يبدو أن الإنسان العربي منذ الأزل قد تعود على العبودية، فحتى عندما كان العرب وثنيين اختار بعضهم، دون جميع البشر على الأرض، أن يسموا أولادهم بأسماء العبودية مثل عبد العُزى وعبد شمس وعبد الدار. ورغم أن البعض الآخر لم يتسموا بأسماء العبودية وكانوا شامخي الرؤوس لا يخضعون لأحد، بل تحدوا الملوك أن يخضعوهم، كما قال عمرو بن كلثوم في معلقته:
بأي مشيئة عمرو بن هند **** نكون لقيلكم فيها قطينا
بأي مشيئة عمرو بن هند **** تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تَهَدّدنا وأوعٍدْنا رويداً **** متى كنا لأمك مقتوينا
فإن قناتنا يا عمرو أعيت **** على الأعداء قبلك أن تلينا

والقيل هو الملك والقطين هم الخدم وكذلك المقتوى. فالشاعر يقول له: لسنا عبيداً لك أو لأمك. ولكن للأسف لم تدم هذه الروح الأبية طويلاً في جزيرة العرب بعد قدوم الإسلام الذي جعل كل الخلق عبيداً لله، ثم زاد بعضهم في عبودية أنفسهم فأصبح أحدهم quot;عبد الرسولquot; ثم ازدادت العبودية فأصبح العربي والمسلم quot;عبد الزهرةquot; بنت الرسول. ثم تدرجنا فأصبح العربي المسلم quot;عبد الحسينquot; ووصلنا الدرك الأسفل عندما أصبح العربي quot;عبد الأميرquot;. فالعبودية أصبحت تجري في شرايينا كما يجري الدم. وإذا نشأ الإنسان عبداً فسوف يظل عبداً إلى يوم يبعثون وسوف يكون أطفاله وأحفاده عبيداً. وقد أكد الفقه الإسلامي أن أطفال العبد ملك لسيده.
يقول علماء النفس أن الطفل الذي ينمو في بيت يحكمه أب متسلط تحل العصا منه مكان الحب، ويحل التسلط وفرض الرأي مكان الشرح والاقناع، ينشأ طفلاً خجولاً فاقداً الثقة بنفسه وليس لذاته قيمة. والشعب الذي يتكون من مثل هؤلاء الأفراد يكون شعباً لا قيمة له ولا يجيد غير تقبيل أيدي وأنوف حكامه ولا يمانع في تقبيل مؤخراتهم أن طلبوا منه ذلك.

والحاكم العربي أو المسلم لا يهمه من أفراد شعبه أحد لا يمت له بصلة القربي ولا يفكر في مساعدتهم في الملمات. فمثلاً عندما كنت في السعودية أيام حرب العراق وإيران، طلبت السفارات الغربية والسفارة الأمريكية من رعاياها تسجيل أسمائهم وعناوينهم حتى يسهل إخراجهم على عجل في حالة احتمال وجود أي خطر عليهم. وبالفعل عندما بدأت صواريخ صدام تسقط على الظهران والرياض، أجلت شركة الأرامكو جميع موظفيها الأمريكان إلى قبرص. وبالطبع لم تتصل أي سفارة عربية برعاياها لتسجيل أسمائهم وعناوينهم. ولم تفكر أي حكومة في إجلاء رعاياها عندما سقطت الصواريخ. وعندما دخل الجيش الأمريكي إلى أفغانستان واحتجز المئات من العرب والأفغان في سجن جوانتينمو في كوبا، لم تحرك حكومة عربية أصبعاً لتفقد حال رعاياه في ذلك السجن، بينما أرسلت الحكومات الغربية ممثليها لتفقد أحوال مواطينها الذين هم أصلاً من الأعراب والأسيويين، ولكنهم لحسن حظهم تجنسوا بجنسيات بلاد الله المتحضرة. وقد أجبرت المحاكم الإنكليزية حكومة إنكلترا على بذل كل ما في استطاعتها للافراج عن المساجين الذين يحملون الجنسية الإنكليزية، وفعلاً أُطلق سراحهم قبل أكثر من عام. وعندما اختطفت وكالة المخابرات الأمريكية في إيطاليا إمام جامع مصري كان يقيم فيها، وسلمته سراً إلى مصر حتى يعذبه زبانية مبارك ليبوح لهم بأسراره، تحرك النائب العام الإيطالي وفتح قضية ضد عملاء وكالة المخابرات الأمريكية وما زالت القضية تتطور. ولكن عندما تختطف المباحث المصرية صحفياً مناوئاً للحكومة ويختفي من على وجه الأرض، فلا دخل للحكومة المصرية بذلك. وقد اختفي مئات المصريين دون أن تحرك الحكومة ساكناً. وعندما يختفي الإمام الصدر ومرافقوه في ليبيا، تسد الحكومات العربية آذانها، فلا عين رأت ولا أذن سمعت.
ورغم معرفة كل العرب بهذه الأمثلة ومعرفتهم كذلك أن إسرائيل لا تقل ضراوة في حماسها في الدفاع عن مواطنيها وأنها سبق وأن قايضت عظام أحد طياريها بمئات السجناء الفلسطينيين لأنها تعتبر أن عظام طيارها تساوي ذلك العدد من الفلسطينيين، رغم ذلك تقوم حماس، بمباركة الشعب الفلسطيني الذي انتخبها، باختطاف جندي إسرائيلي لتقايض به إسرائيل لإطلاق سراح ألف سجين فلسطيني. فحماس نفسها تعترف بأن الجندي الإسرائيلي الواحد يساوي ألف سجين فلسطيني. وطبعاً رفضت إسرائيل وقتلت العشرات من الفلسطينيين وجرحت المئات وحطمت البني التحتية في غزة وما زالت تحطم إلى أن يُطلق سراح الجندي المختطف.
ورغم أن المثل العربي يقول: العاقل من تعلم من أخطاء غيره، فقد رأينا حزب الله وزعيمه المعصوم الذي هو فوق النقد، يختطفون جنديين إسرائليين لمقايضتهم بالأسري الفلسطينيين. وبوادر النتيجة قد ظهرت للعيان في تدمير البني التحتية في جنوب لبنان وإغلاق مطارات لبنان وحصاره جوياً وبحرياً. إسرائيل بصلفها المعهود تفعل كل ذلك لاسترجاع جنديين أحدهما عربي درزي. ما أبخس الإنسان العربي في بلاده.
والمؤلم حقاً أن العرب قد استكانوا للذل والهوان وعرفوا أن قيمة العربي صفر على الشمال في حسابات الشعوب. فالشعب اللبناني هلل وكبر وخرج في مظاهرات التأييد، رغم الدمار الذي حدث لبلدهم، لأن كتائب حزب الله استطاعت أن تختطف جنديين إسرائليين وتمرغ أنف إسرائيل في التراب. فهم على الأقل فرحون لأنهم تخيلوا أن أنف إسرائيل أصبح في التراب مثله مثل أنوفهم التي لم تفارق التراب منذ أمد طويل.
والحكومة السورية التي برعت في استعمال مدفعيتها الثقيلة وطيرانها ضد مواطنيها في حماه وغيرها من المدن، وأذلت شعبها وكممت أفوافهم، تعلمت هي الأخرى أن تبقي فمها مكمماً صامتاً لا ينبس بكلمة عن دمار لبنان وعنجهية إسرائيل، رغم أنها هي التي دفعت حزب الله لاختطاف الجنديين الإسرائيليين. أما إيران، قلعة الدفاع عن الإسلام ورافع راية فلسطين، قد عودت مواطنيها كذلك على الرضاء بقدر الله وعدم الخروج في مظاهرات لم يصرح بها مرشد الجمهورية الإسلامية.
حتى في إسرائيل نفسها رفعت خمسة منظمات تهتم بحقوق الإنسان قضية ضد وزير الدفاع الإسرائيلي لاجباره على وقف العدوان وفك الحصار على غزة. أما الشعوب العربية والإسلامية فما زالت في انتظار الإشارة من قادتنا المعصومين حتى يخرجوا في مظاهرات تفدي الحكام بالدم وبالروح أولاً ثم تهتف بسقوط أمريكا وإسرائيل.

ولا بد لي هنا من أن أختلف مع السيد هاني نقشبندي الذي كتب مقالاً في إيلاف تحت عنوان quot;اللعنة على الجميعquot; لعن فيه الشعوب العربية التي لم تحرك ساكناً حتى الآن لتظهر بعض التعاطف مع الفلسطينيين واللبنانيين. وسبب اختلافي مع السيد هاني هو أن الحديث النبوي يقول quot;أذكروا محاسن موتاكمquot; والشعوب العربية شعوب ميتة معنوياً ولذلك لا يجوز أن نلعنهم بل يجب أن نذكر محاسنهم مثل: الطاعة العمياء لولي الأمر، والتسليم بقضاء الله وقدره، ومحاولة تغيير المنكر باليد. فالشعوب الحية تثور على حكامها الفاسدين ثورة سلمية سلاحها الاعتصام في الشوارع مع رفع الأعلام الصفراء حتى يضطر الحاكم إلى التنازل عن عرشه. أما الشعوب الميته أو شعوب العبيد الذين لا قيمة لهم فلا تدخل ثورة الأعلام الصفراء المجال الجوي لأدمغتهم التي غُسلت من قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.