ليست الحرب شراً خالصاً. كلا، كيلا نقع في سوء الفهم، يتوجب القول من أولها، بأن الحرب شر خالص، ومع ذلك لا تخلو من بعض أُعطيات العيش الطيبة. هي أُعطيات، على الأغلب، غير مقصودة : تأتي عَرَضية، وبنت لحظتها وبنت ظروفها. إنها، كما يمكن القول، عشوائية أيضاً. ففي الحرب، [ هذه الحرب التي شُنّت على غزة، قبل ثلاثة أسابيع تقريباً، ثم تدحرجت إلى جنوب لبنان، ووصلت إلى بيروت ] قطعت إسرائيل عنا الكهرباء. فقط 6 ساعات يومياً، وأحياناً 4 لا أكثر. ومَن لا يعجبه الحال فليشرب من شاطىء البحر القريب. بما يعني ببساطة، توقف كل النشاط البشري، الذي يقوم على وجود الكهرباء، في هذه المنطقة التعيسة من العالم. مليون ونصف المليون من البشر بلا كهرباء. وليس هذا فحسب، بل قسّمت قطاع غزة، إلى مناطق عسكرية مغلقة، وجرّفت أسفلت الطرق، ووضعت تلالاً من الرمل والطين على كل طريق. بما يعني أيضاً عجزنا عن الذهاب إلى وظائفنا، وبقاؤنا في البيوت، متبطّلين بلا عمل. وعليه، ودرءاً للضجر الطويل الذي يتخلل البطالة أثناء الحروب، لجأتُ إلى عادتي القديمة الحميمة، في القراءة من الكتب ذات الأوراق، بعدما أوشكت أن أنسى هذه العادة، في حمى متابعة وإدمان الإنترنت.

عدت إلى رفوف مكتبتي، مستغلاً نور الشمس ما إن تبزغ، ومستمتعاً بأعطية هذه الساعات من الفراغ، واستنشقت رائحة الكتب شبه المهجورة، واحترت ماذا اقرأ. ففي زمن الحروب أيضاً، ليس سهلاً أن تختار الكتاب المناسب لمزاج اللحظة. وجدتُ عشر روايات ل ميلان كونديرا، فقررت قراءة بعض ما لم اقرأه منها. رواية الخلود مثلاً، رواية إدوار والله، ورواية الجهل. استمتعت بالروايات الثلاث، وبالأخص الأولى والثالثة. أما رواية إدوار فهي على الأرجح قصة لا رواية. قصة كان كونديرا كتبها في بوهيميا، قبل أن يهاجر إلى باريس في العام 75. استمتعت بكونديرا، فلديه، فضلاً عن موسوعيته الثقافية المذهلة، التي تتخلل جميع رواياته، حسٌّ هائل بالسخرية والمفارقة، بل لعله حسّ أقرب إلى الكوميديا السوداء السادية منه إلى أنواع أخرى. فالرجل يختار لأبطاله، من المواقف، أشدها إحراجاً، وواقعيةً مع ذلك، بحيث يجعلنا نحن القراء، نصدق الحدث تماماً، ثم يضع ردّ فعل البطل، وموقفه من الحدث، بما يجعلنا نفرط من الضحك، ولكنه، كما قال المتنبي، ضحكٌ كالبكاء!

لقد اكتشفت، أن أجمل ما يليق بعبثية الحرب، هو ألا تأخذها على محمل الجد- وذلك بسبب من جديتها الكاملة، وأن تتعامل معها، بروحية كونديرا وتقنياته في العمل الروائي. كونديرا ساخر عظيم، يستطيع أن يكشف لك جانب الهزل، في أكثر الأشياء والمواقف سوداوية وجديّة- إرجع على سبيل المثال، إلى بطله إدوار حين لم يقدر هذا على مضاجعة المديرة الشيوعية إلا حين أجبرها على الصلاة. وأظن أن هذه السمة، أو هذه الخصيصة الفارقة [ الهَزَل ] هي أيضاً إحدى أكبر خصائص الحرب، مطلق الحرب، في كل زمان ومكان. فلا شيء أكثر عبثاً وهَزلاً وجديةً ودموية من الحرب. إنها ذروة العبث، ذروة غباء البشر، ذروة هزلهم وهم جادون في ذهابهم إلى أقصى وأقسى نقطة!
قبل كونديرا، قرأت روايتين في أدب تيار الواقعية القذرة الأمريكي، روايتين هما عاشق النساء وحياة وحشية لنفس المؤلف ريتشارد فورد، لكنني لم أخذ منهما ما أحتاجه لهذه اللحظة. عجزت الروايتان الجميلتان، ومترجمهما الفاضل كامل يوسف حسين، وهو بالمناسبة من أفضل وأدق المترجمين المصريين والعرب، عن منحي ما يتعّذر عليهما أن تمنحاه. والعيب بالطبع، فيّ لا في الروايتين. أما كونديرا، فقد وجدت عنده بغيتي وغايتي، فاكتفيت به، ولم أذهب بعده إلى روائي آخر.
لم أذهب إلى روائي آخر، بل ذهبت إلى تفاصيل وتداعيات هذه الحرب العبثية القذرة، التي تشنها علينا إسرائيل، من باب العقاب الجماعي ليس أكثر. العقاب الجماعي، الذي هو سياستها الكلاسيكية منذ قامت في 1948.

واسمحوا لي بالحديث عن قصة واقعية حدثت قبل يومين فقط، وأن أربطها بحديثنا عن كونديرا. فلقد خرج أحد الفتيان الغزيين، في المساء، ليجلب لأبيه، بشيكل فلافل. وقف الفتى على الدور، ينتظر، وحين جاء دوره، بعد نصف ساعة، وفي اللحظة ذاتها، التي مدّ فيها يده لتناول قرطاس الفلافل من البائع، جاءته الطلقة واخترقت عموده الفقري! طلقة طائشة أو متعمّدة، ليس هذا هو السؤال، فكل شيء جائز في الحروب. ولكنها، وهذا هو الأهم، طلقة من عيار 1000، أي طولها عشرة سنتيمترات بالتمام والكمال. إنها، أقرب إلى الإزميل منها إلى الطلقة. اخترقت الجسد الهشّ لصبي في عمر اليفاعة الأولى، واستقرت هناك، فوق إليتيه. ماذا يعني هذا ؟ لن أجيبكم أنا فلست طبيباً مختصاً، بل سأقول لكم ما قاله الطبيب المختصّ : قال إن الصبي سيكون، مئة في المئة، معاقاً، ومن هذه اللحظة، لن يمشي على قدميه إلى الأبد، بل على كرسي متحرك! بل قال ما هو أفدح : سيكون الصبي محظوظاً، لو حصل له هذا، ولم يصب بالشلل التام فيظلّ رقيد الفراش! شاءت الصدف، أن اسمع القصة وأن أرى الصبي، وهو من أقربائي بالمصادفة، بعد أن قرأت كونديرا مباشرة.

عدت إلى البيت المضاء بفتيل سراج، مغموماً، شاعراً أن لا شيء، لا الكلمات ولا غيرها، تنفع في مثل موقف كهذا. فقط الصمت والتجهم، ولا شيء سواهما. فماذا يمكنك أن تقول أو أن تعقّب في لحظة جادة جداً بقدر ما هي عبثية جداً وهزلية جداً مثل هذه اللحظة ؟
تألمت عميقاً على الصبي الجميل ذو الملامح الصابحة البريئة. لكنني فكّرت في الأب المصدوم، الذي أبداً، لم يخطر على باله أبداً، أن يكلّفه إرسال ولده لمشوار بسيط لشراء العشاء الفقير للعائلة، كل هذا الثمن. بل خشيت أن يصاب الأب، بعقدة الذنب الأبدية، فلا يغفر لنفسه، إلى أن يموت، ما سببه من إعاقة للصبي البريء.
إنها قصة، تحتاج إلى عين وعبقرية كونديرا، ليغوص في مجاهلها وطيّاتها، كي يرينا الجانب المعتم لكن الهزلي جداً من الحياة.

إن إسرائيل، بهذا المعنى، هي من أكثر البلاد في العالم، عبثية وهزلية وعتامة. بل إنها الأشد هزلاً، وإن كانت روحها غير هزلية بالمرة، بما تقترفه من أفعال وأهوال. هزلية وإن لم تقصد وإن لم تدري أيضاً. والحق أن كل دولة احتلال، كل احتلال، فيه من الهزل بقدر ما فيه من عنف وهول. ففي كل عنف تاريخي، كل هول تاريخي، موجّه ضد ضعفاء، ثمة السويداء والهّزّل متجاوران متوازيان متقاطعان. الهزل، بل ربما جانب الهزل يفوق الجانب الآخر. أو هو ما يترسّب بعد زوال الأحداث : هو ما يبقى في أخفى خفايا الذاكرة!
على الأغلب، ستنقضي هذه الحرب القذرة، كما انقضت سابقاتها. وسيعاد بناء ما تمّ تدميره. وسيُدفن الضحايا، ويمضي الأحياء الباقون، إلى مشاغل دنياهم. لكن قصة هذا الفتى، لن تمضي ولن تًنسى، أقلّه بالنسبة لي، لماذا ؟ لأن الهزل والجدّ فيها، أعمق من أن يتبخّرا في الهواء. أفدح من أن يتبخّرا في الهواء، فإسرائيل، رابع أقوى جيش في العالم، استرجلت على صبي صغير بريء، وشلّته، وهو يمد يده ليتناول من صانع الفلافل، قرطاس الفلافل. ستقولون صدفة هي. أجل هي صدفة سيئة بل الأسوأ في تاريخ الولد والأب. لكنها، من أسف، صدفة تتكرر يومياً، على يد رابع أقوى جيش في العالم، فلا يفعل هذا الجيش، سوى أن يغضّ الطرف عن همجية وبربرية جنوده الساديين، وفي الأكثر، يتأسف إعلامياً وللاستهلاك العالمي فقط، لأنه، في حربه quot; المقدسة العادلة quot; ، أضرّ وألحق الأذى ببعض المدنيين! وكأن الشعب الفلسطيني الأعزل، الذي تًشنّ عليه هذه الحرب المجرمة، هو في معظمه من العسكريين، وفقط ثمة قلة من المدنيين الأبرياء، ممن لا ذنب لهم، وممن يقعون بالصدفة تحت طائلة الدمار، مثلما يحدث في كل حرب. كلا. إسرائيل تعرف، والعالم كله يعرف، أن هذه الحرب القذرة، هي أولاً وفي الأساس، تقع ضد المدنيين. بداية من قطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء، عن مليون ونصف من السكان، ونهاية بقصف المنازل واحتلال أسطحها، وقتل كل ما يتحرك أمام منظار القناص الإسرائيلي، فكل ما يتحرك هو هدف لهذا القناص. هذه هي الحقيقة التي نعرفها جميعاً، نحن وإسرائيل والعالم، ومع ذلك، يتجاهلها من يريد أو من في مصلحته أن يتجاهلها. ففي غياب القانون العالمي الملزم، تغيب أول ما تغيب، الأخلاق. وليس جديداً، القول بأن جيش إسرائيل، هو جيش لا أخلاقي. لكن الجديد في الأمر، أن هذا الجيش، تجاوز كل المحظورات وكل الخطوط الحمراء. حتى وصل به الأمر [ يا لهم مَن ينسون الحديث عن الهَزل حين يتحدثون عن الحروب! ] أن أقدمَ بعضُ جنوده، في قرية القرارة، جنوب قطاع غزة، ورغبةً في التسلية ودفع الضجر، على قنص الدجاجات والديوك، لامرأة عجوز أرملة، تعيش وحيدةً مع دجاجاتها وديوكها!

هذا هو رابع أقوى جيش في العالم،
وهذه هي أخلاقياته،
لا شك أننا بحاجة إلى السيد كونديرا!