إنضم السيد وورن بافيت الى صديقه الملياردير الآخر بيل غيتس ليشكلا أكبر مؤسسة خيرية في التاريخ حجمها الى هذه اللحظة ستون مليار دولار. بيل غيتس أعلن منذ أعوام أن 90% من ثروته ستكون للأعمال الخيرية كما أعلن بافيت تبرعه ب 85% من ثروته لأعمال الخير. لو أخذنا ثروة هذين الرجلين حاليا فإننا نتحدث عن أكثر من سبعين مليار دولار، ولك أن تتخيل هذا المبلغ خاصة من قبل غيتس الذي مازال في الخمسين من عمره، كم سيكون حجم مؤسسته الخيرية بعد ثلاثة أو أربعة عقود من الآن؟ هذا بالإضافة أن هذه المؤسسات ستبقى حتى بعد وفاتهما لأنها أسست بشكل يضمن بقاءها بعد غياب مؤسسيها، وذلك كي تستمر في تقديم خدماتها بنفس الجودة، وهذا ما حدث لمؤسسات امريكية خيرية أخرى أسسها أثرياء ولكنها بقيت بعد وفاتهم، منها، على سبيل المثال، مؤسسات روكيفيلر وكارنيغي وميلون وفورد، وغيرهم من الأسماء المعروفة في عالم المال، بل أن هناك مئات الألآف من المؤسسات المشابهه والتي تقدم أعمالا خيرية، في مجالات الصحة والتعليم بشكل رئيسي، يستفيد منها الملايين داخل أمريكا وخارجها، ويكون مؤسسيها في الغالب أثرياء أفرادا أو عائلات بعينها.

ظاهرة التبرع للأعمال الخيرية تبدو أكثر سخاء في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر منها في أي دولة أخرى بما في ذلك الدول الغربية المشابهة لها في أنظمتها الإجتماعية/ السياسية، ليس فقط علي مستوى الأثرياء بل على مستوى المواطنين العاديين، حيث أظهرت بعض الدراسات أن معدل ما يتبرع به المواطن الأمريكي سنويا (ما بين عامي 1995 و 1999) تجاوز ثلاثة أضعاف الدولة صاحبة المركز الثاني، كندا، (3.455 مقابل 915 دولارا أمريكيا لكل مواطن متبرع) كما كانت نسبة المتبرعين الأمريكيين 28% من مجموع عدد السكان مقابل 25.5% من الشعب الكندي. أي ان الشعب الأمريكي قد قدم أكثر من 280 مليار دولار في العام للأعمال الخيرية خلال تلك الفترة، تجاوز هذا الرقم حاجز 330 مليار عام 2001 حسب مجلة تايم الإمريكية والمستندة فيه على دراسات أخرى. هذا بالإضافة إلى الضرائب التي يدفعها المواطن، ثريا كان أو لم يكن، إلى الحكومة (جزء بسيط يسمح بخصمه من الضرائب لصالح الأعمال الخيرية، وحسب نظام ضرائبي معقد تفرضه الحكومة، سواء على المستوى الفدرالي أو المحلي، حيث تشكل الضرائب مصدر الدخل الرئيسي الذي تقدم من خلاله الحكومة خدماتها للمواطنين وتسير شؤونها).

هذه واحدة من الجوانب المضئية في الثقافة الأمريكية والتي لا يعرفها الكثير خاصة في منطقتنا العربية، حيث لا يعرف المواطن العادي أمريكا (بل وحتى كثير من المثقفين) إلا من خلال سياستها المنحازة بشكل إجرامي مع الكيان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى.

في الجانب الآخر وبمقارنة بسيطة مع ما يقدمه الثري العربي تجاه وطنه- ناهيك عن المواطن العادي- سنجد أن الوضع مخجل. أولا، فكرة التبرع بهذا الشكل السخي غير موجودة في ذاكرتنا الثقافية السائدة، بل لو أعلن أحد المليونيرات أو الملياريديرات العرب تبرعه بما نسبته 85% أو 90% أو حتى أقل من ذلك من ثروته للأعمال الخيرية لأتهم بالجنون، ولكان أول المتهمين له بالجنون فقراء العرب. لا يوجد عبر تاريخنا نموذج حقيقي لمثل هذا السخاء والإيثار، بل على العكس هناك تمجيد إلى حد التقديس أحيانا لمن يمارسون سطوة إجتماعية وسياسية داخل مجتماعاتهم العربية لأنهم يملكون المال، يتخلل تلك السطوة مخالفات قانونية وأخلاقية يتم غض الطرف عنها لتحصنهم بنفوذ وقوة المال.

وفي الوقت نفسه نواصل تشدقنا ليل نهار بقيمنا الإسلامية وكرمنا العربي (في الثقافة العربية، مسألة الكرم في حد ذاتها قيمة إجتماعية بعيدة كل البعد عن الجانب الخيري وقائمة بشكل أساسي على مبدأ النفوذ الإجتماعي والرغبة اللاشعورية في تحسين الصورة داخل المجتمع)، لم أسمع حتى الآن بثري يؤسس لجمعية خيرية حقيقية تقدم بشكل منتظم العون لمن هم في حاجة له (وما أكثرهم في بلداننا العربية، بما في ذالك الدول البترولية، ومسألة الفقر في بلاد النفط مضحكة مبكية، وهذا موضوع آخر). وحتى في الحالات النادرة مثل حالة الحريري في لبنان والوليد بن طلال ومحمد عبداللطيف جميل في المملكة، وهي حالات نادرة يشكرون على ما قدموه من خلالها، لكنها تشبه حالة الأعمى في ديرة العميان، حيث أن ما يقدمونه لا يشكل إلا نسبة مئوية قد لا تتعدى إثنين بالمائة من دخلهم السنوي لكن لأنها حالات نادرة فإنها تظهر بشكل أكبر مما عليه، خاصة أن هؤلا الملياريديرات الذين يقدمون تبرعات بشكل منتظم، وأقرانهم اللامباليين، لا يدفعون أي ضرائب داخل بلادهم، بينما تصل نسبة الضرائب لمن هم في نفس المستوى من الثراء في الدول الديمقراطية الغربية وغير الغربية إلى أكثر من 40% من دخولهم السنوية.

تقدر ثروات الأثرياء السعوديين المستثمرة خارج بلادهم بحوالي التريليون (ألف مليار) دولار، أضف لها ما يملكونه داخل البلاد، أضف لها ثروات من لا إستثمارات لهم من الأثرياء خارج البلاد، أضف لها ثروات أولئك الذين لا يجوز إدخالهم في هذه العمليات الحسابية، ثم تخيل لو أن 10% من دخول هذه المبالغ قد أعيد إستثماره على شكل مؤسسات خيرية داخل الوطن. لكنا نتحدث عن عشرات الملياريات كل عام يستفيد منها عشرات الالآف ولحققت توازنا إجتماعيا وسياسيا أفضل مما هو حاصل الآن.

أكثر الأعمال الخيرية رواجا لدينا هي بناء مسجد (وهو أقل حالات البناء تكلفة) أو حنفية ماء quot;سبيلquot;، أضيف لها، لسبب ما، في السنوات الأخيرة، التبرع بمغسلة موتى.

أكاديمي سعودي