ما يحدث في المنطقة حاليا وما قد يبدو وأنه الحرب العربية الإسرائيلية السادسة (48ـ 56ـ 67ـ 73ـ 82ـ 06) هو في الواقع عدة حروب متزامنة، تتم بالوكالة (by proxy):
ـ حرب حزب الله ضد اسرائيل يقوم بها بالوكالة عن إيران بهدف تحويل أنظار العالم عن برنامجها النووي. وتوقيت إشعالها كان لافتا للنظر بمجيئه قبيل اجتماع الثمانية الكبار في روسيا بصورة جعلت الاجتماع ينشغل بصورة رئيسية بالأحداث الملتهبة ويضع باقي المواضيع، وعلى رأسها الملف النووي الإيراني، في مؤخرة جدول الأعمال. وقد أشعل حزب الله الحرب كمغامرة أو مقامرة يعرف حق المعرفة أنه لن يكسبها (وإن كان يمكنه الزعم في المستقبل بالحصول على quot;نصر معنويquot;، أو quot;نصر سياسيquot; برغم الهزيمة العسكرية المحققة وأيا كان حجم الثمن)؛ لكنه مع ذلك أشعلها في هذا الوقت بالذات وبدون أي مبرر محلي في لبنان أو على الحدود اللبنانية (أو السورية) مع إسرائيل. كما أنه أشعلها برغم أن رد الفعل الإسرائيلي كان متوقعا بصورة محققة (وإن لم يكن بهذه الدرجة من العنف). بل إن مثل هذا الرد المتوقع كان بلا شك من الأسباب التي شجعت حزب الله على الإقدام لأن: 1) الثمن سيدفعه بالأكثر الآخرون؛ 2) عنف رد الفعل سيلهب المشاعر في العالم العربي والإسلامي ويزيد هياج الهائجين، مما يصب بالضبط في مصلحة حزب الله وإيران وكافة قوى التطرف؛ 3) ما يكابده حزب الله من ضحايا سيصب في خانة عقدة الانتحار (الاستشهاد) المزمنة، والمختلطة بادعاءات البطولات العنترية الخ؛ 4) لأن لبنان الذي يمكن أن يعود ليصبح نموذجا للتعايش والحرية هو نموذج مرفوض من قبل quot;الأمةquot; التي لا تعرف غير الواحدية، ولذا يجب تحطيمه أو إجهاضه.
ـ حرب حزب الله ضد إسرائيل ـ كما تكرر ترديد ذلك ـ هي حرب بالوكالة عن النظام السوري الذي يسعى لتحويل الأنظار عنه وعن توابع قضية الحريري عن طريق إشعال المنطقة بأسرها، وكذلك يسعى لتحطيم لبنان عقابا له على تجرؤه بالخروج من بيت الطاعة السوري.

ـ حرب حماس ضد اسرائيل، التي أشعلتها بعمليات خطف في إسرائيل نفسها (وراء حدود غزة)، جاءت في وقت كان من المتوقع، منطقيا، أن تقوم حكومة حماس بمحاولة إثبات جدارتها على الحكم وقدرتها على التحول من جماعة إرهابية إلى حكومة قادرة على الحكم، ومحاولة تثبيت أركان ذلك الحكم في غزة وما تيسر من أراض في الضفة الغربية بصورة تدعو العالم (وإسرائيل) للثقة في إمكانية تطبيق حل quot;دولتين متعايشتينquot;. ولكن حماس (= إخوان فلسطين) أشعلت الحرب بالوكالة عن جماعة الإخوان وكافة الجماعات الإسلامية المتطرفة، وبالتحالف أو بالتنسيق مع حزب الله، لأن: 1) الإسلام السياسي حتى لو أتى للحكم عن طريق صناديق الانتخاب لا يعرف للعنف والهياج والتخريب بديلا؛ 2) ولأن ذلك الحل للقضية الفلسطينية (دولتان متعايشتان)، الذي هو الوحيد الممكن سياسيا، مرفوض quot;دينياquot; حيث كل أرض وطأها المسلمون، وخاصة أرض فلسطين، هي quot;وقف إسلاميquot; لا يجوز التنازل عنه. ومن اللافت للنظر أن إشعال الحرب جاء بالضبط في الوقت الذي كان فيه أبو مازن يحاول، عبر الاستفتاء حول ورقة المسجونين، الوصول إلى توافق وطني عام حول فكرة الدولتين. وبهذا تم نسف الاستفتاء ووأد فرص أي حل سلمي في المستقبل المنظور. وحتى لو أدى كل ذلك إلى تراجع التعاطف الدولي مع الفلسطينيين وإلى تقديم ذريعة، على طبق ذهبي، لإسرائيل لكي تفرض حلا منفردا تلتهم فيه أجزاء من الضفة، فلا يهم. لأن أصحاب الأيديويوجيات المطلقة لا يعنيهم في شيء الوصول إلى حلول عملية، ولا يمثل quot;الآنquot; بالنسبة لهم شيئا؛ لأن الزمن طويل طويل، والأزل أطول والجنة مازال بها متسع من الأماكن وعدد غير قليل من الحوريات اللائي يتحرقن شوقا لوصول المزيد من الشهداء.

ـ حرب إسرائيل ضد حزب الله، منتهزة الفرصة التي جاءتها فدخلتها بسرعة هائلة لتكسير وتكسيح المليشيات التي تقض مضاجع إسرائيليي الشمال، هي أيضا حرب بالوكالة عن لبنان الذي بعد أن خرج من حربه الأهلية الدامية وما كاد يتخلص من الاحتلال السوري، يقف عاجزا عن التحرر من الاحتلال الإيراني عبر حزب الله وميليشياته. حزب الله، الذي كان رمز المقاومة ضد اسرائيل في جنوب لبنان توحش ليصير دولة داخل الدولة وفوقها، وأصبح له جيش أقوى من جيش الدولة ويقرر القيام بالحروب بمحض رغبته وبدون أدنى اعتبار للدولة التي يعيش على أرضها. ومن الواضح أن جزءا كبيرا مما يقع من ضحايا مدنيين (باستثناء من كانوا ضحايا لتخزين حزب الله الأسلحة في بنايات مدنية) وضرب لمعسكر تابع للجيش وتخريب للبنية التحتية، هو طريقة إسرائيل في تبليغ لبنان أنها ليست على استعداد للقيام بالمهمة بالوكالة بدون ثمن. ومن ناحية أخرى، فإن تصفية حزب الله تمثل شيئا لا شك يستحق التضحيات. فقط نتمنى أن تكون هذه نهاية لعصر يحارب فيه الجميع حروبهم القذرة على أرض لبنان، تاركين له مهمة دفع quot;الفاتورةquot; وإزالة بقايا الحرب، ثم تجديد نفسه مرة أخرى كطائر عنقاء لا يكف عن الولادة من جديد.

ـ حرب إسرائيل ضد حزب الله، هي أيضا حرب بالوكالة عن العالم العربي السني. هذا العالم أصيب بالقلق، إن لم يكن الهلع، أمام المد الشيعي في إيران والعراق وجنوب لبنان (الهلال الشيعي) الذي يفرد عضلاته بتحد واضح. وفي قلقه وهلعه، فإن عالم العرب السنة هو أعجز عن عمل إي شيء (بخلاف المذابح الزرقاوية)، وقد لا يسمح له نفاق quot;الوحدة الإسلاميةquot; بالتحرك حتى لو رغب. ولذا فإن نجاح إسرائيل في محاولة تصفية حزب الله، وإن لم تشكل ضربة قاضية ضد تنامي الشيعة، لكنها ستكون ضربة quot;بالنقطquot; قد تساعد على تحجيمها. إلا أن المواقف قد تتغير إذا طال وقت المعارك (حتى تتحقق الأهداف الرئيسية للحرب ـ أو الحروب ـ الدائرة) إذ أن استغلال مخزون الكراهية العمياء لدي الشارع الإسلامي (العربي سابقا) بفعل ماتذيعة فضائيات الإرهاب إياها، وكتابات quot;لوبي الإرهاب الإسلاميquot; في الصحافة، سيصل سريعا لحالة الغليان (quot;أنا وابن عمي على الغريبquot; خصوصا إذا كان هو العدو الصهيوني ومَن وراءه في الغرب الصليبي)؛ وقد يؤدي بالتالي إلى تهديد أركان كثير من نظم الحكم السنية مما يضطرها إلى تعديل مواقفها السابقة وسحب التوكيل... ولكن بعد فوات الأوان.

ـ حرب إسرائيل ضد حزب الله هي أيضا حرب بالوكالة عن المجتمع الدولي الذي أصدر قرار مجلس الأمن 1559 بنزع سلاح الحزب ولكنه وقف عاجزا عن تنفيذه، أو بمعنى أدق لم ولن يجد الدول المستعدة للمشاركة في قوات دولية والتضحية بأرواح أبنائها في معركة يعرفون أنها ستكون على مستوى يليق بحزب الله من الشراسة والدموية. ونتوقع أن تطالب إسرائيل المجتمع الدولي بثمن بعد نجاحها في تحطيم أو تحييد حزب الله، قد يكون على شكل احتلال مقنن لشريط عريض مفرغ من البشر في الجنوب اللبناني.

***
خطورة الحروب هي أن المعطيات تتغير بسرعة مع العمليات ولا تعود للمقدمات والمسببات أهمية تُذكر خارج كتب التاريخ وتحليلات المحللين.
وخطورة الحروب quot;بالوكالةquot; هي أن الموكلين قد يجدوا أنفسهم مجرورين لدوامتها برغم حذرهم:
ـ لم تدخل سوريا حتى الآن الحرب، بل من المشكوك فيه أن تكون أيا من قيادتي حماس في دمشق أو حزب الله قد أخذت ضوءا أخضر، وربما أخذت أحداهما أو كلتاهما ضوءا أصفر فقط. ولكن احتمالات جرجرة سوريا، برغم الحذر المتوقع من حكامها في ألا يقعوا بالمطب، تزيد عن 50%. وفي هذه الحالة سيكون دور إسرئيل بالوكالة عن أمريكا، التي ضاقت ذرعا بألاعيب النظام السوري ولكنها لا تريد أن تفتح جبهة جديدة في المنطقة بجانب العراق. والمطلوب في تلك الحالة سيكون تأديب هذا النظام وليس تحطيمة لأن البدائل مازالت أسوأ.

ـ يبقى نظام الملالي: وفي تلك الحالة ستكون الضربة الإسرائيلية، إذا جاءت، بالوكالة عن المجتمع الدولي بأكمله، بما في ذلك روسيا والصين، لتصفية أو على الأقل عرقلة مشروعه النووي. احتمالات الضربة بعد جرجرة طهران لا تزيد (لأسباب متعددة لا داعي لسردها هنا) عن 10%. لكن من يدري؟ ومن قال أن منطقتنا تخضع لأي منطق؟ وماذا يمنع أن تكون الأقاويل التي يرددها بكثرة حكام طهران حول quot;حتمية حرب عالمية (نووية) عاجلة، تندلع من فلسطين كمقدمة لعودة الإمام الغائبquot;، هي أكثر من تخاريف وخزعبلات !