اولا: عرس الدمع

عودة الابن الضال

من شوارع عادل كمال الخلفية: امتثالا لمحبة قراء ربطتني بهم هذه التقارير، اعود كالابن الضال الى المكان الذي انطلقت منه: quot;ايلافquot; رغم مغريات العمل في وكالات انباء وموقع اخرى. لابد من القول: ان سبب انقطاعي -كما كتبت الى العديد من القراء - ليس له علاقة بوضع خارجي ما، وانما بظرف شخصي بحت، فكتابة تقرير ينطوي على ادبية وفن ورؤيا ليس بالعمل الهين او السهل، ولذلك وجدت نفسي، في لحظة مراجعة دقيقة وصارمة، مطالب بأن اتجاوز ما كتبته من تقارير الى ما هو افضل واجمل، فنيا واسلوبيا، لأن عملي ينتمي الى الادب، وليس الى حقل اخر، فلست مراسلا صحفيا، او اعلاميا، وانما انا نفسي ذلك الشاعر: الشاعر الذي لازال في طور التجربة، وفي طور التلميذ. اريد ان اعتذر عن غياب صحي، استعدت فيه انفاسي وعدت معافى من جديد، كما اريد ان اشكر ايلاف على شجاعتها في نشر مثل هذه الفنطازيا، التي تخرج احيانا كثيرة عن الحرفية: لقد كلفني اكثر من كاتب وكاتبة،اضافة الى قراء مجهولين عبر العالم، أن انقل هذا الشكر، ربما من اجل ان يتسع صدر ايلاف اكثر فأكثر، لما احمله من مفاجآت مستقبلا، متمنيا من الجميع الدعاء للعراق ان يخرج معافى من محنته، ولكاتب الحروف: صاحبكم الهامشي والصعلوك عادل كمال،النجاح في مهمته، مع خالص الحب والدمع.

***

quot; كل ده كان ليه.. quot;

انا العراقي الوحيد، في المنطقة التي اسكنها، الذي يتعرض بيته لمداهمات القوات المشتركة: العراقية والاميركية. في واحدة من تلك المرات كنت جالسا الى مائدة الطعام في المطبخ: مكاني المفضل في البيت، حيث اقرا واكتب - الا تشمون رائحة البهارات؟ - ولحسن الحظ ان احدا ما لم يكن في البيت سواي، إذ خطر للعائلة ان تسافر كلها الى السليمانية، لغرض الاصطياف وتبديل الجو، مع عائلة احد الاصدقاء: كان الوقت ظهرا، وقد قررت أن استعيد يوسف العاني، فأكونه في التمثيلية التلفزيونية العراقية ذائعة الصيت: quot; عبود يغني quot;. كنت أضع quot; الهيد فون quot; حول اذني، واستمع الى اصالة نصري، وهي تصدح: quot; كل ده كان ليه؟ quot; وأمامي علبة، علبتين، ثلاثة.. علبا كثيرة من البيرة، متذكرا خلاّني الذين أحبهم: الشعراء: وسام هاشم، صلاح حسن، نصيف الناصري، حسين الصعلوك، فتحي ابو النصر، وصديقتي الرائعة قمر، ضاربا عرض الحائط وعودي بترك الشرب - اريد ان اقتدي باخلاق الساسة!!-: ليس ثمة مبرر لذلك، اريد ان اشرب، واتبهذل حتى الاخير، قبل أن يأتي يوم تشملني فيه الحكومة - هل لدينا حكومة حقا؟ - بالميراث الجنائزي الذي تشرف على توزيعه، وهي معصوبة العينينين: اريد أن اسكر وأخربط المعسكر. اهتف ضد الجميع: فضائيات، دبابات، اشرطة الاغاني، اللطميات، احزاب ومؤسسات، وأصيح بأعلى صوتي: quot; فكـّوا ياخه quot; لقد مللت مللت مللت: لااريد شيوعية ولاديمقراطية ولافاشية ولا اسلامية ولا قومجية و معممجية، ولا.. ببساطة اريد أن لااخرج من البيت، في كل مرة، مودعا عائلتي، في طريقي الى اقرب مقهى انترنيت: لااريد ان اترك وصيتي، في كل صباح اخرج فيه الى الوظيفة: واريد - مرة اخرى - أن اسكر حتى الموت كي اضمن مكاني في جحيم، هو افضل من جنة الملالي والساسة بكافة انواعهم، وفوق ذلك اريد من يحبني ان يقبلني على شاكلتي هذه، والا فليس الحب بالعافية: اريد أن اسكر الى الاخير، فقد مللت انتظار الخلاص من هؤلاء الابالسة، آه..هل ثمة خلاص يمكن ان يمنحك اياه مسخ؟ لقد شطح في راسي هذا السؤال العبقري، وأنا أتذكر قول سان جوست: quot; كل الفنون أنتجت روائع، وفن الحكم وحده الذي لم ينتج الا مسوخا quot;.

اذن، كنت اسمع:quot; كل ده كان ليه quot; بصوت أصالة نصري، عندما دخل جندي ملثم- لماذا يتلثم الجنود بحضرة عادل كمال؟ - الى المطبخ، فيما دمعة حارة تنزل من الينبوع على صفحة خدي، راسمة شكل جدول الفراق، في حب مجنون: أنتِ في اميركا،وأنا في العراق. اميركا تحتل بلادي، وأنت تحتلين قلبي. وجندي مدجج بكافة الاسلحة، حتى قناع الوقاية، يدخل المطبخ، حيث اقيم طقسي لاستحضاركِ، من بين حشود الحبيبات التي مررن في حياتي، ولم يتركن في روحي الا الندوب. لكن ما الذي يفعله هذا الجندي الابله في مطبخ ليس فيه سكينة واحدة، حتى؟

بحركة من يده فهمت ان عليّ أن لااتحرك، وأن أبق مكاني، فيما دخل ثاني وثالث ورابع.. وانتشروا بأسلحتهم في الغرف، وفوق سطح المنزل. قد لاتصدقون: لم احرّك ساكنا: لم أبد ردة فعل، ولم انزع الهيدفون من على راسي، بل أن دمعة، دمعتين، ثلاث.. نهر من الدموع شق مجراه في صحراء روحي، فعدت انسانا لأول مرة بعد غياب طويل عني. لاتستغربوا ذلك، فقد حدث مثل هذا مرات معي، ويبدو أن تلك الاحداث كان تمرينا لحدث الاقتحام هذا... آه، نحن نشعب تلقى تمارين اولية على الذل والخراب معا، دون أن يدري. اكثر تلك التمارين وجعا في نفسي كانت في ايران. كان ذلك عام 1999حسب ما اتذكر، وكانت اذاعة مونت كارلو تقدم برنامجا يوميا خاصا عن فيروز في الليل، وحدث أن جاءني ضيف في تلك الساعة التي بدأ بها بث البرنامج هذا،ولما كان مستحيلا سماع أي اغنية بحضوره، فهي احدى علامات الفسق، التي لاتقبل الشفاعة حتى لوساهمتُ بتهريب النفط مع quot; عدي الحكيم quot;، فقد لجأت الى quot; الهيد فون quot; متظاهرا اني استمع الى ضيفي، في الوقت الذي كنت استمع فيه الى صوت الملائكة، وقلبي يكاد يقفز من مكانه، لأن حلقة تلك الليلة كانت مخصصة لفيروز واغان المدن. هكذا عندما غنت فيروز اغنية quot; بغداد والشعراء والصور..quot; وأنا في ذلك النفق المظلم الطويل، لم املك الا ان انفجر بالبكاء وبصوت عال، الامر الذي جعل ضيفي يعتقد اني كنت استمع الى احد المراثي الحسينية، فقال - بعد أن انتهت حفلة بكائي -: quot; عظـّم الله لك الأجر quot;.

الموقف ذاته يتكرر الان: quot;كل ده كان ليه؟quot; ولم يكن ثمة جواب، حتى بعد أن انسلوا الى الخارج واحدا بعد الاخر، فخرجت اثرهم، وقد مات في داخلي quot;عبود يغنيquot;، فوجدت ان الزقاق باكمله كان محتشدا بآليات عسكرية، وثمة هنا وهناك جنود اميركيين منتشرين في الازقة والفروع: quot; كل ده كان ليه؟ quot; لازالت اصالة نصري تسأل في المطبخ، فيما الجنود الاميركان يوزعون قمصان بسيطة على الاطفال، فيرفضونها، تضامنا مع صديقهم عادل كمال: الأبله البسيط، الذي من فوق السطح يلوّح لمحتلـّي بلاده بمنديل متخيـل، هي يده التي لم تطلق رصاصة واحدة في كل حياته، في كل الحروب التي خاضها غصبا عنه، مع اعداء مفترضين، تحولوا الان الى اعداء حقيقيين، حسب تبدل المناخ السياسي، فتبدل المناخ - لاتنسوا هذا - يحوّل الجرذ الى قط أحيانا.

لاشيء غريب في كل هذا: أقصد أن مداهمة أي بيت وتفتيشه أمر طبيعي، هو من جنس الواقع الذي نعيشه: ان الانسان العراقي الان يحمل في داخله مشروعين: قاتل وقتيل. فهو مشروع قاتل من قبل الحكومة والمحتل معا، ولذلك نصبت الاسلاك الشائكة، والمتاريس، وحفرت الخنادق من جديد، لأصطياد هذا المشروع في الانسان العراقي، وهنا احب ان اضيف نقطة في غاية الطرافة، ضحكنا منها انا وصديقي الكبير د. خالد السلطاني، هي ان الارهابيين يساهمون في حل ازمة البطالة التي تشمل البلد بأكمله، وذلك عن طريق غرف التفتيش الملحقة في بنايات الفنادق او الوزرات او الدوائر، إذ وجد بعض الشباب حلا لمشكلة بطالتهم في هذا العمل، ولكني لاحظت ان هؤلاء الشباب يقتصر تفتيشهم على الداخلين، ولاشأن لهم بالخارجين، مما أثار حفيظتي، في لحظة سكر، أيام مهرجان الربيع، فقررت ان ادخل غرفة التفتيش اثناء خروجي من الفندق، ورفعت ذراعي مشيرا للشاب الواقف بذهول امامي، ان يقوم بتفتيشي، ولما كان هذا الشاب كرديا لايعرف العربية، فقد استعنت بالصديق علاء اللامي، المحرر في جريدة المدى، كي يترجم له ما ابغيه. وفعلا - طبعا كنت quot; ورده ومسيطرquot; ساعتها - تم تفتيشي، وانا في تلك الحالة، فاطمئن قلبي الى انني الان لم اعد مشروع قاتل، حين امشي في الشارع حرا، عند ذلك شعرت أن من حقي أن اتذكر وجهكِ الذي لايضاهي جماله الا العمق والفتنة في وجه نيكول كدمان، فلست مشروع قاتل، ولكنني لازلت مشروع قتيل: لن ينفع اي تفتيش، حتى في طيات روحي، لتبرئتي من هذا المشروع، إذ من المحتمل ان اكون قتيلا في أي لحظة، وفي أي مكان، بتخطيط وبدونه... آه.. مشروعي كقتيل - على ما يبدو - لايهم رامسفيلد او الاخوة الاعداء في الحكومة، بقدر ما يهمهم مشروعي كقاتل، ولذلك زرعوا عملاء لهذا الغرض، بغية التبليغ عن القتلة، ولاشك بأن احد هؤلاء المخبرين لم يعجبه ما اكتب من تقارير او من شعر، فبلـّغ عني الى quot; اخواننا quot; المحتلين، الذين لايعرفون حرمة لبيت، حتى وان كان من نوع quot; عبود يغني quot;.
quot; عظـم الله لنا الأجر quot;: فثمة عرض آخر للقوة حدث قبل أيام، ولكن في مكان اخر من كركوك. انه عرض دون كيشوتي، قدمته القوات الاميركية وقوات الحرس الوطني علنا، أمام انظار الناس، وهو أحد سمات المرحلة التي نعيشها، ويتلخص عرض القوة هذا بقطع حركة السير في شارع بغداد: أهم شارع في كركوك، وتحديدا في المنطقة المحصورة بين منتزة كركوك وبين مقر الجبهة التركمانية، حيث تقع في منتصف هذه المسافة محطة تعبئة وقود عقبة بن نافع، المتخصصة بتزويد السيارات الخصوصية فقط بالبنزين، وبالغاز السائل الى عموم المواطنين: مروحيات تحوم في الفضاء، حول المنازل، محدثة زعيقا لامتناه الابعاد. وجوم على كل الوجوه، ومدرعات عند مفارق الطرق. والشوارع المحيطة بالمنطقة خالية تماما من المارة، الا من تجمعات صغيرة هنا وهناك، فيما افراد الشرطة والحرس الوطني ينتشرون في كل مكان. أما طابور السيارات التي تقف بالدور عند محيط محطة تعبئة الوقود، ممتدا الى الازقة المجاورة حتى مسافة 3 كيلومترات يوميا: المشهد المعتاد يوميا. هذا المشهد قد اختفى تماما من على المسرح، ولم تبق منه الا سيارة واحدة، واقفة من دون سائقها قريبا من الرصيف، مع صيحات تحذير من هنا وهناك بعدم الاقتراب منها، فهي سيارة مفخخة.

هذا العرض الصاخب استمر لأكثر من ثلاث ساعات، حتى انتهى بمفاجأة مضحكة وبائسة جدا،عندما احضرت القوات الاميركية رجلا اليا لفحص السيارة المفخخة، غير ان هذا الرجل الالي - تخيلوا المشهد رجاءا - بدلا من ان يفحص السيارة، قام بتفجير صندوقها الخلفي - لماذا؟ - ومن ثم اخذ يحوم من حولها: لاشيء. هل للرجل الالي قلب؟ ربما.. ذلك ان رجلا ما نط فجأة من بين الجموع صارخا: quot; ماذا تفعلون.. انكم تهجمون بيتي، وتخربون سيارتي!! quot;، فتوقف الرجل الالي، فيما الرجل يلطم على راسه موضحا الامر بأنه ترك سيارته، وذهب ليأكل لقمة، بعد أن يأس من الانتظار، فالطابور طويل، ولايمكن ان يصله الدور الا بعد ساعات طويلة.
لااعرف ان كانت هناك مدينة عراقية اخرى، غير كركوك، تستخدم نظام البطاقات في تزويد السيارات بالبنزين، وهي خطوة اضطرارية، إن تم التقيـّد بها، فبموجبها سيستلم الناس حصصا متساوية من الوقود اسبوعيا، ولكن ما اعرفه، من خلال اصحاب السيارات، ومن خلال مافيا الوقود التي تبيع بضاعتها على الارصفة، وفي الازقة، أن نظام البطاقات هذا تحول ويتحول بين ساعة واخرى لصالح الجشع والنصب، تمهيدا لخلق quot; طبقة quot; جديدة في عصرنا العراقي الجديد: quot; تجارالجركانات quot; التسمية الشعبية، التي اطلقها اصحابنا، في الشوارع الخلفية، على شبكة من البشر تتالف من افراد من الشرطة ومن اصحاب محطات التعبئة، ومن باعة الارصفة، وهي شبكة تجيد عملها وتحسن فن الاختفاء والمراوغة، اضافة الى فن المساومات. ولأن ما اعرفه يضر بصحتي:

أقصد يضر بسلامتي وبسلامة مصادري التي استقي منها المعلومات، سأكتفي بمرور سريع على هذه الشبكة، لغرض القاء التحية لاغير، ضاربا عرض الحائط بارقام الهواتف التي وزعتها وزارة النفط لتشجيع المواطن على نقل اي مخالفة quot; وقودية quot; فلست على ثقة - بصراحة - على أن هناك حكومة فعلية في العراق، احتكاما لمشهد في غاية البساطة، هو عدم تمكن اي شرطي مرور من ايقاف اي سيارة مخالفة في الشارع، ناهيك عن عدم تمكنه من ايقاف اي رتل عسكري عراقي او امريكي يعبر الرصيف ويسير في الاتجاه المعاكس، هذا اذا وضعت امامك مشهد في غاية القبح هو الاطلاقات العشوائية التي يطلقها افراد الشرطة او الجيش، بمناسبة او يغير مناسبة، وهم يجتازون الشوارع بسرعة مجنونة، غير مبالين يسلامة ارواح الناس او هدوئهم وامنهم، ولازلت احتفظ - كذكرى - برصاصة تسلقت الى سطح داري، حيث اقف مرعوبا من دوي اطلاقات ما، لم يوقفها عن تسفيري الى الله بقلب مترع بحبك، ياقمري الغامض النبيل، الا مكيف الهواء، الذي - هكذا يبدو - اعتقد مطلقو الرصاص ان قلبي يتبرّد فيه من نار حبك.

يتبع
[email protected]