كلمتني ابنتي لأحضر حفيدتي quot;جريسquot; من المدرسة فذهبت إلى الفصل (أولى ابتدائي) ووجدتها جالسة على مكتبها الصغير وبجوارها المدرسة جالسة على ركبتيها تعلمها شيئاً وكان للمدرسة مساعدة مشغولة هي الأخرى مع تلميذ آخر، وبقية التلاميذ مندمجين في حل واجباتهم على مكاتبهم الخاصة، وكان الفصل المكيف نظيفاً جداً وجيد الإضاءة وعلى جدرانه رسوم الأطفال الملونة والسبورة عليها عمليات حسابية بسيطة بخطوط كبيرة واضحة، والألعاب التعليمية منسقة بنظام يحترم تدرج الألوان الذاهية.. أخذت حفيدتي وعدت للمنزل حيث كانت بناتي الثلاثة وأزواجهم وزوجتي والأطفال في انتظارنا وقد أعدوا الغداء الذي يتألف من ملوخية خضراء وفراخ وأرز مصري وعيش بلدي اشترته زوجتي من البقال المصري فى شيكاغو، كان الغداء مماثلاً لما تعودت أن آكله في بيت أمى بشبرا مصر، بعد الأكل غنى الجميع أغانى عيد الميلاد التي لم تستطع محو الحزن المترسب فى نفسى وأفكارى تأبى إلا أن تأخذنى إلى ما رأيته فى مؤتمر الأقباط، وكنت قد التقيت هناك بنخبة من المصريين تركوا وطنهم وضاعت هويتهم لا لشئ إلا لأنهم تجرؤا وفكروا بطريقة مختلفة عن فكر العسكر.
رأيت أيضاً صديقى العزيز الدكتور سعد الدين إبراهيم ذلك العبقرى الشجاع وجدته يعرج بشدة على الرغم من إجرائه عمليتان حتى الآن، ولكنه يقول أنه يحتاج لعملية ثالثة، لإصلاح ما تخرب من جسده فى السجن المصرى.
رأيت كذلك صديقى الدكتور أحمد صبحى الذى فر هارباً من وطنه ليعيش هو وزوجته وأبناؤه فى مجتمع غريب وفى سن متأخر وحيداً قلمه هو صديقه الوحيد. كما رأيت مجموعة من المفكرين المصريين الذين يعيشون فى مصر خائفين من أمن الدولة والمخابرات، وقبل أن استرسل فى أفكارى الحزينة تلك بدا أن حفلة عيد ميلادى على وشك الانتهاء فقد طلبت منى ابنتى أن أساعدها فى توصيل الأولاد للسيارة لتعود لمنزلها فأجلستهم فى المقعد الخلفى ولكن ابنتى تذكرت أنها نسيت شيئاً داخل المنزل فذهبت لتحضره بينما بقيت مع الأولاد وانتبهت للأغنية التى كانوا يسمعونها من كاسيت السيارة.. كانت أغنية لسيد درويش تغنيها فتاة صوتها جميل: quot;الديك بيدن كوكو كوكو فى الفجرية.. ياللا بنا على باب الله يا صنايعيةquot; ودهشت لأن الأطفال الثلاثة (7 سنوات و4 سنوات وسنتين) كانوا يغنون مع المغنية, لقد سمعوها كثيراً لدرجة أنهم حفظوا كلامها بدون فهم معانى الكلمات.. وشعرت بعبقرية سيد درويش وموسيقاه التى تجتاز المسافات واللغات وشعرت بمزيد من الشجن وأنا أتذكر بلدى وإخوتى وأحفادى وأحفاد أصدقائى كيف يعيشون وكيف يتعلمون وتخيلت حالة المدارس الإبتدائية فى مصر وأنا أذكر بمرارة تجربة زيارتى لمدرستى الثانوية العريقة (التوفيقية الثانوية بشبرا) وما اصابها خلال الـ 45 سنة منذ تخرجت منها وكيف تحولت الأحواش وملاعب كرة القدم والسلة والتنس إلى أبنية وفصول يكتظ الواحد منها بـ 80 طالب ويزيد يقدم لهم العلم فيها مدرسون مرتباتهم الضئيلة حولتهم إلى تجار جشعين لا يهمهم سوى الدروس الخصوصية التى إن لخصت العلوم لا يمكنها تقديم الآداب والأخلاق والرياضة والفنون وكل ما يصنع الشخصية السوية. وداهمتنى موجة من الاكتئاب وأنا أتذكر أننا نحن الأقباط المضطهدين انشغلنا بطلب حقنا المصادر فى بناء كنائسنا ونسينا حقنا فى بناء مدارسنا اللازمة لتربية أبنائنا وأحفادنا.. وكذلك أصدقائي وأحبائي المسلمين نسوا ظلم العسكر الذين حطموا مستقبل ابنائهم وانشغلوا بالتبحر فى الدين ووقعوا فى الفخ الذى أعده الضباط لنا ليقسمون إلى فريقين متعاركيين، منشغلين بشكليات أدياننا دون جوهرها لننجرف دون طائل فى حروب تصب فى النهاية فى محاربة التقدم ومعاداة المستقبل.

ولكنني لن استسلم لليأس وسأذكر أننا كمصريين مسلمين ومسيحيين، مررنا بمراحل أشد ظلمة وظلماً، يونانيين ورومان ومماليك وإنجليز لكن مصر في النهاية لا تفرق وهذا هو واقع الحال.