن. لذلك من الطبيعي ان نتوقع عودتها عند الغاء العوامل الطاردة انفة الذكر. مع التنويه بان الوجهة الصحيحة لرؤوس الأموال هي من الدول المتقدمة (التي تعرف حالة تشبع) إلى الدول النامية التي تعرف ندرة لرؤوس الأموال، لان العائد في الحالة الأخيرة يكون أعلى (مردود آلة يتقاسمها عشرة عمال -في الدول النامية- يكون اعلى من مردود نفس الالة عندما يستعملها عامل واحد في الدول المتقدمة). و هذا ما مكن دولة مثل الصين من جذب حوالي 50 مليار دولار استثمارات اجنبية،في السنة، خلال العقد الاخير.

لكن الحد من التضييقات على حركة رؤوس الاموال -فيما يسمى تحرير حساب راس المال بميزان المدفوعات- يتطلب عديد الاجراءات التمهيدية، اهمها نظام مالي قوي قادر على المنافسة العالمية، مما يستدعي حزمة اصلاحات كبرى للبنوك المحلية (المفلسة كما بينت غي مقالي السابق بعنوان quot;بنوك عربية مفلسة تحقق ارباحاquot;) والبورصات العربية، التي هي حاليا اما في حالة ضعف وركود او فاقدة للشفافية والاطار التشريعي الملائم -كما بينت في مقالي السابق بعنوان quot;فقاعة البورصات العربيةquot;.

لقد اثبتت عديد تجارب ان مثل هذا الاصلاح اذا ما اكتمل باعتماد افضل الممارسات العالمية يكون قادرا على اعادة الثقة للمستثمرين المحليين والاجانب على حد سواء، وينتهي بعكس وجهة التحويلات المالية -الى داخل الدولة هذه المرة-. وهذا ما حصل في بعض دول اوروبا الشرقية بعد انهيار الشيوعية، انجحها دولة تشيكيا التي تخلصت من مصارفها المفلسة ببيعها لمؤسسات عالمية، مستعملة عائدات الخصخصة لتسديد الديون المتعثرة لهذه المصارف، وتجارب دول البلطيق مثل استونيا التي جلبت رؤوس اموال من الخارج بما فيه الكفاية لمضاعفة معدل دخل الفرد فيها خلال السنوات الست الماضية.

كاتب المقال باحث اكاديمي في اقتصاديات التنمية و خبير سابق في صندوق النقد الدولي في واشنطن.

الهوامش:

1-الدراسة منشورة على الرابط التالي:
http://www.umass.edu/peri/pdfs/epstein/CapitalFlight/CapFlight.Almounsor.pdf

2- انظر الملحق الاحصائي للتقرير العربي الموحد الصادر عن صندوق النقد العربي (موقع: www.AMF.ORG.AE)