السياسة علم يقوم على حسابات عقلانية دقيقة. والسياسي كرجل المختبر في دقة نشاطه: يجب أن يحسب كل شاردة وواردة. فإذا كان السياسي مغامراً، لا يحسب عواقب أفعاله، ضاع كل شيء. هذه بديهيات أولية يعرفها تلميذ الثانوي في أركان الدنيا الأربعة، لكنها تغيب غياباً صادماً عن عقولنا كعرب يتنفسون هواء القرن الحادي والعشرين. فنحن إلى اليوم، لا نزال نحب زعماءنا المغامرين، ونحن إلى اليوم، لا نزال نُفتن بهم، فنقع في الخطأ ذاته، بدل المرة عشرات المرات، دون أن نأخذ من هذه الأخطاء، عبرةً أو درساً ينفعنا في قريب الأيام أو بعيدها. أمس، وقعت حماس، في خطأ أسر الجندي الإسرائيلي، فدفع الشعب الفلسطيني كله، ثمنَ هذا الخطأ الفادح. واليوم، يكرر حزبُ الله ذات الخطأ، فيدفع الشعب اللبناني كله، ثمن هذا الخطأ الفادح أيضاً. القادة الذين تعتبرهم شعوبُنا الأقرب إلى نبضها، والمعبّرين عن آلامها وآمالها، هم ذاتهم الذين يوردونها موارد التهلكة: هم ذاتهم الذين يسومونها سوءَ العذاب والخراب. مفارقة مضحكة ؟ كلا بل هي مفارقة مؤسية ! مفارقة تفضح آلية وعي هذه الشعوب، وكيفية عملها. مفارقة تحيل على رثاثة أنساق هذا الوعي، بكل تجلياته وتبدياته، قديماً وحديثاً.

هذه الشعوب التي استفرد بها فساد أنظمتها الديكتاتورية من جهةٍ، وفساد الإسلام السياسي من جهة أخرى، فانفضّت عن الأول، ولجأت إلى الثاني، وظلّت في الحالين، أسيرة شرطها التاريخي المظلم: أسيرة تخلّفها وغرائزيتها وعاطفيتها. فهي بمحض خُطبٍ عنترية، تستطيع أن تضحك عليها، وتجعلها تنام مخدرة تحت إبطك. شعوب لا تعرف حقاً ماذا تريد ؟ ولا تعرف حقاً إلى أين هي ذاهبة ؟ شعوب خرجَ من بين ظهرانيها، هؤلاء القادة والزعماء، فكانوا مثلها، في رثاثة وعيهم وقصر نظرهم، وفي طريقة فهمهم للعالم ومتغيراته من حولهم. مثلها: لا مشروع لديهم، ولا استراتيجيات. مثلها: يتخبطون، ومثلها: يكررون الخطأ مئات المرات، فيتحوّل الخطأ إلى خطيئة تبدو وكأنها قدر أبدي. من عبد الناصر، إلى صدام حسين، إلى حافظ الأسد، إلى ياسر عرفات، إلى خالد مشعل، إلى حسن نصر الله. مسيرة طويلة، بالغة البؤس، من الأخطاء والخطايا، جعلت العالم العربي كله تقريباً، يوشك أن يخرج من التاريخ. وكل ذلك من حظ إسرائيل، بالدرجة الأولى. محظوظة هي هذه الدولة الفتية بأعدائها العرب ! إنهم أعداء ولا في الأحلام. أعداء يقدمون لكَ على المائدة، أكثر مما تشتهي وترغب، بل أكثر مما تحلم. فإذا quot; وقعوا quot; لكَ بعد ذلك، وما أكثر ما يقعون، فكيف سترحمهم ؟ وكيف سترفق بهم ؟ مستحيل، بالطبع مستحيل ! هذا هو حالنا مع دولة إسرائيل، حالنا دون ماكياج، منذ ولدت هذه الدولة وإلى يوم الناس هذا. لدينا عدو، لنقُل عنه ما نقول، ولكنه، أولاً وأخيراً، عدو عقلاني، يحسبها جيداً دائماً، ثم يتصرف بناء على هذه الحسابات الدقيقة، فيخرج رابحاً في الأغلب. عدو، خلافاً عنا، ابن زمنه وعصره، وليس متطفلاً عليهما، حتى لو تسربل خارجياً بإرث من الخرافات والأساطير، فهذه هي مجرد قشور على الجسد، لكن الجسد، في العمق منه، معافى وصحيح. جسد معافى وصحيح، يعرف أن السياسة، هي فن حساب وإدارة المصالح: فن قياس النسبة والمنسوب: فن استغلال كل تغيير في المشهد العالمي لصالحك: فن استغلال كل نقاط قوتك، وبالمقابل، استغلال كل ثغرة في جدار الخصم، كل نقاط ضعفه التي تتبدى هنا أو هناك. فأين كل هذا من عقلية وروحية حماس وحزب الله والقاعدة، وهم موضوع هذه الساعة بل كل هذه المرحلة ؟ أين كل هذا من خُطبهم الرنانة، ولعبهم على وتر عواطف الجماهير العربية المسحوقة المغيّبة الوعي والفعالية الحقّة ؟ يسِمُ مهدي عاكف، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، في لقاء مع قناة الجزيرة الظلامية، كلَ العقلانيين العرب، من مفكرين ومحللين، بميسم quot; الانبطاحية quot; والخيانة. يصفهم بالمهزومين وبالطابور الخامس وبمُسوّقي الهزيمة. فكيف ستتحاور أو تتساجل مع لغة بهذا المستوى من الانحطاط ؟ لغة هي لغة رجل يشكّل أعلى رأس في منظومة الإسلام السياسي العربي في عصرنا الأسود هذا ؟

ومع ذلك، وبالرغم من ذلك، تقول لا بأس. فالانبطاحيون [ يا لها من تسمية لغوية فخمة ! ] الإنبطاحيون هؤلاء لا يمثلون أحداً، ولا يتكلمون بالوكالة عن أحد. فقط هم لسانُ حال أنفسهم، ولا مطمح لديهم بأن يقودوا كُتل الجماهير الكبيرة. إنهم خارج هذا المجد المجاني، وأيضاً خارج الأحزاب والقوى السياسية. بيد أنهم، ما كانوا ولن يكونوا أبداً، خارج عقولهم وثقافتهم: خارج ضمائرهم. فهم أولاً وأخيراً، من طين هذه الأرض الطيبة، ومن عذاب هؤلاء الناس، حتى لو افترقوا، في لحظة تاريخية معينة، عن وعي ومنظومة تفكير هؤلاء العوام، فخرجوا عن السائد والمقبول. فتلك هي وظيفتهم، وذلك هو واجبهم ودورهم تجاه شعوبهم، وتجاه الحقيقة أولاً. واجبهم في أن يقولوا هذه الحقيقة، عارية، مهما تكن صادمة، ودورهم في تأسيس غدٍ أقل بؤساً، ما دام الغد الأفضل، بعيداً جداً لم يزل. غدٍ تختفي فيه كلُ مُغيّبات الوعي، سواء كانت تتمسّح بالفهم المغلوط للدين، أو الفهم عينه للوطنية، أو سواهما. إن ما تقودنا إليه حماس وحزب الله والقاعدة، قادَنا إليه من قبل، جمال عبد الناصر، وياسر عرفات وصدام حسين: الهزيمة. وليس الهزيمة فقط، بل أعتى نوع منها وهو: الهزيمة المنكرة. فنحن، كل هذه الشعوب المهانة والذليلة والفقيرة، لا نمتلك من أسباب القوة، ما يمتلكه عدونا التاريخي. فعدونا التاريخي، فضلاً عما يمتلكه من قوة داخلية مؤسسة على العلم، وراءه أكبر وأضخم قوة في العالم وهي أمريكا، أمريكا بكل جبروتها، فمن وراءنا نحن ؟ إيران التي يراهن عليها مهدي عاكف ؟ لإيران حساباتها الخاصة بها، وما نحن إلا ورقة في إضبارة هذه الحسابات. سوريا ؟ سوريا لها حساباتها أيضاً، وأهمها بقاء وتمكين الوريث الجمهوري، من كرسي الحكم. لذا فهي أدمنت، ومنذ عقود، على أن يحارب الآخرون، نيابة عنها. فماذا يتبقى إذاً ؟ وعلى ماذا نراهن ؟ نراهن على أوهامنا، وعلى نرجسيتنا الجريحة: نراهن على حناجرنا من العيار الثقيل، كسلاح أوحد. نراهن على أننا إذا قلنا للشيء كن فسيكون. إذا قلنا إن إسرائيل ضعيفة، وصدقنا ذلك، فقلناه بحماس وإيمان وإخلاص، فستتحوّل إسرائيل فوراً، أو بعد حين، إلى دولة ضعيفة. إنه الحلّ السحري الذي يناسب عقلية الخرافات. الحل السحري الذي يؤبّد عقلية الخرافات، إذا جاز لمفردة quot; عقلية quot; أن ترتبط مع الخرافات. في الصيف الفائت، دخلتُ ولا أعرف كيف، في حوار طرشان، مع واحد من هؤلاء، قائد كبير ومثقف من الإخوان. أثناء الحديث، وحين عجز عن مواجهة الحقائق الدامغة على الأرض، أخذته العزةُ بنشوة اللغة المقدسة، فأقسم لي بأن quot; الكيان المسخ quot; زائل. زائل لا محالة. قلت له: كيف ؟ فقال: يا أخي، ألا ترى أنني أقسمتُ لكَ ؟ ألا تصدّق قسَمي المعظّم ؟ قلت له أنا لا أصدق شيئاً. فقط أصدق الواقع ومعطيات الواقع. فقط أصدق أن لدى إسرائيل مئات الرؤوس النووية، وأن اقتصادها أقوى من اقتصادات الدول العربية مجتمعة أو تكاد. فما دخل حلفان الأيمان المغلّظة في الموضوع ؟ وما دخل الميتافيزيقا، وهي شيء غير أكيد بالمرة، بحقائق واقعنا الجهم البارد ؟ ولماذا نطلب من القوى العظمى في العالم أن تتغيّر هي، بما يناسبنا نحن، بينما نحن، الطرف الأضعف، ثابتون خالدون جامدون ولا الجبال ؟ ولماذا ليس من حق تلك القوى، بالمقابل أن تطالبنا نحن بالتغيير، خصوصاً ونحن ضعاف مهازيل متخلّفون الخ الخ ؟

سكتَ محدّثي، ولم يجد ليُنهي الحديث، سوى الدعاء بأن يهديني الله، ويعيدني إلى حظيرة الدين القويم. هذه هي عقلية قائد. ولا أقول هذا الكلام، لخلاف أيديولوجي، حاشا، ولكن أقوله، لأنه حدثَ فعلاً، فكيف سننتظر الفرج، من أمثال هؤلاء ؟ وإلى أين سيأخذوننا إلا إلى الكارثة ؟