خيارات الزوابع والتوابع

الالتزام ndash; خيار الداخل
لم يعد من المجدي الحديث عن شرعية ولا شرعية، فالوطن اليوم يعاني من الحرب غير المعلنة والبلاد باتت تعاني من التقسيم غير المعلن، وكل شيء فيها غير معلن ويختبئ تحت شتى المسميات والتعبيرات فيما يتم التشهير والإعلان عن الموت فقط، فهل كتب على العراقيين تجرع الموت!
في ظل الفشل الذريع الذي نال من الخيار السياسي، لم يعد من خيار سوى البحث عن البديل الاجتماعي هذا الذي لا بد أن يتم عقد العزم عليه، في سبيل مواجهة الاحتراب والبحث عن الشرعية السياسية. ولا ضير من الحديث عن الشرعية الاجتماعية، وهو الخيار المتطلع نحو تفعيل دور الرموز الدينية والقبيلة والنخبة السياسية، وفقا لخيارات كل مجموعة ومكون اجتماعي، خيار لا بد أن يخضع لاستفتاء شعبي واسع، يتم الترويج له كل في حدوده الجغرافية المتداولة عرفيا. على أن يتم تقليص عدد المجلس الوطني الاجتماعي إلى الأقل الممكن، سعيا إلى نبذ حالات التداخل والانشقاق. وتبقى المسؤولية التاريخية بمثابة الفيصل الذي يكشف عن حسن النوايا، على الرغم من أن التاريخ لا يكتب بحسن النوايا. وليتم السعي نحو تذويب مسار الإقصاء، هذا الذي يكون بمثابة الأداة التي تعزز طريق الفصل وإنهاء الولاء للوطن والتطلع نحو دعم القوى الخارجية بغية الدفاع عن نفسها ومصالحها. ولنا أسوة في الضعف الذي تعاني منه السيادة الوطنية في العراق، ومقدار تنامي الدعوات المتلاحقة نحو إقامة فدراليات جديدة!

الديمقراطية بوصفها معيقا
لو قيض لإحدى مؤسسات قياس الرأي العام، إجراء قياس للرأي العام العراقي حول موضوع الديمقراطية، فماذا ستكون النتيجة؟ حين تسأل العراقي عن الديمقراطية فبماذا يجيب، لا أظنه قادرا على تقديم إجابة مباشرة، بقدر ما سيشير إلى كم الفوضى والخراب والبطالة والتدمير والفساد والرشوة والانفلات الأمني وانعدام الخدمات الأساسية وطوابير الانتظار الطويل على محطات التعبئة، ومصائب أبو غريب، وثقافة اللاماء واللاكهرباء التي باتت جزءا من المكون الفلكلوري و المعرفي العراقي. لنلاحظ أن الأغلب منهم يتحاشى التصريح بـ لا أو نعم، لكنه يجأر بالشكوى حين تسأله. بعد تجربة الأربع سنوات مع الديمقراطية لايملك العراقي سوى ضرب الكف بالكف، ومن واقع الاستمرار للتداخل فإن الديمقراطية ستتحول في العقل الجمعي العراقي إلى معيق، لا يمكن الركون إليه أو الثقة بتطبيقاته، فرجال السياسة يقولون أن الإعاقة تكمن في الإرهابيين والتكفيريين والصداميين، والمعارضون يقولون أن السبب يعود إلى الاحتلال ومن جاؤوا على دباباته والاقصائيون والقادمون بثقافة التصفية والثأر.
في الفلكلور العراقي هناك لعبة قديمة، يطلقون عليها ((الله يصبحكم بالخير يالعمّارة العمّارة))، هكذا تكون قواعدها يصطف فريقان يتناجزان، وتتم التصفية، فهل من الممكن أن تتم تصفية الخلافات بين الفريقين المتناحرين، الحكومة والمعارضة، بلعبة، بحوار، بنقاش، بمفاوضات، بعصيان مدني، بإضراب، بمظاهرات، بضرب بالعصي وإسالة البعض من الدماء، لا ضير، ولكن أن تكون وسيلة الاعتراض موتا! فهذا لا ينجم عنه سوى الثارات والمزيد من الاحتراب والتخندق.

السيطرة على الانقسامات
في الورقة الفدرالية العاشرة لجيمس ماديسون، والمؤرخة في 22 نوفمبر 1787، (( الأوراق الفدرالية، ترجمة عمران أبو حجلة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1996)) يتوجه نحو تأكيد أهمية النظر العميق في مسألة التحزبات والانقسامات، تلك التي تمثل التهديد المباشر والعميق للنظام الديمقراطي. وبالقدر الذي تكون المبادئ الديمقراطية واضحة وغير قابلة للالتباس فإن الانقسامية سرعان ما تتبدى آثارها من خلال غرس الفوضى والتعديات على حقوق الآخرين وخلق عدم الاستقرار، من هنا تتبدى أهمية الوعي التعديلات الساعية نحو ردم مساحة الانشقاق والعمل على صيانة الحرية، بوصفها القيمة العليا التي يستند إليها النظام الديمقراطي. وبالقدر الذي يتم فيه وضع القوانين من أجل الصالح العام، إلا أن الصراعات والتحزبات، يكون لها الحضور الأهم في توجيه القوانين نحو مصلحة الأغلبية، ليتم إهمال مصلحة الأقلية، ومن هذا تبرز على سدة الواقع مسألة صراع المصالح، والتي يتم إلصاقها بإدارة الحكم بوصفها الجهة الرسمية المسؤولة عن إدارة دفة التوجيه، لكن الواقع يبقى يسير وفقا لقوة وهيمنة التحزبات في توجيه الإدارة. إنها الواجهة، التي قد تنذر بأهمية التطلع نحو رفع مثل هذه الحالات، أو السعي إلى السيطرة عليها، ولطريق المتاح نحو تحجيم مثل هذه الظواهر يمكن له أن يكون عبر تقويض الحرية، أو الاستناد إلى خيار توزيع الحقوق بالتساوي وعلى جميع المواطنين، في مسألة الحرية وتقويضها تكون الأحوال وقد ترسمت موجهات، المستجير من الرمضاء بالنار، فأي حقوق يمكن الحديث عنها إذا تم العمل على خنق الحريات، أما على صعيد المساواتية، فإن الأمر يبقى خاضعا إلى التفاوت في القدرات، وما ينجم عنها من نتائج تتعلق بالملكية الخاصة. حتى ليكون التصادم بين توجهات الحكومة إداريا وطريقة العمل على التوفيق بين المصالح المتنوعة والتحزبات المتعددة.
إنها التعددية والتنوع في موجهات الرأي حول المزيد من القضايا، في الدين أو شكل الحكومة أو الانخراط تحت ظل هذه الزعامة أو تلك، أو الميل الطبيعي الذي تحفزه المصالح الخاصة بإزاء المصلحة العامة، حتى تتبدى حالة الصراع والانقسام الذي لا يفتر. إنها المواجهة الدائبة والباقية (( بين الذين يملكون والذين لا يملكون))، ومنها يكون التأثر في إبراز الطبقية والمشاعر والآراء، وعليها تستند مهمة تحديد موجهات الدستور، والعمل على توظيب العلاقة بين؛ ((الجماعات والمصالح وطبيعة نظام الحكم)). أنه التوجه نحو إقرار مبدأ العدالة والشرعية، فيما تبقى القوة والأغلبية تحضر دائما، لتعبر عن نفسها في توجيه مسار التوازنات، ومن هذا تبرز أهمية التمييز بين التحزبات التي تبقى راسخة وحاضرة في الواقع، وبين طرق التحكم والتطلع نحو تذويب قوة التحزبات. والأمر لا يقوم على موجه أخلاقي أو ديني في سبيل تحجيم قوة التحزب، بل أن الأغلبية ستتوجه نحو تكريس مصالحها، باعتبار ما ينجم عن النظام الديمقراطي من تقاطع على الصعيدين الأمني والحقوق الفردية، باعتبار فسح مجال الحرية على أوسع قدر، وعليه فإن الأمر يبقى منوطا بمستوى النهوض بالمسؤولية الوطنية، حيث العمل على تكريس مضمون الوعي بالعدالة واعتباره الخيار الأمثل نحو وقف أنشطة الفوضى والدسيسة والتزييف التي تسعى إليها قوى؛ التحزبية والإقليمية وذوي المصالح السياسية الآنية.

ادارك ما يمكن إدراكه
1. يعكس الراهن العراقي عن تسيد مخل لقيم التحزبية Faction على حساب مضمون الوطنية، فالولاء أضحى للطائفة والجغرافية الصغيرة والمصالح الفردية، حتى راح المفسدون يعملون على غنم ما يمكن تحصيله، والعمل على نقله إلى خارج البلاد، باعتبار التطلع نحو اغتام الفرصة السانحة والتي قد لا تتكرر فيما لو عاد النظام الحكومي إلى ممارسة دوره الطبيعي.
2. في ظل الحديث عن الأغلبية، فإن مسار التوحيد باتت تعاني من التهديد، لا سيما وأن الفوضى لم تعد تطال التوزيعات في النسب، بقدر ما راحت تلقي بظلالها على موضوعة المكونات الاجتماعية.
3. لم يعد من المجدي الحديث عن مقياس الكفاءة، فالانضواء تحت خيمة التكتلات، راحت تستجلب معها أفرادا، يدينون بالولاء إلى الكتلة التي جاءت بهم إلى الواجهة.
4. ماهي العلاقة القائمة بين الناخب والمنتخب، وماهي الخبرة الديمقراطية التي تحصل عليها الفرد العراقي، سوى تماسه المباشر الأول مع صندوق الاقتراع، في الوقت الذي غيبت عنه إرادة التعرف على المرشح الذي يمثله في البرلمان، وبهذا فإن الأهداف التي تسعى لها التحزبات الكبرى سيكون لها الحضور على حساب القوى السياسية الأصغر.
5. كبف السبيل للحفاظ على حقوق المواطنين، في ظل هيمنة التحزبات الكبرى، لعل الأمر هنا يرتبط بأهمية السعي نحو توسيع مجال التنوع الحزبي، وما يثمر عنه من تنوع وتعدد في المصالح، وبالتالي إمكانية تقليل تهديد مصالح وحقوق المواطنين.
6. خرج العراق من دكتاتورية الحزب الواحد، ليبتلى بدكتاتورية التحزبات الكبرى، حتى كانت أزمة الزعامة والنفوذ، تلك التي تتصارع فيها إرادات القيادة الواضحة، وخيار التسامح، والتعددية الحزبية. المشهد العراقي يفصح عن خيار التسابق ومحاولة التغطية على الجهود ومحاولة اهتبال الفرصة السانحة.
7. صراع النفوذ داخل التحزبات الكبرى في العراق، لم يعد يهدد وحدة واستقرار وشكل النظام السياسي فقط، بل أن عواقبه باتت تتبدى اليوم على المجمل من المكون الاجتماعي العراقي، فلم يعد الحديث عن هوية طائفية فقط، بل أن الواقع راح يستجلب هويات فرعية أخرى، وإذا كان قيس بن الملوح قد صرح بأن شيعيته لا تمنعه عن عشق ليلى الأموية، باعتبار أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، فإن العراق اليوم يفسده مجرد مظهر الشخص، أو اسمه أو لقبه أو محل سكناه أو حركة عابرة ندت عنه.