أولمرت، المدني، رجل البلديات، البراغماتي، بل رجل التسويات الداخلية بامتياز، قال قبل أسابيع quot;إن على الفلسطينيين أن يعرفوا أنّ رب البيت، من الآن فصاعداً، قد جُنّ، وإنه لى استعداد لأن يأتي أي فعل يأتيه أرباب البيوت المجانينquot;. حين سمعت هذا الكلام بالعبرية من فمه، لا أعرف لمَ ابتسمت، لمَ أخذت حديثه العصبي، الغريب على لسانه، مأخذَ الاستخفاف. فحتى شارون، وكل قبيلة العسكريين من قبله، لم يقولوا مثل هذا الهذيان أو الذهان. لم يقولوه، على الأقل جهاراً أمام وسائل الإعلام. لكن التطورات الدراماتيكية التي حدثت وما زالت تحدث في الإقليم، أعادتني إلى مراجعة موقفي حيال ما هدد به رئيس حزب كاديما ورئيس الوزراء. ذلك أن كل فعل اتخذه بعد قوله ذاك، أكدّ أن الرجل قد جُنّ فعلاً وبالفعل، وأنه قد انتقل، من مرحلة التهديد الأهوج، إلى مرحلة الفعل الدموي الأهوج أيضاً.
إن ما يحدث في لبنان، هو جنون أولمرتي حقيقي. جنون من الطراز الإسرائيلي الخاص والخالص. فالرجل، وفي ذروة جنونه وهياجه، ذهب إلى أقصى ما يمكن أن يتوقعه المرء منه. كل هذا التدمير المحموم للبُنى التحتية في لبنان _ تقريباً بكلفة مليار دولار حتى اللحظة، كل هذا القتل الشيطاني للمدنيين اللبنانيين، هذه الأعداد التي تجاوزت إلى الآن، المئتين من البشر الضحايا، والذاهبة بسرعة نحو المئة الثالثة وربما الرابعة، فالخامسة، ولا قدر الله، نحو الألف الأول والثاني، فيما لو استمرت هذه الحرب المجنونة. كل هذا يؤكد، بأن الذريعة الإسرائيلية، بتحرير جندييها من أسر حزب الله، هي مجرد ذريعة، لم تعد تنطلي على أحد. فواضح أن الرجل المدني، القابع في مقر رئاسة الوزراء في القدس الغربية، قد لبس بزّته العسكرية، لا من أجل جنديين ولا عشرة، وإنما من أجل أهداف كبرى، كانت موضوعة سابقاً على الأجندة الحكومية، وجاءت مغامرة حزب الله، لتعطيها فرصة الظهور العلني، وفرصة التحقيق معاً. إن إسرائيل، غير سعيدة مطلقاً، بالنهوض العنقائي اللبناني من خراب الحرب الأهلية الطويلة. فلبنان نهض بوتيرة، أقلقت إسرائيل. نهض بما يُشكّل منافساً جدياً لها، على غير صعيد. ولذا، كان لا بد له من أن يعود عقدين من الزمن إلى الوراء، على الأقل، لكي تنتهي آفاق هذه المنافسة. ولعلّي أركّز هنا على الجانب الاقتصادي السياحي بالدرجة الأولى، رغم أنه جانب غير مذكور في كل ما نقرأ ونشاهد من تحليلات. ثمة طموحات أعلى منه بالطبع، وثمة مطالب لها أولوية على أجندة أولمرت، تتخذ طابعاً استراتيجياً، مثل إنهاء حزب الله، ودفعه ليستقر وراء نهر الليطاني، وبذا ينتهي خطره، وتنتهي به الورقةُ الإيرانية وحسابات طهران ودمشق. فحزب الله هو ذراع سوريا وإيران، وبالأخص الأخيرة، لذا لا بد من نهاية لهذا الذراع، نهاية تُسرّع بهزيمة أو على الأقل تراجع الموقف الإيراني تجاه ملفه النووي. هذه هي حسابات إسرائيل، ومن خلفها أمريكا، لكن أولمرت، وفي غمرة جنونه العسكري، لم يلعب اللعبة بالتدرج وكما هي الأصول، بل كان أسرع من مجنون بالفعل، ما أوقعه، وأوقع شعبه، فيما لا تُحمد عقباه. فلأول مرة في تاريخ الدولة العبرية، يعاني الشعب الإسرائيلي من كل هذا الرعب. ذلك أن الخطر الجدي والحقيقي، وصل إلى أعماق بيوتهم، على شكل زخات من الصواريخ، لها أسماء مختلفة، ووقع نفسي واحد. صواريخ على كل مناطق الشمال، والآن ثمة خشية حقيقية من أن تصل لقلب العاصمة التجارية تل أبيب وتتجاوزها إلى النقب. إنه أمر لم يتصوّره الكثير من الإسرائيليين، لا مدنيين ولا عسكريين. لقد دبّ الرعب في نفوسهم، بعد أن دبّ الجنون في عقل رئيس وزرائهم. فلم يتصرف الرجل بحكمة أبداً، ولم يُدر هذه الأزمة التي توشك أن تتحوّل إلى حرب إقليمية، بأي قدر من بعد النظر السياسي. وما المظاهرة التي خرجت أخيراً في قلب الدولة، تندد بالحرب، وبالمبالغة في الاستخدام المفرط للقوة، إلا بداية الغيث. ذلك أن الشعب الإسرائيلي، بطبيعته، وبسيكولوجيته، لا يحتمل حرباً في عقر داره. ولا يحتمل بالتالي، أن يظل طويلاً مهدداً، في حركته، وأن يقبع طويلاً في الملاجىء. لذا، وبضغط من هذا الشعب على رئيس حكومته، نتوقع نهاية قريبة للأزمة، قبل أن تتحوّل حرباً. نتوقع تسويات ما بين إسرائيل، وإيران، عبر وسطاء دوليين. فلا الشعب اللبناني في مصلحته استمرار هذه الحرب، ولا الشعب الإسرائيلي أيضاً. فلبنان دفع الثمن الأبهظ، لهذا الجنون الأولمرتي، أما الشعب الإسرائيلي، فيريدها حرباً بعيدة عنه، يتابعها في التلفزيون فقط، فإن جاءته إلى غرفة النوم والصالون، فسوف يرفضها على الأرجح، وسوف يضغط باتجاه إيجاد حل سياسي سريع لها. لا يعني هذا أن الشعب الإسرائيلي غير موحد في مواقفه تجاه ما يحدث، بل يعني إنه، وبالدرجة الأولى، غير مستعد، وبالأخص سيكولوجياً، لتحمّل تداعياتها ونتائجها على جلده مباشرة. لذا، ثمة أمل واقعي، بإيجاد حل ما، قبل أن تتدهور الأوضاع وتذهب المنطقة كلها إلى المجهول. ولعل وجود رئيس الوزراء الفرنسي في لبنان الآن، وسولانا من قبله، ووفود الأمم المتحدة، يوحي بأن ثمة حل أو إمكانية حل. ففي الأخير، ليس من مصلحة أوروبا، تحديداً، أن تنقلب الطاولة على ما فيها. أما أمريكا، فموقفها حتى اللحظة مع إسرائيل، قلباً وقالباً، ولكن إلى حد محسوب، حد تصل فيه الحرب في الميدان، إلى تحقيق رزمة من النتائج، التي ستكون لازمة وضرورية على طاولة الحوار غير المباشر، بعدئذ.
إنها الحرب إذاً. حرب ظالمة تُفرض على شعب أعزل، أُثخن من قبل، بأنواع وأشكال من الحروب،فلم يرحمه أحد، لا من قريب ولا من بعيد. وحين تنفس الصعداء قليلاً، حين تعافى قليلاً، جاءته حسابات خارجية، وجاءه حزب الله، وجاءته إسرائيل، ليعودوا به عقوداً إلى الوراء. حرب إقليمية تحدث على ترابه الوطني، لمصلحة أطراف أخرى. فهل هذا عدل وهل هذا منطق، في زمن الجميعُ جُنَّ فيه، الجميع : من أولمرت إلى خامئني إلى نجاد إلى بيريتس، إلى السيد حسن نصر الله.
يا شعب لبنان الجميل، قلوبنا معك، في منحتك الكبرى هذه. قلوبنا فقط، لأننا لا نمتلك شيئاً آخر.