الاشعاع العربي لمفكر من مصر

اقتربت كثيرا من استاذنا الراحل احمد عباس صالح ابن الليبرالية المصرية في الاربعينيات الذي انتمى للفكر الاشتراكي في الخمسينيات واجتهد خلال عهد عبد الناصر في اكتشاف طريق عربي للاشتراكية واسهم في تأسيس مجلة الكاتب بشكلها التقدمي التي صارت عنوانا له ولفكره بمثل ماصار هو عنوانا لهذا النوع من الفكر الذي اجتهد في ربط العروبة بالاشتراكية والقومية بالأممية واحاط نفسه بعدد من المفكرين والكتاب والمبدعين المصريين الذين اسهموا معه في تحرير مجلة الكاتب وكان من أبرزهم صديقه المبدع الدكتور يوسف ادريس والمفكر السياسي الاستاذ محمد عودة والموسوعة الصحفية الاعلامية الاستاذ كامل زهيري والمؤرخ الراحل الاستاذ محمد انيس والباحث التقدمي النشيط الذي رحل منذ سنوات عن عالمنا الاستاذ عبد الجليل حسن وصف ثان من الكتاب والمبدعين الذين اثروا الحياة الفكرية ومازالوا يثرونها حتى الان وان تطورت الافكار وتنوعت الرؤى واختلفت باختلاف المراحل التاريخية بعض الاتجاهات وبرغم ذلك كله فقد ظل اعضاء مجلة الكاتب اوفياء لتراث تلك المجلة وللأفكار الأساسية التي نادت بها ووجدت من احد القيادات الثورية في العهد الناصري وهو المرحوم كمال الدين رفعت سندا ومناصرا لها، وان تعرضت بعد رحيل عبد الناصر لشيء من المضايقة، انتهت بان انسحب منها فريق العاملين بها وانضمت المجلة تحت لواء وزارة الثقافة في عهد المرحوم الاستاذ يوسف السباعي واستضافت الأهرام ممثلة في مجلة الطليعة ورئيس تحريرها الراحل الاستاذ لطفي الخولي النسخة التقدمية من الكاتب قبل ان تتفرق السبل باعضاء هذا الفريق ويغادر بعضهم مصر في منتصف السبعينيات وفي مقدمتهم الاستاذ احمد عباس صالح الذي خرج من مصر ليكون اشعاعه متواصلا في بغداد وطرابلس ثم في العقود الثلاثة الاخيرة عبر الصحافة العربية الصادرة في لندن، حيث تجدد بيننا اللقاء وتواصلت الاجتماعات وحلقات النقاش والحوار كما تجاورنا في الكتابة فوق صفحات بعض الصحف اللندنية التي كان من خلالها يرصد الاحداث التي تمر بالوطن العربي والقضايا التي يمور بها واقع المجتمعات العربية ويعمل عقله في تحليلها وتوعية القارىء بخلفياتها وانارة عقله بما غمض عليه فهمه من اسرارها، لا عبا بذلك دورا تنويريا وترشيديا لا يقل اهمية وقوة عن دوره المؤثر عندما اعاد في مصر اصدار مجلة الكاتب واطلق كتابه الرائد في الفكر السياسي اليسار واليمين في الاسلام وظل الى اخر ايام حياته شعلة من النشاط والحركة وهو يكتب مقالاته في صحف الجمهورية والاهالي والقاهرة التي تصدرها وزارة الثقاقة والتي استضافه على صفحاتها الاستاذ جلال عيسى ليكتب سيرة حياته، فكانت سيرة للحياة الثقافية في مصر خلال الخمسين عاما الاخيرة.

ولم يكن عمله في الصحافة العربية وانشغاله بقضايا الوطن العربي ليشغله عن التفكير في مجتمعه المصري والاهتمام بقضاياه والكتابة عنها واعتبار نفسه حلقة وصل بين الشأن المصري المحلي والشأن العربي القومي فمصر تبقى دائما في القلب من كل ما يشغل الامة العربية في مختلف مناحي الحياة سياسية كانت او ثقافية وفكرية ولم يكن عمله الصحفي والسياسي وانجازه الفكري لينسيه احدى المهمات التي سخر لها جهده وفكره في مقتبل حياته العملية وهو انشغاله بالنقد الادبي والفني فظل يعود، كلما سنحت له الفرصة، لقرائه ببعض ما جادت به قريحته من ملاحظات ورؤى حول الحركة الادبية والفنية، بل انه ثابر في احدي المجلات على رعاية البراعم الادبية وتلقى الانتاج الذي يرسله الكتاب الناشئون ليطالعه ويقدم تعليقاته واراءه حول هذا الانتاج ولم يتوان ايضا عن مراسلة الصحف المصرية بما يلتقي به في لندن من جديد الحركة المسرحية والادبية، عن نفسي فقد انتفعت باريحيته الادبية عندما فتح صفحات الكاتب للانتاج الادبي العربي وانشأ بابا يحرره الدكتور يوسف ادريس يقدم من خلاله طلائع الادب الجديد في العالم العربي وكانت قصتي البحر لا ماء فيه التي نشرتها الكاتب بتقديم للدكتور يوسف ادريس عام 1964احدى اولى اطلالاتي على القاريء العربي خارج وطني ليبيا، كما كانت المساهمة المتميزة التي قدمها الاستاذ احمد عباس صالح في الندوة التي اقامها المجلس الاعلى للثقافة حول انتاجي الادبي واستمرت لمدة يومين في العام الماضي هي من اهم المساهمات التي عرفتها تلك الندوة عندما سخر افكاره ورؤاه وخبرته التي جناها على مدى خمسة عقود من التعامل مع المسرح في تقديم قراءة للمجلد الذي ضم جل انتاجي المسرحي واصدرته الهيئة العامة لقصور الثقافة تحت عنوان الغزالات ومسرحيات اخرى.

للمجتمع الادبي العربي في لندن قصة يجب ان ينبرى احد الشهود لكتابتها، فقد وجدنا هويتنا الاقليمية تذوب في هوية عربية تجمع بيننا وتخلق منا كيانا اخر يشكل اضافة الى الكيانات الاقليمية ويتجاوزها ويصل بها الى مشارف اكثر قوة وعمقا وانصهارا بين ابنائها، وبمثل ما كنا نلتقي كتابا فوق المنابر الصحفية، فقد كنا نلتقي في منتديات منتظمة في قاعات واماكن لقاء مثل قاعة الكوفة ومكتبة الساقي ومقر الجالية المصرية وغيرها من اماكن وملتقيات ، كما كانت هناك حلقات لقاء خاصة تتم في المقاهي والاماكن العامة مثل المقهي الشهير في شارع موسكو الذي كنا نلتقي فيه كمثقفين تجعنا ثقافة واحدة واهدافا وامالا مشتركة كان من روادها الراحل الدكتور على شلش والاستاذ الراحل احمد عباس صالح والاستاذ الكاتب خالد قشطيني والشاعر صلاح نيازي وكثيرون عابرون ومقيمون قبل ان ينفرط العقد بموت البعض وسفر البعض الاخر عن العاصمة البريطانية، الا ان حلقات اخرى للنقاش ولدت كتلك التي عرفتها منطقة هامر سميت وكان محورها الكاتب الفلسطيني الراحل يوسف شرورو وحلقة اخرى في مركز وايتليز كان محورها الكاتب السوداني يوسف نور عوض، كما كان الاستاذ الطيب صالح والدكتور ابراهيم الشوش عند اقامته في لندن، محورا حلقات للنقاش والحوار، واذكر انني عندما ذهبت لاول مرة الى لندن في الستينيات كان الطيب صالح يدير في نادي البي بي سي جلسة يومية من الاعلاميين العرب العاملين في لندن وزوارهم القادمين من الوطن العربي.
احمد عباس صالح ظل على مدى العقود الثلاثة الاخيرة ملمحا اساسيا من ملامح المشهد الثقافي العربي في لندن وكانت علاقاته الواسعة بالمثقفين العرب تجعله موضع لقاء بيهم، في بيته حينا وفي مكتبه حينا آخر او في احدى المحلات العمومية التي يدعوهم اليها، واذكر انه كانت تمر فترات، كتلك التي كان يزوره خلالها صديقه الكبير والحميم الدكتور يوسف ادريس فتصبح هذه المنتديات معقودة وموصولة صباح مساء كل يوم.

فوجئت بوفاته عند عودتي الى القاهرة من مقر عملي في بوخارست فقد تركته قبلها باشهر قليلة، ورغم عمره المتقدم، مليئا بالحيوية والنشاط وكان يمتليء بالمشاريع الكبيرة التي كان من بينها صياغة التاريخ المصرى على شكل حلقات قصصية كما فعل في امريكا جور فيدال مع التاريخ الامريكي، خاصة في هذه المرحلة من حياته بعد ان تحرر من اعباء العمل الصحفي وتفرغ تفرغا كاملا لاعماله الفكرية ولكن القدر لم يمهله لاكمال مشروعه، وهو امر لا ينتقص قليلا او كثيرا من الجهد الفكري التنويري الذي ميز حياة هذا الرجل منذ ان دخل الحياة الفكرية كالعاصفة في مطلع الخمسينيات وظل يحرك البحيرات الراكدة ويثير الزابع الفكرية حتى رحيلة منذ ايام مضت، فرضوان الله على روحه الطاهره، واجزل له الجزاء بقدر ما عطى لهذا الوطن وهذه الامة.