ليلة 11 على 12 من جاري هذا الشهر - يونيه، لم ينم أحد في غزة. اجتاحت إسرائيلُ القطاع، وتمركزت في جنوبه ووسطه: قرية القرارة شمال خان يونس، ومدينة دير البلح. دخلت تحت ستر الليل، بمجنزراتها ودباباتها ومئاتٍ من جنود كتيبتها المشهورة quot;غولانيquot;. استيقظ الأهالي على الجنود، وهم يعتلون أسطح المنازل، ويحشرون السكان في غرفة منفردة، ليستولوا هم على بقية الغرف والمساحات. تحوّل القطاع كله، إلى ثكنة عسكرية مغلقة. وتعالت نداءات السكان بطلب الغوث، دون مغيث. عائلة غزيّة، هي عائلة الدكتور نبيل أبو سلمية، استشهدت بأكملها تقريباً. الأب والأم والأخوة والأخوات. عشرون قتيلاً هي حصيلة هذا الاجتياح، إلى لحظة كتابة هذا المقال. أما الجرحى والمصابون، فلا تسأل. لأن أحداً ليس في استطاعته أن يعدّ، وأن يتابع سرعة ودرامية الحدث المأسوي. الكهرباء مقطوعة، والماء والغاز أيضاً. قليلة بل نادرة هي السيارات على الطرقات. ولا أحد يخرج إلا للضرورة القصوى. أما طائراتهم، فتحرث الأجواء على مدار الدقيقة والثانية. قطاع غزة كله تحت الميكروسكوب. والمواطنون لا همّ لهم، إلا همّهم البدائي بتوفير ما تيسر من ماء وغذاء ودواء. حرب ظالمة وجدوا أنفسّهم ضحاياها، على حين غرّة. حرب واجتياح بري، هو الأول من نوعه منذ خرجت قواتُ الاحتلال في الصيف الماضي. الصواريخُ من الجو، وقذائف الدبابات من البرّ، تترى من كل حدب وصوب. تزلزل الهواء، قبل أن تهدم البيوت. أصوات مرعبة صائتة حيناً مكتومة أحياناً، قبيحة في كل الأحيان. انفجارات هنا وهناك. وكل هذه المهزلة بانتظار حلّ سياسي، لا يبدو أنه سيجيء. المستوى السياسي في إسرائيل، يهرب إلى الأمام. أولمرت ووزير دفاعه بيريس، مصرّان أن لا حلّ سياسياً للأزمة. وأن خيارهما فقط يتمركز حول الحل العسكري. بما يعني أن الأمور مرشحة لمزيد من السخونة، يوماً بعد يوم. وبما يعني أيضاً، أن القطاع سيشهد على الأرجح، أياماً وأسابيع قادمة، ستأخذه إلى احتمال المذبحة. إسرائيل تزعم أنها ليست معنية بالسكان العزل، وأن عملياتها تتمحور فقط حول المطلوبين من أذرعة المقاومة المسلحة. لكنها تكذب كعادتها. فغالبية من سقطوا إلى الآن من المدنيين العزل. نساء وأطفال وشيوخ. وعلى هذا، فنحن نحذّر من مجازر قادمة. مجازر سترتكبها دولة الاحتلال، مستغلة استرخاء العالم من حولها، واكتفائه بدور المتفرج اللامبالي. اكتفائه بتدبير شيء من المساعدات الإنسانية في الأساس، وكأنّ قضيتنا عادت لتكون قضية لاجئين، دون أن يضغط عليها، للخروج بحلّ سياسي ما للأزمة. ناسياً، هذا العالمُ، أنه بهذا الصنيع، يعطي إسرائيل، الضوء الأخضر، لتُنكّل بنا كما تشاء، وكما يحبّ قادتها العسكريون. هؤلاء الذين يتمنون لو تغرق غزة في بحر من الدم، بعد أن رفض بحرُها الأزرق أن يُغرقها في مائه المالح، كما تمنوا ذات يوم. يحدث هذا في ذات الوقت الذي تشتعل فيه جبهة الجنوب اللبناني. حزب الله يأسر جنديين إسرائيليين، في عملية مفاجئة، ويقتل بعض الجنود. وإسرائيل تستدعي جنود احتياطها بالآلاف. رافضة أن تجري أية مفاوضات مع الحزب، بشأن الجنديين المأسوريْن. إنها نذر حرب كبيرة إذاً. حرب ستطول وستنفتح على المجهول. حرب ستندلع على أكثر من جبهة، وليس مستبعداً حتى أن تصل شواظها إلى سوريا. حرب يمكن تسميتها بقليل من التحوير على الصياغة الإسرائيلية ب quot; حرب الكُرة المتدحرجة quot; ! حرب ستكبر يوماً بعد يوم، ما لم تتدخل أمريكا، وترسل مبعوثاً خاصاً، مهمته فقط، إنهاء هذه الأزمة التي ستتحوّل إلى حرب، تأكل الأخضر واليابس. إن أمريكا، إلى الآن، لم تعطي هذه الأزمة، ما تستحق من اهتمامها. وهي بذلك، تُعقّد الأوضاع، وتفتحها على مزيد من التدهور، بدل أن تلمّها، ولو بشيء من الحكمة. لقد فشلت كل الوساطات بين الأطراف. فشلت مساعي كلّ من مصر وتركيا وروسيا. ولم يبق إلا أن تتدخّل أمريكا، بما لها من تأثير كبير، كي تضغط على حكومة أولمرت، لتتنازل هذه عن بعض جنونها، وتقبل بحلّ سياسي، وببعض التنازلات. حماس مستعدة لصفقة سياسية. كل قادتها يصرّحون بذلك. مستعدة لمبادلة الجندي غلعاد شاليت، بأسرى فلسطينيين من ذوي الأحكام العالية والحالات الإنسانية. وهو الحل المقبول والمعقول، والذي يحظى برضى قطاعات واسعة في صفوف الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. إنه حلّ، يعيد الجندي الأسير إلى أهله، ويعيد بعض أسرانا إلى أهلهم. حل، هو، في جميع الأحوال، أفضل بما لا يقاس من هذه الحرب المجنونة. هذه الحرب التي قتلت، منذ بدأت قبل أسبوعين ونصف، وصولاً إلى هذه اللحظة، أكثر من مئة فلسطيني، وجرحت المئات. فهل تعقل حكومة أولمرت، وتنهي الأزمة، أم أنها سوف تصعّد من وتيرتها، لتصل المنطقة كلها، إلى حافة كارثة جديدة ؟
إننا متشائمون. فكل الدلائل على الأرض، تشير إلى احتمال تدهور الأوضاع، بشكل دراماتيكي، وبخاصة بعد دخول حزب الله على الخط، وما يستتبعه ذلك من تداعيات خطيرة. تداعيات، ليس لنا من أمل، إلا أن نخرج منها، بأقل الخسائر، رغم معرفتنا بأننا الخاسر الأكبر فيها. فنحن شعب أعزل، وليس لدينا إمكانيات ولا وسائل حزب الله في القتال. لذلك، على شعبنا في قطاع غزة، أن يحذر بقدر الإمكان، وأن يهيىء نفسه، لحرب متقطعة، لكنها طويلة، كما يقول قادة الشين بيت ومصادرُ أخرى. عليه أن يُخزّن حاجته من الغذاء والماء والدواء، رغم ندرة كل هذه الأشياء في السوق. وعليه أن ينتظر وأن يصبر. لعلّ حلاً ما، يأتيه، قبل أن يتهيأ لعَدِّ قتلاه وجرحاه، حين تضع الحرب أوزراها، وتمضي إلى جهة غير معلومة.