أظهرت الأحداث الجارية في الساحة العراقية الحاجة الملحة للعمل على التقارب المذهبي لإبعاد شبح الحرب الطائفية , التي تخطط لها دوائر أمريكية و صهيونية وإيرانية صفوية , وهذا التحرك مطلوب من العلماء العرب أبناء المدرسة الأمامية اولا وذلك بالاعتماد على القواعد التي أرسى دعائمها أسلافهم الأخيار الذين بذلوا اهتماما بالتقارب مع المذاهب السنية. حيث تميز أولئك العلماء عمن سواهم من العلماء الشيعة الآخرون أنهم كانوا الأكثر اهتماما وعملا في هذا المضمار ومن يقرئ سيرة أولئك الإعلام سيجد الفارق الواضح بين ما قدمه هؤلاء العلماء عمليا على طريق التقارب بين المذاهب الإسلامية وبين ما قدمه المدعون زورا الانتماء لمدرسة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام الذي يفخر في كلمته المأثورة ( ولدني أبي بكر رضي الله عنه مرتين).
لقد شهد مطلع القرن العشرين ومع بداية التكالب الاستعماري على الأمة العربية والإسلامية تحرك واسع من علماء الأمامية العرب نحوا إخوانهم من أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى ساعين من أجل لم الشمل يدفعهم إلى ذلك الحرص والغيرة على الإسلام ووحدة الأمة. وقد انطلق هذا التحرك الوحدوي من العراق ومنها انطلق الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء إلى دمشق وبيروت والقاهرة وفلسطين و كراتشي وطهران إضافة إلى الديار الحجازية المقدسة , وكان يومها مرجعا للطائفة الأمامية , ساعيا إلى لم الشمل وتوحيد الكلمة محاربا التفرقة والتمزق الطائفي. وكان من اشهر تحركاته في هذا المضمار حضوره الفعال في المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في مدينة القدس في عام 1350 هـ حيث أم المصلين في المسجد الأقصى المبارك كما سبق و ام المصلين في الحرم المكي المكرم وقد خلفت خطبه فيهما أثرا بالغا في نفوس أبناء الأمة.
ومن العراق أيضا تحرك الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي يجوب البلدان العربية وقد زار دمشق وبيروت والديار الحجازية المقدسة ومنها ذهب إلى فلسطين ومصر وهناك اجتمع بإمام الأزهر الشريف آنذاك الشيخ سليم البشري ودارت بينهم حوارات مهمة (انظر كتاب المراجعات) صبت جميعها في تضييق الفجوة بين أبناء الأمة الإسلامية.
هذه المواقف والدعوات الوحدوية عززتها تحركات أخرى مماثلة لمرجع عربي آخر هو الإمام المجاهد الشيخ محمد مهدي الخالصي الذي كانت مواقفه و تحركاته الوحدوية أشهر من نار على علم وقد شهدت بجهاده من أجل التقارب بين المذاهب الإسلامية جوامع بغداد وغيرها من المدن العربية الأخرى. ومن ضمن مساعيه الكبيرة والكثيرة في هذا المجال اللقاء الذي شهدته دمشق والذي اجتمع فيها بعلماء الشام الأعلام ومن بينهم فضيلة الشيخ محمد سعيد العرفي الذي كان رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في سورية آنذاك وقد دارت بينه وبين الإمام الخالصي حوارات مهمة تكللت بزيارة متقابلة قام بها الشيخ العرفي لمدينة الكاظمية في بغداد حيث المدرسة الخالصية وقد ألقى فيها الشيخ العرفي خطبة صلاة الجمعة في يوم 30/12/1951م وكانت من أروع الخطب و كانت كلمة صادقة تحمل دعوة إلى أبناء الأمة في التخلص من التفرقة وإقامة الوحدة الإسلامية.
لقد كان تحرك الإمام الخالصي يوازيه تحرك وحدوي لمرجع عربي آخر أيضا وهو الشيخ محمد أمين زين الدين وهو من أعلم علماء الأمامية حيث كانت له تحركات واسعة نحو التقارب بين المذاهب الإسلامية والمشهور منها تلك الرسائل التي كان يتبادلها مع فضيلة العلامة الشيخ احمد حسن الباقوري وكان الأخير من أبرز أساتذة علماء الأزهر الشريف وقد أصبح فيما بعد وزيرا للأوقاف في مصر، وقد نقل فضيلته في مقدمة كتابه (المختصر النافع في فقه الأمامية) للمحقق الحلي والمطبوع في مصر عام 1954م الرسائل التي كان يتبادلها مع الشيخ زين الدين وجميعها كانت تدعو إلى التقارب والتآخي بين أبناء المذاهب الإسلامية.
والى جانب تحركات علماء العراق والشام فقد كانت هناك دعوات و تحركات وحدوية إسلامية أخرى انطلقت من الأحواز و تمثل جانب منها بحركة الشيخ محمد طاهر الخاقاني الذي قام بزيارة للمملكة العربية السعودية والكويت والبحرين من اجل الدعوة إلى التقارب والوحدة بين أبناء المذاهب الإسلامية. وقد التقى سماحته في تلك البلدان بالعديد من علماء أهل السنة ودارت بينهم حوارات عديدة لقيت الترحيب من لدن أبناء تلك المناطق. ومن طرائف احد تلك الزيارات التي جاءت في عام 1964 م وتعززت بزيارة أخرى في عام 1966/ ان الشيخ الخاقاني سأل من قبل بعض أبناء منطقة quot; القطيف quot; عن وجه الفرق بين السنة والشيعة، فأجاب الخاقاني مستفتحا حديثه بالقول : ان الإمام احمد ابن حنبل رحمه الله عندما أراد التحدث عن سنة النبي (ص) قام فأسبغ الوضوء وكذلك أني أريد الإقتداء برأي الإمام أحمد. هذا الموقف الوحدوي من جانب الشيخ الخاقاني كان له الأثر في توطين الأخوة والمحبة بين الأمامية و أهل السنة في المناطق التي زارها.
هذه المساعي و التحركات الوحدوية التي قام بها العلماء العرب من أتباع المدرسة الجعفرية والتي أوردنا مختصرا منها قد أعطت ثمارها على صعيد التقارب بين المذاهب الإسلامية وخلقت أجواء من الأخوة والمودة بين جميع الفرق مما دفع بعلماء الأزهر الشريف إلى إصدار فتوى بجواز التعبد بالمذهب الجعفري و تدريسه في جامعة الأزهر آنذاك وهو ما فتح الباب لاحقا أمام تدريس الفقه الجعفري في جامعة آل البيت في المملكة الأردنية الهاشمية .
ولكن في المقابل ماذا قدم مراجع النظام الإيراني والحوزة الصفوية ممن يدّعون أنهم وحدويين سوى الدعوات السياسية التي لم تتجاوز الخطب والمهرجانات الإعلامية التي تقيمها حكومتهم ؟. حيث لا احد يشك بتاتا ان النظام الإيراني وحوزته الطائفية ابرع من عمل بالشعارات وتشكيل المنظمات التي تعمل لترويج هذه الشعارات الخالية من المضامين الحقيقية والتي جاءت تحت مسميات وعناوين ظاهرها حسن وباطنها شر مستطير. ولعل التحذير الذي وجهه احد مراجع الشيعة في أفغانستان قبل أسابيع لمراجع حوزة قم بشأن ضرورة القيام بجمع كتابين طائفيين يحثان على الفتنة بين المسلمين وتم نشرهم مؤخرا من قبل الحوزة المذكورة خير دليل على النفاق الإعلامي الذي تظهره الحوزة الصفوية. حيث جاء في هذا التحذير الموجه من قبل الشيخ محمد أصف محسني رئيس , شورى علماء شيعه أفغانستان، الى مراجع حوزة قم ما هو نصه:
quot;الى مراجع الشيعة في حوزة قم دامت بركاتهم. نبلغكم سلام وتحيات مجلس شورى علماء شيعة أفغانستان ونذكركم ان المسلمين في هذه الوقت أحوج ما يكونوا الى الوحدة والتعاون و العمل المشترك بين المذاهب من اجل حماية الدين الإسلامي المقدس. ولكن مع الأسف أحيانا أعداء الإسلام وأحياناَ الأصدقاء الجاهلين في عدد من الدول الإسلامية يقومون بتأليف الكتب التي تتسبب في إثارة الغضب والحقد واشتعال نار الفتنة التي تؤدي الى نزيف الدماء بين الأخوة المسلمين. وأخيرا قد تم طبع كتابين خطيرين في مدينة قم المقدسة حيث إذا ما دخلت نسخ من هذه الكتب الى بلدنا او أي بلد مجاور آخر فسوف لن تؤدي إلا الى إراقة الدماء وتشديد العداوة بين المسلمين ومن المسلم به ان هذا العمل مخالف لحكم العقل و مصالح المسلمين و هو مخالف لتوصية أئمة أهل البيت ـ عليهمzwnj;السلام ـ ومن المسلم انه لا يرضيكم أيضاء.
إضافة الى ذلك ان حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقوم سنويا باقتطاع مبالغ ملحوظة من بيت مال الشعب الإيراني وتصرفها على طبع الكتب وعقد المؤتمرات على طريق التقارب بين المذاهب الإسلامية غير ان طبع ونشر هكذا كتب سوف تذهب بالنتائج الايجابية لتلك المؤتمرات ، و الأسوأ من ذلك ان الإيرانيين في الشرق والجنوب وغيرها من المناطق الإيرانية هم من أهل السنة وهذا سوف يزعجهم كثيرا و من المحتمل ان يحمل ذلك أخطارا على الدولة الإيرانية. لذا نرى من الصالح ان توصوا المسؤولين الحكوميين بجمع نسخ هذين الكتابين وان تعملوا على منع طبع مثل هذه الكتب وذلك من اجل مصالح بلدكم وحفظ اتحاد ووحدة المسلمينquot;.

هذه الرسالة التي نشرت مختطفات منها بعض وسائل الإعلام الإيرانية وان لم تسم الكتابين المشار إليهم إلا إنها كشفت بوضوح تام جانبا من النفاق الذي يمارسه النظام الإيراني بين دعوته الى التقارب بين المذاهب وبين ترخصيه لنشر كتب طائفية تعمق من العداوة والبغضاء بين المسلمين. و الأفظع من هذا ان الدستور الإيراني قائم أصلا على التفرقة وترسيخ المذهبية العمياء بين المسلمين حيث تمنع المادة الخامسة عشر بعد المئة من هذا الدستور المواطن الإيراني السني من تولي منصب رئاسة الجمهورية لكونه سني فقط. وان البرلمان الإيراني او ما يسمى بمجلس الشورى الإسلامي لم يصل الى رئاسته او حتى هيئة الرئاسية لحد الآن سني واحد. كما ان النظام الإيراني ما يزال يمانع في بناء مسجدا واحد لأهل السنة في طهران وبعد ذلك كله يقولون إنهم دعاة تقارب بين المسلمين.
ولعل في الكلمة الجميلة التي وجهها الدكتور حارث الضاري أمين عام هيئة علماء المسلمين في العراق الى أمين عام ما يسمى quot; بالمجمع العالمي للتقارب بين المذاهب quot; الإيراني محمد علي تسخيري على هامش مؤتمر quot; الاتحاد العالمي لعلماء المسلمينquot; الذي انعقد في تركيا مؤخرا و التي قال فيها quot; نريد حسن عمل يضبط حسن النيةquot; خير جواب على النفاق الإيراني.