الواقع يرتدي اقنعة معقدة مدهونة بالدهاء المتقن، ملفوفة بالخداع الجليل، موشاة بالهدايا المقدسة، تدوّرها حواف الرهبة الادبية والرهاب البلاغي، تحضنها عاهرات تجلببن بزي راهبات، يمسح مخاطها وقذاها خطاب المصائر الحاسمة.. تلك التي حفها الاثم من مكان والطهر من اخر فتمكننت بدهاء الثنائيات الجائرة تلك التي تطوع الكائن لعشق عبوديته والاجساد الى تمني سياطها.. الواقع يرتدي قناع فولكلوري يتمحور بين مقاومة وعدو.. كل هذه الحصيلة الادبية احتلت ادمغة عالم لم ينمو بويصة ولم يفكر ببناء مصنع دواء لمرضاه بل مصنع جراثيم لاصحائه كي يصنع الموت وينثر، كحبيبات الذهب اللامعة، ثقافة المدافن والشهداء والدمار تلك المدعومة بغمز بلاغي ونفخة لغوية اعتادت اطلاق الغازات الكريهة، والماساة ان حاسة الشم اصيبت بتمويت منهجي! دابت على تمرير كل هذه الروائح الكريهة والمقززة وهي تاتي بحمالات لا نعرف كيف تحقق تراكم طويل حيال الاجماع عليها، وهي جمع في هيئة الشتيت وغناء في هيئة عواء، لكن عمليات تمويت الحواس فوتت على تلك المكاره والقبائح مشهدها وحقيقتها المعتادة.. الواقع يرتدي عمامة وجلباب وحجاب... هكذا حرائق وحروب وجراح وخراب هائل اعتاد اتقان ارتداء الحجاب والاقنعة، وجرى تمرير ابشع الاعمال في اليات وقوالب وسياقات ايدها وصفق لها وتواطأ عليها الضحايا اكثر من جلاديهم، كريهة هذه الضحية التي تحمي جلادها يوم افتضاح امره فقد جرى ترويض القتيل على حماية القاتل من تجريم القانون بل واصبح جرمه عملا بطوليا كما اعتدنا التعرف والتعايش على مشهد صار في حكم الارث الفولكلوري.

قل حماسنا حتى على طرد ذبابة تزعج مقدمة انوفنا وقل حماسنا على حوار الحجر الملفوف بلحم ادمي، ومع اقتناعنا ان اية كلمة في عالمنا اقل تاثيرا من الخرس والصمت والمحو، ولكن اعتدنا ممارسة حراكنا في هذه القدرية الحمقاء مما تحترفه وتفعله الكلمات، حيث لا نشك للحظة واحدة بوجود انتفاخات لغوية تصدر هذه الروائح الكريهة!.
كيف نتمكن من جعل الحقيقة قوية الاثر كفعل الفلفل باللسان؟ وما دام الحوار يفترض ضرورة صناعة احتراقات لغوية وخروقات ادبية صادمة فاننا لا نجد الا نزع القناع عما يجري الان من حرائق في المنطقة وتاليا تحديد مكان وطبوغرافيا الصلاح والفضل وتاليا الوقوف معه، لاننا كموجودات حية لا يخلق بارئنا الا غريزة الانتماء لذاتنا!.

هل اسرائيل تخوض حربا بالنيابة عن العرب ضد ايران؟ ذلك هو الاصل وتلك الاهزوجة المقاومة والصمودية هي القناع.. والغريب في الامر كيف اجتمع خطاب سنة العراق وشيعة لبنان في قالب واحد، يكرس كذبة الشعارات المصيرية او خطابات العدو والمصائر ليثبت لنا ان كل الحروب الخارجية تخاض بسبب ازمات داخلية مستحكمة، وهكذا اسرائيل واميركا هما ضحايا محمولات داخلية مختزنة ومتورمة، تحاول احراج خصومها الداخليين عن طريق تهريب رمزية الصراعات الداخلية الى الخارج.

نجح حزب الله في احراج خصومه وسينجح كل معاق في افشال حركة السير السوي الى الامام مادام هناك من يخجل في اطلاق سراح اللغة من لفائفها واحجبتها والثمتها، ولعل الفريق الاخر حين يشعر بغصة لغوية ولم يفصح علنا عن السلام مع اسرائيل والسلام برمته هو الاولوية والمصلحة العليا للمجتمع فان ذلك الفريق الخجول والمستحي سيبقى يدفع ثمن استحيائه اللغوي، ويتواطأ في خطابه رغم معرفته ان الصراع مع اسرائيل لا ينطو على جوهره وغاياته انما ينطوي على تازمات داخلية اجتماعية تغطي وتلثم الغزو المقابل الذي جاء محمولا بهذا الصراع وبالتالي فان الرمزية السياسية المتقنة الاقفال والدهاء، تقدم نتيجة ان التواطؤ مع هذا الخطاب، برهابه الادبي، يتناغم مع خيانة وطنية مقابلة وهي تحويل البلد الى كيس رمل ايراني، تقوم حفلات شواء لحم ابنائه وحرائقه وتدمير جسوره بدعم اوراق المفاوض الايراني على جبهاته الدولية، وهنا التظهير الاعلامي المتراكم، الذي كرس وعزز الابلسة الاسرائيلية ثم ترسيم خيالها الشيطاني في تصورات المواطن العربي، قد مرر التسلل الايراني عبر هذه الوجدانية السياسية الجامعة، وهي تقدم مادة خصبة للقهر والقمع والثنائيات الميكانيزمية التي يتطلبها خطاب العنف والارهاب والقمع وكل مؤجلات البناء والتنمية والاعمار! وطالما ان المجتمع مهيء تماما للتاجيل تحت وابل شعارات التحرير، فلا يسع الفرد الرهان او التفاؤل برهان يحيل هذه المجتمع المؤجل داخل الثكنات والعسكرة والجهاد والعنف والقمع الى مجتمع يخطو او ينمو، مجرد ينمو في عروقه وعظامه البدائية تلك التي وجدت نموها كعامل رفاه وبقاء في ادنى الاحياء واكثرها وضاعة، لكن هذا المجتمع عاش على تاريخ قلب الحقائق، وحتى قلب الفاعلية البيولوجية العادية تلك التي تمتع سمكة او جرذ او قرد وهي تجري في العروق كي تمجد الحياة، الا ان تمجيد الموت بكل هذه الحجب البلاغية والتلقيم البياني والقهر اللغوي يجعل امكان الرهان على فرح دجاجة او سلام قرد غير ممكن وغير متحقق لدى هذه المجموعات المتكئبة من البشر.. السلام بمعناه المشيئي والقدري ذلك الذي شكل مساحة الله في مخلوقاته، وهو يشد طاقة الحنين للرفاه الداخلي بقوة كي ترشح عنها تفاهمات مع البيئة والمحيط، الا ان هذا النظام هو خرب وخاوي ومجوف وسط هذه المجموعة البشرية التي هي (نحن). هناك اكداس مفاهيمية ومنظومات من الانتفاخات اللغوية تجعل الخراب والحرائق والدمار والموت عملا صالحا وبارئا خلاقا فيما مصبات الحقيقة وخلجان الالق الواقعي لها يقول عكس ذلك، وقد جرى ترسيم الموقف والمشهد على اعتبار ان اسرائيل معتدية غازية قاتلة، وقد جاء ارث الخراب واساطين التاريخ على ارث التراشق العلماني القديم ليؤسس لنفسه جمهوريات خراب جديدة اكثر عتوا وحدة وعسكرة.

لا نكاد نصدق امثال ثورية نتنياهو وهو يشن هجمات على اميركا ويتهمها quot;بصانعة محرقةquot; جديدة لليهود وهي قد اعفت العرب من الديمقراطية لتجعل اسرائيل سمكة صغيرة بين القرش الدكتاتوري العربي، كما اوحى بكتابه (مكان تحت الشمس)، لا نستطيع تصديق ثورية نتنياهو اتجاه مصائرنا، لكن نظريته للسلام مغرية بحيث تفرض علينا نوعا من الشك المخفف، لكن اسرائيل التي متعها جدا مجيء الاسلاميين في العراق وفلسطين وسيطرتهم الان على القرار اللبناني، ذلك لان اسرائيل تدرك ان التخلص من الاسلاميين هو خدمة كبيرة ومجانية، ان هي فعلتها، لمجتمعاتنا، ولو كنت اسرائيليا لما قدمت هذه الخدمة بل جعلت هذه المجتمعات تمارس العقاب الذاتي بواسطة منهجية التخريب والتخلف والدمار الذي احدثه الاعصار الاسلامي اينما حل ووضع اقدامه، حيث اليباب والقحل واليباس والجدب يحل اينما حلت هذه المجموعة الشبقة للدماء والقتل..
من سيدفع لاسرائيل او اميركا حين تخلص الحياة من خطباء الموت والجدب والقحول كلها؟ وحين تنهزم ما الذي سينتصر؟ معادلة غير كريمة شديدة الحرج، تصيب الادمغة بالتثاؤب والهمود والضمور.. هؤلاء الذين جعلوا الحياة والسياسة ادارة جامع ومصلى وجعلوا الجامع ثكنة وجعلوا الثكنة اقبية امن وتحقيق وجعلوا الاقبية مسالخ لصناعة الموت، هل من المعقول ان اميركا او اسرائيل يحبوننا كي يخلصونا من كل هذا الموت؟ فهزيمتهم امام هكذا خصوم هو نصر لهم وانتصارهم على كل هذا الموت هو نصر للحياة التي ضعفت في مجتمعاتنا.. ذلك ما كتبناه عند انتصار الخمينية عام 1983 بـ (الهزائم المنتصرة).

ليس الواقع بوليسيا ولا النتائج العملية تهمس بعقل المؤامرة انما الحقيقة الجلية تفيد الى ان اسرائيل تخوض حربا نيابة عن المتضررين العرب من ايران، لاسيما وقد سلخ الصراع مع اسرائيل من ارتكازه الفولكلوري، بمداه الفلسطيني بعد التفاهمات العملية بين الفلسطينيين واسرائيل، حيث اسقطت رياح الملحمة والعقل البطولي والماساوي المؤسطر من هذه القضية، ما يدل الى ان حزب الله يحاول استعادت النفخ الاسطوري الملحمي لهذه القضية، بالتناغم مع طرف عبثي اخر وهو حركة حماس،والطرفان يقاتلان بخطاب الجنة والنار وليس خطاب الوطن والحقوق والتنمية والرفاه وتاليا الحياة بمعناها العادي.. في ظل هذا التنويم الملحمي يمرر حزب الله الضغوط الايرانية ويعيد لبنان الى دائرة بازار المساومات الخارجية خصوصا وان الكمون السوري، يحتاج لحرائق ودمار يثار من انسحاباته التاديبية من لبنان، وهكذا فقد نجحت سوريا بمعاقبة لبنان اسرائيليا ونجحت ايران في اعادة اعتبار الملحمة الاسلامية الجهادية لتوسع من دائرة ضغوطها ونفوذها.. من يدفع للجنود الاسرائيليين رواتبهم كي يحرروا لبنان من الاستعمار والمخابرات الايرانية والسورية؟ هل ستنجح اسرائيل في اخراجنا من اللغة بعد كل هذا الدمار والحرائق؟ لا نعتقد بل تاكدنا ان الحرائق قدمت لخطبائنا خصوبة لفظية كبيرة