... خيارات الزوابع والتوابع (1/4)

ورقة بحثية مقدمة إلى لقاء أوكسفورد السنوي السادس عشر، حول مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، بإشراف د. علي الكواري والمنسق العام د. رغيد الصلح.

في عنوان شديد الصرامة يكتب وجيه كوثراني في ؛(( هويات فائضة.... مواطنة منقوصة)) ساعيا نحو ترسم محتوى الصراع الثقافي ودوره البارز والأكيد في استثارة حالة الصراع داخل المجتمع الواحد. أو ما كان يظن ويعتقد أنه واحد !انطلاقا من حالة التوزيع القائم بين الثقافة السياسة والسلوك السياسي، حيث الاعتبار الذي يتقدم وفقا للخصوصيات التي تفرزها؛ آليات التفكير من حيث الاستراتيجيات التي تترسمها هذه الفئة أو تلك، من أجل التفسير والتأويل للعلاقة القائمة بين الدولة والمجتمع. أو الآلية المنهجية التي تقوم على توزيع العلاقات بين مفردات الخطاب وتوظيب الأهم على حساب المهم من أجل دعم مفردات الحضور والتأثير، أو حضورية الرمز والدلالة والسعي نحو جعلها مادة رئيسة وأساسية في صلب التفاعل الاجتماعي، ومحاولة جعلها سلوكا أساسيا وفاعلا في المحتوى الاجتماعي. ومن هذا فإن الانتماءات الفرعية ستجد لها الأرض الصالحة لنماء مجال الفوارق والفواصل، باعتبار السعي نحو تعميق حضور الخصائص الدالة لها، وصولا إلى تضخم مجال الخصوصيات، تلك التي تتبدى على سدة الواقع، حتى لتكون ظلالها وقد عملت على حجب التفاصيل الأخرى. وباعتبار البحث عن دالة العلاقة القائمة بين الدولة والمجتمع، سعيا إلى تحقيق الاستقرار والتفاعل والتعاطي مع الواقع بما يضمن حالة السلم الاجتماعي، فإن ردة الفعل الاجتماعية تبقى تدور في فك الثنائية الصادرة عن المجتمع بإزاء السلطة، والمستندة إلى (( الموالاة ndash; المعارضة)). هذا على صعيد تكوين الذهنية العربية، والتي استغرقت في تحديد مفارق الثنائيات الخالية من الحلول الوسط. (( كوثراني، هويات فائضة، مواطنة منقوصة، دار الطليعة، بيروت 2004، ص112)).

التبكيت والتنكيت
يكتب ساطع الحصري في مذكراته، عن زيارة للملك فيصل الأول إلى قبائل جنوب العراق، حين دعوه لوليمة إلى الطعام، وكيف أنه استطاع أن يجد حلا، لتناول الرز، في غياب الملعقة، إذ عمد إلى ثني قطعة من الخبز، جاعلا منها بمثابة الملعقة، عندها لم يتمالك الحصري من القول (( دبرها)). (( مذكرات ساطع الحصري، دار العلم للملايين، بيروت 1969)) أي بمعنى استطاع أن يصل إلى حل توفبقي Conciliative، تلك ((الدبرها)) تكاد تكون بمثابة القاسم المشترك في الحياة العراقية، بل والعربية عموما، فالحسم Decisive، يكاد أن يكون مغيبا في الفعاليات والسلوك والتداول. الباحث في ظل غياب المصادر يقول دبرتها، والميكانيكي في غياب الأدوات الاحتياطية يقول دبرتها، والطبيب في ظل انعدام الدواء والخدمات الطبية يقول دبرتها، وربة المنزل التي تجد البصل وتفتقد الطماطة تقول دبرتها، والجميع يتنادى ويقول دبرتها. وهكذا تتصدر ثقافة ((الدبرتها))، كقيمة راسخة في المجتمع، بوصفها دلالة على الذكاء وحسن التصرف والألمعية والمهارة والشطارة وقراءة الممحي!فيما يتسع الرتق حتى يعسر معالجته.

دراما السقوط
دخلت القوات الأمريكية بغداد، ليتم إعلان سقوط نظام صدام، ومابين عملية إسقاط التمثال من ساحة الفردوس وسحله، وضربات النعل لمواطن عراقي لصورة صدام، والتصريحات النارية لرجل عراقي كان ممسكا بيده اليمنى كلاشنكوف وفي اليسرى كرسيا مكسورا تم نهبه من إحدى الدوائر الرسمية، كانت الخطوات كلها تتوجه نحو هدم المؤسسات الرسمية العراقية، حيث تم حل الجيش والشرطة والإعلام، ونهب المتحف العراقي تحت مشهد ومرأى العالم جميعا، وتصدر الحواسم المشهد يسرحون ويمرحون، إلى الحد الذي لم تسلم فيه أسيجة المدارس من النهب. والحرق المتسلسل لأبرز وزارات ودوائر الدولة، يكون العراق قد تم عملية تصحيره وجرفه، تمهيدا لإجراءات التطبيق المتعلقة بالفوضى البناءة. وهكذا تم التمهيد لكي يكون العراق ساحة لقدوم الجميع سارحا مارحا، من دون أن يكلف المحتل نفسه بقراءة جواز سفر الداخلين إليه على الممرات الحدودية، حتى واجه العراقيون ولأول مرة في تاريخهم المعاصر، انتشار الحشيشة والمخدرات، فيما راحت قطعان الذئاب البشرية، تتجمع من أجل الفتك بالمواطنين، بين قتل و سلب ونهب وقطع طريق. كل هذا ولا وجود لقرار واحد يتعلق بموضوعة (( منع التجول)) هذا القرار الذي جاء على حياء وتردد، ليشمل الساعات المتأخرة من الليل.

كسر العظم
يحيل العرف العراقي إلى التراث البدوي، حول موضوع القصاص. فالأطفال حين يلعبون يتعرضون للأذى، ومن هذا يكون الاحتكام إلى مدى الضرر، فإذا وصل إلى العظم، يكون الاحتكام إلى القصاص والذي يتخذ عادة بدلا نقديا في المدن، أو عينيا في الريف. العراقيون وعلى مدى الثمانية أشهر من عمر الاحتلال، ظلوا يرددون الشعار (( لا سنية ولا شيعية،،، وحدة وحدة وطنية )) بحماس وصدق. لكن التفاصيل اللاحقة راحت تفت من عضد هذا الشعار، حتى لم يعد له رأسمالا رمزيا، في ظل المحاصصات والاقصاءات والتهميش المقصود، وثقافة الثأر التي جاء بها البعض. لتبدأ دورة العنف التي أسس لها المحرضون وبمختلف الفئات والمناحل والمشارب. حتى اختلط الأسود بالأحمر وضاعت المقاييس، لتبدأ مرحلة الاصطفاف الطائفي بطريقة، لا قبل للعراقيين بها، باعتبار ؛حرب الثمان سنوات التي ما تركت بيتا عراقيا من دون تقديم ضحية. وحصار العالم والجوع والمرارة والعوز والشح الذي نال من العراقيين. والنظام الدكتاتوري الذي أشبع الناس خوفا ورعبا.
العراقيون جميعا ومن دون استثناء، ظلوا ينتظرون الآتي من الأيام، باعتبار ماتم ترويجه من شعارات براقة، لم تنطوي إلا على الخواء، حول يابان العرب، والمقرطة والحرية والازدهار والتقدم والانفتاح على العالم وفرص العمل الوفيرة، والتغييرات العظيمة. لكن حصاد الواقع لم ينجم عنه سوى خيبة أمل مريرة، بعد أن تمخض الجبل فولد فأرا.

لحظة لو سمحت؟!

جاءت الحكومة المؤقتة، وتم التوجه نحو الانتخابات بوصفها الطريق الأمثل نحو تجسيد مجال الشرعية للحكم. حتى كانت وجهات النظر المتداخلة حول (( الشرعية ))، تلك التي بقيت تعاني من إشكالية الحيازة، فيما تصدر المشهد حرب الفتاوى، بين مرغب ومحرم, لتبدأ نقطة الانقسام الأولى. انقسام جاء يتصد المشهد في صلب قضية التصنيف، تلك التي ألقت بظلالها على مسألة الإدراك لدى المواطن، هذا الذي راح يمعن مجال التفكير، حول هويته التي راحت تعاني من التبديد تارة والمحاصرة تارة أخرى، لتتبدى على السطح قضية الانتماء؟!
راح العراقي يتساءل، من جديد، عن مسألة جدوى النظام السياسي، والخصوصيات والتكييف الذي تفرضه التداعيات التي لا تعرف التوقف، ومدى إمكانية الوقوف على فعالية المعنى المرام والمبتغى، حول حقيقة الولاء والمواطنة والانضواء تحت خيمة الوطن الواحد الموحد، حتى برز على صعيد الواقع، تصدر المشهد للتصنيفات، تلك التي تم التمهيد لها عبر الاستعارات الهندسية، حيث المثلث العربي السني والمثلث الشيعي، والمثلث الكردي، استعارة لم تغب عنها معنى التجزئة المقترحة، والقائمة على ثلاثية المكون العراقي الرئيس، المستند، إلى تكريس مفاهيم، (( السنية، الشيعية، الكردية)).

وعي الشرعية
وسط موجة القتل الرخيص للإنسان العراقي، تتبدى صورة التركيز والاستهداف المنظم، لانتقاء كفاءات بعينها حيث بات من الشائع والمتداول وبعلنية فجة، التوجه نحو تصفية؛(( الطيارين والأكاديميين والأطباء)). ومن واقع المطالعة في القائمة التي راحت شبكة الانترنت تقدمها حول القتل الذي يطال أسماء لامعة لعراقيين، ارتكبوا ذنب الوعي والنباهة، وتقمصوا مدركات التحديث والتنمية، فكانوا هدفا رئيسا في لعبة تفكيك المحتوى، يضاف إلى هؤلاء، التطلع نحو خطف واغتيال الصحفيين ورجال الإعلام، وممارسة الابتزاز العلني والتفاوض حول دفع الفدية المالية لإطلاق سراح هذه الرهينة أو تلك، فيما راح المواطن العادي ينعى باللائمة على الحظ العاثر والقدر العابث الذي جعل منه أن يحمل إسما، يحوي قدرا من الرمزية الطائفية، حتى كان الاستهداف وبقسط عادل يثير المزيد من الريبة، حول الاغتيال لأشخاص لم يرتكبوا من الذنب سوى حملهم لإسم ((عمر أو عبد الحسين)). في تكثيف لا ينطوي إلا على محاولة تكريس الطائفية، ومحاولة شرعنتها في المجال الاجتماعي العراقي.

صورة النظام في الوعي السياسي
لم يتردد سقراط لحظة واحدة من التأكيد على أهمية تكريس المجال الأخلاقي في فن السياسة، فيما يؤكد أفلاطون على أهمية منح الملك السلطات الواسعة المتجاوزة لقوة القانون، فيما يركز أرسطو على أهمية الطبقة الوسطى في تدعيم عرى العلاقة القائمة بين الأغنياء والفقراء. أما دانتي أليجيري، فيؤكد على أهمية مبدأ الاتحاد في واحد، حيث أهمية خضوع جميع الناس متحدين في أمير واحد، والعمل على توحيد الإرادات سعيا إلى السلام الجمعي. وتتصدر فكرة العقاب لدى مكيافللي، حيث الإشارة إلى أهمية أن يكون الأمير متسلطا متجبرا أم من أن يكون محبوبا. أما جان بودان فإنه يعكف على ترسيم معالم دراسة الخصائص الطبيعية للمجتمعات والشعوب في طريقة الأخذ بانموذج السياسي المناسب لها. ويختصر توماس هوبس شكل الدولة في صورة اللوفياثان الذي يوحد إرادات الجميع من أجل مصالح الجميع. فيما يقدم جون لوك فكرة المجتمع المدني، باعتبار العجز عن توفير الشروط الثلاثة؛ (( القانون الثابت، القاضي الحر، القوة الجبرية))، ومن واقع خشية مونتسكيو من التطرف والمبالغة الذي يقع فيه الشعب في نموذج الدولة الاستبدادية، فإنه يدعو إلى الملكية باعتبارها نموذجا معتدلا. ويضيف ديفيد هيوم إلى هذا النموذج مسألة الاعتياد على الطاعة من قبل المواطنين، في سبيل احترام قواعد القانون حيث الحضور الأشد لمبدأ المنفعة. (( شوفالييه، تاريخ الفكر السياسي، بيروت1979، ص ص 35-468)).
بين عبث التنظير، وقسوة الواقع ومرارته، يتنادى المواطن العراقي صائحا، ((احسموها)) فقد توالت علينا المحن، ولم يعد في العمر بقية أو جدوى! بل أن التساؤل المدمى يحضر قائما ولسان حاله يقول، أما حان الوقت لهذه اللعنة أن تنتهي.

حديث اللعنات
عن أي لعنة يتحدث العراقيون، عن مجزرة قصر الرحاب عام 1958، التي تم فيها تصفية العائلة الملكية في العراق، أم عن العبث الذي تصدى له رجال الجيش وتدخلهم في السياسة، أم عن فساد رجال السياسة في النظام الملكي، أم التبعية السياسية لنظام الحكم الملكي لإرادة الإنكليز، أم عن قمع الحركة الوطنية في انتفاضة الجسر عام 1948، أم لعنة النفط ولعبة المصالح الكبرى التي تحرك القوى، أم عن أحداث السحل في الموصل وكركوك، أم عن مجازر 1963، أم الطغيان والفردية والحماقة التي تبدى بها نظام صدام، حتى ليتطابق القول في العراق (( من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر)).
على مدى الستة وثمانين عاما من عمر التجربة السياسية العراقية الحديثة، جرب العراقيون المزيد من اللعنات، الملكية منها والجمهورية، التابعة والذيلية والرجعية، والوطنية والاستقلالية والثورية، حتى لم يعد من هذه التوصيفات سوى الأسماء الخالية من المعاني، باعتبار التحريف والقناع الذي يعمد إليه الماسك بزمام المبادرة والمسيطر والمهيمن على سدة الأمور. فكان الغائب الأكبر والخاسر الأبرز في كل هذا، هو الوطن. هذا الذي تم ارتهانه لجملة من الشعارات والمفردات والعبارات الكبيرة المفرغة من المحتوى. لكن الذاكرة العراقية تبقى مختزنة بالوقائع التي تكشف عنها الوثائق، فقد أشارت الوثائق التاريخية، على أن القصر الملكي العراقي، كان يستهلك في اليوم الواحد نصف كيلو بامياء وكيلو واحد رز بسمتي! (( انظر ملاحق كتاب الملك غازي، د. محمد حسين الزبيدي)) أما عبد الكريم قاسم فقد عثروا في حسابه الشخصي المودع في بنك الرافدين، على مبلغ دينار واحد وسبعمائة وخمسون فلسا! وعبد السلام عارف مات ولم يعرف عنه أنه امتلك شيئا! وعبد الرحمن عارف يعيش الكفاف، فيما خلف صدام أكثر من سبعين قصرا فارها، لم يتردد من وصفها بقصور الشعب، فيما الشعب المسكين يعاني من أغرب حصار عرفه تاريخ البشرية.

يتبع