قالها صديقي تعليقاً على حرب إسرائيل على لبنان.. قتل المرة الأولى عندما فجروا سيارته، ومن معه، وما زال التحقيق مستمراً، رغم أن كل المؤشرات والقرائن والشهادات تؤكد من هو الفاعل على وجه التحديد. وقتل ثانية على يد (حزب الله) وحسن نصر الله هذه المرة، عندما أقدم الحزب على العملية التي أسر فيها جنديين إسرائيليين، فاستفزت هذه الحادثة (الوحش) الذي كان يبحث عن سبب أو ذريعة لتدمير لبنان، فقتل الحريري (ثانية) من خلال تدمير إسرائيل لكل منجزات الحريري، التي أعادت إلى لبنان بعد الحرب الأهلية (صحته)، وقيمته على المستوى الإقليمي والعالمي، فتعافى أو كاد..الفرق بين حسن نصر الله (الإيراني) المؤدلج، و بين الحريري (السعودي)، أو الخليجي، أو الغربي، أو الأمريكي، أو صفه بما تشاء، هو تماماً كالفرق بين لبنان قبل الأزمة الأخيرة، ولبنان بعدها!
الحريري رجل تنمية، وإعمار، وتشييد، وتحضر. ونصر الله رجل (أيديولوجي) حتى العظم، همّه وغايته وكل ما ترمي إليه أهدافه، أن يفرض (مذهبه) فرضاً حتى بالسلاح إن تطلب الأمر، وأن يُسخر المال والدعم (الخارجي) للمشاريع التي من خلالها يستطيع أن يحكم سيطرته على (رقاب البشر)، مستغلاً كل شيء، وأي شيء، في سبيل خدمة (المذهب) وليس الإنسان؛ وآخر ما تعنيه التنمية.
فالأيديولوجي إذا بنى مستشفى ndash; مثلاً ndash; أو أقام منظمة خيرية، فهو يقوم بذلك خدمة للأيديولوجيا وليس للإنسان. والغريب أن الشعوب الناطقة بالعربية غالباً ما يُمجدون (الأيديولوجي)، وينساقون وراء خطاباته، ولا يقيمون أيّ وزن لرجال (التنمية)، والأمثلة التي تؤكد ذلك أكثر من أن تحصى.
الغرب، وأوربا على وجه الخصوص، عرفوا عبر تجاربهم، أن القائد (المؤدلج) لا يخدم وطنه، أو إنسان وطنه بقدر ما يتخطاهم، ويهمشهم كقيمة، بل ويوظفهم لخدمة الأيديولوجيا.. هتلر ndash; مثلاً ndash; كان أيديوجياً حتى النخاع. إستغل كل مُقدرات بلده، وقدراته الكاريزمية والخطابية، والنزعة القومية، والتعصب لخرافة تفوق العرق الآري لدى الألمان آنذاك، لينتصر (للنازية) وليس لإنسان بلده ؛ فأدخل بلاده والعالم إلى حرب أزهقت أرواح الملايين من البشر، ودمرت وخربت من الحجر أضعاف ما دمرته من البشر، والسبب (النازية) ونصرتها، وفرضها على العالم فرضاً.. نصر الله في لبنان كان يتعامل على أساس أن المذهب وليس الوطن (أولاً)، تماماً كما كان يتعامل هتلر، وكما يتعامل (غيره) وإن اختلفت المذاهب أو الطوائف أو الأيديولوجيات.. لتأتي النتيجة في المحصلة واحدة، وهي الخراب والدمار والدماء، كما يحصل الآن في لبنان وفي العراق، وسوف يحصل لا محالة في فلسطين (حماس) الإخوانية أيضاً.
الدكتور برنارد هيكل الباحث الأمريكي المعروف يُعيد السبب إلى أن المنطقة، منذ اجتياح التتار، لم تعرف حروباً حقيقة (دموية) وتدميرية كما عرفتها أوربا أو أمم الشرق الأقصى، الأمر الذي جعلهم يعتقدون أن (الحرب) هي الحل، وأن (علتهم) ليست في تخلفهم العلمي والتكنولوجي والحضاري وإنما لأنهم تركوا شعيرة (الجهاد)، فحلت عليهم الذلة والمسكنة ليس إلا!
غير أن السؤال الخطير الذي يُثيره رأي الدكتور هيكل هو : هل الشعوب الناطقة بالعربية في حاجة لأن تمر بما مرت بها أوربا والغرب، كي يدركوا أن (الحل) الدموي لا يمكن أن ينقذهم من مستنقع (التخلف) والسقوط الحضاري الذي يعيشون فيه؟
والغرب ndash; أيضاً - أسقط ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا بعيد انتهاء الحرب الثانية؛ وانتخبوا عام 1945 (كليمنت أتلى) زعيم حزب العمال. رغم أن تشرشل حقق لهم نصراً تاريخياً يُضاهي ما حققه للمسلمين صلاح الدين الأيوبي عندما انتصر على الصليبيين. غير أنهم أدركوا من خلال تجاربهم أن تشرشل رجل حرب، وليس رجل سلام وتنمية، وعندما أعادوا تشرشل ثانية بعد (أتلي) كان تشرشل الجديد في حاجة بالفعل لأن (يسقط) كي يختلف عن تشرشل الحرب.
ولعل لمنحى (الحرب)، وليس السلام، الذي تعشقه الشعوب الناطقة بالعربية حتى الانتحار، أسباباً أنثروبولوجية، رغم ضعفهم، وتخلفهم، وعدم قدرتهم على إنتاج وسائل القوة التي تحتاجها الحرب. فالعربي إبن الصحراء، ومنها يستمد قيَمه ورؤاه، ومن متطلباتها الحياتية يتشكل معينه الثقافي. أهم القيم التي يحرص عليها إبن الصحراء هما (القوة) ويأتي بعدها (الكرم). ولعل هذا الترتيب في الأولويات القيميّة انعكس على ترتيب رؤيته ورؤاه في حياته، لتصبح (الشجاعة) والتي هي من أهم مظاهر (القوة) لدى العربي لها الأولوية المطلقة؛ وهذا ما يؤكده الباحث الأنثربولوجي السعودي الدكتور سعد الصويان؛ الأمر الذي جعل العربي يعشق العنف، ويكره السلم لأنه يجد في (السلام) مظهراً من مظاهر الخنوع والخوف والجبن، وربما (الاستسلام) كما يُردد من يرفضون مشاريع السلام في المنطقة، وبالذات الفئة المؤدلجة منهم.. وعندما قال المتنبي يمدح سيف الدولة : (الرأي قبل شجاعة الشجعان.... هي أول وهو المحل الثاني)، كان يتحدث عن منطق ثقافي (جديد) على الذهنية العربية، لم يكن يفهمه إبن الصحراء التقليدي، فالرأي والعقل والعدالة والوفاء مثلاً، وبقية قيم المدينة، تقل قيمتها حتى التلاشي أحياناً عند ابن الصحراء حين مقارنتها (بالعنف) أو الشجاعة في إراقة الدم.
قتل الحريري مرتين، وقتلت بلاده آلاف المرات، والسبب حماقة المؤدلجين. والسؤال : هل سيعي الإنسان اللبناني هذه الحقيقة، مثلما وعاها الإنسان الأوربي، أم أنه سيمضي في غيه؟.. دعونا نرى.