ليس هناك ما هو أكبر من الإنسان... سوى الله، لا يكبر على الإنسان شيء. خاصَّة إذا تذكرنا بأن الوجود كل الوجود، بكل نبضه، وتسبيحه، وبكائه ولغطه وفضائه، لا يعدوا أن يكون فكرة يُفَكِّرُها الإنسان. نعم.. بالنسبة للإنسان الوجود واقع يُدْرِكه. أي أنه موضوع يعامله (حواسيّاً) ثم يفكر به ثم يحكم عليه، بالنسبة للإنسان الوجود كل الوجود لا يكبر عن أن يكون مُدْرَكاً محكوماً عليه... ما أخطر هذه الحقيقة وأبعد غورها!!
لكن هل كانَت لعنةً أن الإنسان يكبر بفكره على كل شيء؟ وهل كانت لعنة على الإنسان أنه فكَّر؟ لم يحاسب هذا الكائن على جريمة اقترفها أو سلوك مارسه أو أي شيء آخر كان قد فعله، قدر ما حوسب على أفكاره. أُبيدت مجتمعات كاملة، أحرقت أخرى، عُرِّضت غيرها للجوع المميت، حساباً وعقاباً على الأفكار،
الدين الذي هو (مقتل الإنسان الدائم) يبدأ بفكرة، يفكر بها فرد، فرد واحد فقط، يفكر، ثم يصدِّق، ويُخْرِج بعد ذلك أفكاره للعلن، يبشر بها المحيطين به، وما أن يفعل ذلك، حتى تتحول هذه الفكرة لفيروس مهووس يخترق أبعاد الزمان والمكان. يتحول من فكرة إلى دين، من واقع غير مشخَّص إلى شاخص بجماعة، ثم بمجتمع فدولة فجيش، جيش يلتهم المجتمعات بالقوة إن لزم الأمر، بالتدمير والإبادة، يحاصر الآخرون على أفكارهم، بعد أن كان هو ذاته فكرة ضعيفة ومحاصرة، هكذا يبدأ الدين وهكذا يتحول وهكذا يستمر. إلى أن يفكر مفكر آخر، ثم يصدِّق وبعدها يبشر، فينطلق دين جديد، للتكرر الأزمة، ذات الأزمة، منذ وطأة قدم الإنسان أديم هذه الأرض وهذه العجلة تدور.
هل تختصر هذه الفقرة محنة الإنسان؟ نعم هي تفعل ذلك.
الدين فكرة.. ماذا يمكن للدين أن يكون غير ذلك؟ هل هو لباس؟ جسد؟ حاسَّة؟
الدين فكرة، ولذلك يقتل الإنسان على دينه، لذلك توقف سيارة الـ(كيَّة) في العراق، وينتقى من ركابها حملة فكرة ما، ويذبحون على مذبح فكرة أخرى غيرها. لكن إذا كانت الفكرة بحد ذاتها جريمة، ومنذ ابتكرها أول إنسان فكّر، فإلى أي درجة يصح لها أن تكون كذلك، (جريمة)، إذا كان الدين فكرة، فكثيراً ما تكون الأفكار عابرة، ليس التفكير شغل كل أفراد النوع البشري، بل هو فقط (عبئ) ثلة قليلة منهم، قليلون من جنس البشر من يحسنون التفكير، بل النسبة الغالبة منهم لا تفكر، بقدر ما أنها تستورد الأفكار من الغير، من الأم أولاً ثم الأب ثم المحيط وهكذا، من منّا فكر لماذا نلبس القميص بأكمام؟ من منّا فكر لماذا نصنع البيوت مربعة؟ لماذا نسمي الخبز خبزاً... الخ. الملامح الأولى من شخصيَّة الفرد تتشكل ـ بمنظومة وعيها ـ فيما قبل سن المراهقة، حيث لا يحسن هذا الفرد أن يشك، فضلاً عن أن يقول: (لا) أو حتى يجادل!! الدين فكرة موروثة، لا يصنع الواحد منّا دينه أبداً، بل يرثه ممن يرث منهم طريقته في الملبس والمأكل والكلام. إذن (الفكرة/ الدين) جريمة يعاقب عليها الإنسان مع أنه لا يستطيع ارتكابها. والمشكلة تكمن في أن القاتل والمقتول كلاهما لم يتحكما بفكرة الدين التي تُسَيِّر كلاً منهما، فتجعل أحدهما مذبوحاً والآخر ذابحاً، كلا الطرفين وارثين لأفكار الغير، كلاهما آلة، مجرد آلة تدمير لا تفكير،
يا إلهي ما أخطر هذا الكائن وهو يختصر الوجود كل الوجود بفكرة، ثم ما أتفهه وهو يقتل على هذه الفكرة... لكن مهلاً، فالأمر ليس بهذه البساطة، ولا هو ساذج لهذه الدرجة.
لكن مهلاً.. لماذا نّكْفِرُ بفكرة أن يُقتَل الإنسان على جريمة أنه يحمل أفكار غيره؟ لماذا نَكْرَه حملة الموت الذين يتجولون في شوارع العراق يذبحون الناس على هويّاتهم الفكرية؟ لماذا لا نقبل من حملة الموت ما نقبله من غيرهم؟...
لكن مهلاً ألا يحاسب الله على الفكرة؟ ذات الفكرة الموروثة، ألا يستخدمها الله معياراً يشوي بها وجوهاً دون غيرها؟ ما هو معيار دخول النار أو الجنة؟ على غير أفكارنا الموروثة من أمهات لا يُحْسنَّ حتى توليف الكلمات في جمل مقبولة، على ماذا نُحاسب يوم القيامة؟ ما هي الجريمة التي نستحق على اقترافها الخلود في نار لا يبرد لضاها؟
إذن في نهاية هذا المطاف الصغير، نستطيع أن نقول بأن الدين فكرة كثيراً ما تكون عابرة، أو هي لا أقل موروثة، عليه: ليس من المنطقي أن يُقْتَل الإنسان على ما لم يقترفه. هذا أولاً، و نستطيع أن نقول ثانياً: بأننا جميعاً وإذا أردنا أن ننتهي من حكاية الدم التي طال أمد سردها في العراق، فعلينا أن لا نتوقف عند (الأمراء أو الصكّاكة) فحسب. فهؤلاء ليسوا غير خدعة أخيرة من خدع الفكرة الأخطر.
علينا أن نقف عند (الفكرة/ المهزلة) التي تكررت في كل عقائد الإنسان وأديانه، هذه المهزلة تقول: أن الله يؤمن بفكرة محددة، وهو سيقف يوم القيامة ليقتل من لا يؤمن بها. ليكرر ما يفعله حملة الموت بيننا اليوم، نعم هذه الفكرة الخطيرة والبائسة تقول: بأن الله يشبه حملة الموت، أن الله سيكرر جريمة هؤلاء المخدوعين، وكما أن هؤلاء يختطفون الأرواح جزاء على الأفكار، سيفعل هو، بل أنه سيزيد عليهم بأن سيعاقب على الفكرة العابرة بعقاب أبدي.
ألم أقل في البداية أن الوجود بالنسبة للإنسان لا يكبر عن أن يكون فكرة، فهاكم الدليل على ما أقوله اليوم وعلى ما قاله مئات البشر قبلي، الدليل الواضح على أن الوجود بالنسبة للإنسان مجرد فكرة، هو الإله القاتل الذي صنعه هذا الإنسان بفكره، لقد حول الإنسان حقيقة الرحمة المطلقة لمجرد سيف يضرب بالرقاب يميناً وشمالاً، هكذا وكيفما اتفق. اختصر منبع النور بصورة جلاد يطوف شوارع بغداد بحثاً عن الدماء الطازجة. هل يمكن أن يكون محمَّد(ص) هو باذر بذرة الدم التي تُغْرِق العراق اليوم؟ هل كان محمَّد(ص) جلاداً إلى هذه الدرجة؟
((وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)).. ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى)).
بهذه الآيات كذَّب الله أمنية حملة الموت، كذَّب مهزلة أنه سيقف يوماً ليملء جهنم ببشر لا ذنب لهم أكثر من أنهم ولدوا بين عوائل مسلمة أو مسيحية أو يهودية. إذا أردنا أن ننتهي من حفلة شواء العراقيين، فعلينا قبل أن نواجه التكفيريين، مواجهة أنفسنا، فنحن (جميعاً) بصورة أو بأخرى تكفيريين من نوع آخر، علينا إعادة النظر بأفكارنا نحن، علينا أن نعيد النظر بمعايير الصح والخطأ التي نُحاسِبُ من خلالها الآخرين، قبل أن نطلب منهم الكف عن محاكمتنا وذبحنا بهذه السهولة. قبل أن نبدأ بقمع هؤلاء المجرمين، علينا أن نتطهر من فكرة (تجريم) الآخر التي تترعرع في دخل كل منا يوم بعد يوم.