أعادتنا إسرائيل إلى عصر ما قبل اكتشاف الكهرباء. ضربت محطة التوليد الرئيسية، فعمّ الظلام مدن غزة ومخيماتها وقراها. منذ أسبوع وغزة تعيش في ظلام دامس. تحوّل الإقليم الصغير بكثافته السكانية الأعلى في العالم، إلى مسرح للأشباح. وتحولنا نحن إلى أشباح تمشي في مجاهل الإقليم. في الليل ثمة البعوض والرطوبة وأصوات القذائف. وفي النهار ثمة الانتظار الذي من نوع (وقوع البلاء ولا انتظاره). وبينهما، وخلالهما، ثمة الغارات. وما إن تُغير طائراتهم، حتى يعلو هتاف quot; الله أكبر quot;. لا يهمّ إن كانت الغارة وهمية أم حقيقية. المهم أننا نردّ عليها بما في مقدورنا واستطاعتنا: التكبير! ماذا تريد إسرائيل؟ تريد استرجاع جلعاد شاليت. على الأقل، هذا ما تعلن عنه. وماذا يريد مُقاومونا؟ يريدون تحرير الأسرى، وأشياء أخرى ربما. أما نحن، أي مجموع الأغلبية الصامتة كما يقال، فضائعون بين ما يريده الطرفان. وضائعون ما بين إرادتيْن في صراع الإرادات القاسي هذا. إسرائيل، الكئيبة الروح، في دخيلتها، تكابر من جانبها، وترفض رفضاً مطلقاً (التنازل للإرهابيين)، فيردّ عليها مقاومونا بمكابرة أوسع وأضخم: طز فيكِ! لن نعطيكِ الجندي، وأعلى ما في خيلك اركبيه! إن هنا، بالضبط، تكمن المشكلة: أن تُترك إسرائيل لتركب أعلى خيْلَها. مقاومونا أدمنوا الموت، وثقافة الموت، حتى صارت هذه الثقافة، هي نُسغهم الحي. لذا فلا يعنيهم أن يموتوا هم شخصياً، فكيف يُعنَوا بموت الآخرين؟ إن الموت بالنسبة لهم، ووفق ثقافتهم، شهادة وجنة وحور عين. وهو، حتى لو لم يكن كذلك بالمرة، فهو، أي الموت، على يد إسرائيل، أفضل مليون مرة، من هذه الحياة اليومية (المؤجلة، المُنغص عليها، شبه الميتة). إسرائيل إلى حد الآن، لم تقرر موعد نقطة الصفر، لكي تبدأ عمليات اجتياحها البري الواسعة للقطاع. إنها تؤثر الانتظار قليلاً، فعسى تنجح الوساطة المصرية، وقبل ذلك وبعده، عسى تنجح استخباراتها في الحصول على معلومات، تدلّها على مكان الجندي المأسور. فلو حدثَ وحصلت على هذه المعلومات، فإنها ستباشر على الفور، في تنفيذ عملية كوماندوز خاصة، لقتل الخاطفين وإنقاذ أو حتى قتل الجندي المأسور برصاصها هي. فذلك عندها سيان. ولنتذكّر ها هنا، بل لنسترجع من الذاكرة، دراما ذلك الجندي القديم نحشون فاكسمان. ترى لو تمّ لها هذا الخيار، ماذا ستفعل إسرائيل في الخطوة القادمة؟ على الأرجح والبديهي، ستطلق يد آلتها العسكرية، تخريباً وتأديباً للفلسطينيين، كي تلقنهم درساً لن ينسوه طوال حياتهم. فالوضع الآن مختلف، قانونياً، عما كان عليه، حين كانت مسئولة كدولة احتلال عنهم. إن بإمكانها الآن، الدخول والتفظيع، ثم الخروج من غزة، وليستنكر العالم العربي والإسلامي، ما شاء له الاستنكار. أما في حال فشل المسعى المصري، فالمصير هو ذاته تقريباً ينتظرنا: لا مفر من الاجتياح! وكما نرى، ففي كلتا الحالتين، ثمة اجتياح. وفي كل اجتياح، كما هو معروف، ثمة ضحايا من الأبرياء. بل إن غالبية الضحايا سيكونون من الأبرياء. تحديداً وبالأخص، حين يتعلق الأمر بدخول جيش نظامي إلى علبة سردين مكتظة بالسكان المدنيين. إنها الحرب. والحرب هي الحرب. ولا يوجد فيها مكان لاستغاثة (يمّا ارحميني)! شيء محبط ومؤسف لا شك. شيء يزلزل ثقتنا كمثقفين وكبسطاء في الشرط البشري البائس. فمنذ كان البشر، منذ لوثوا هذه الأرض بخطوتهم العرجاء الأولى، وإلى يومنا هذا، وهم هم: لم يتغيروا ولم يتبدلوا سوى في الظاهر. أما في الباطن، فهم وحوش على شكل وسمت كائنات آدمية. وقطاع غزة في هذه اللحظة، مفتوح من كل أبوابه، على مستقبل وشيك، من الوحشية والتنكيل الوحشي. إن جسم القطاع كله، على مقربة الآن من نفَس الوحش! فالقطاع ذاهب إلى الحرب. ومستقبله هو الحرب. الحرب بين طرفين، واحد منهما، تقريباً، غير مؤثر على الإطلاق. أما الطرف الثاني، فمجهز بأعتى العتاد. لذا، فنتيجة هذه الحرب الظالمة، التي نضرع ألا تحدث، محسومة سلفاً: نحن الخاسرون الأكبرون. لذا أيضاً، لا مندوحة من طرح هذا السؤال: لمَ أوصلَنا مقاومونا إلى هذا المآل؟ أما كان أجدر بهم أن يرفقوا بنا وأن يشفقوا علينا من عدو لا يرحم؟ وإذا كانوا هم، لأسباب دوغمائية معروفة، يحبون الموت، ومغرمين به، فلمَ يفرضونه على غيرهم من أبناء شعبهم، ممن لهم آراء أخرى حول هذا الموضوع؟ إن البداهة تقول بأن كل عمل يُقاس بنتائجه. فإذا كان العمل صحيحاً، على الصعيد النظري، ونتائجه خاطئة وكارثية، على الصعيد العملي، فإن العمل خاطئ من الأساس. وبهذا القياس البراغماتي، قياس الربح والخسارة، الضروري جداً في العمل السياسي، فإن عملية كرم أبو سالم، هي عملية خاطئة، وما كان لها أن تحدث. فشعبنا المحاصر، منهك ومستنفد، ولم تبق فيه من حُشاشة للاحتمال. يقال في أمثالنا الشعبية: (ما بين حانا ومانا ضاعت الطاسة) أي بلغة عصرنا: ضاع العقل، وطاش الهدف، وضاع مستقبل البشر الرهائن في يد حفنة قليلة من المسلحين. أي بلغة عصرنا أيضاً: ضاعت الناس، وتبخّرت أحلامهم البسيطة العادلة، ولم يبق غير الموت والجنون. ففي بلاد مثل فلسطين الحديثة، يُعتبرُ الموت واحداً من تقاليدها العريقة، لا يجدي كثيراً، حتى أن تتكلم بقليل من الموضوعية عن مثل هذا الموضوع! الحرب ستبدأ، والاستغاثات ستندلع، وآلام البشر الطيبين البسطاء، بل حيواتهم ذاتها، ستضيع سُدى: ستتبخر في الهواء: ستكون فحسب، وقوداً نموذجياً، رخيصاً غير مكلف، لفضائيات ظلامية، تحرّض على اعتناق عقيدة الموت، مثل قناة الجزيرة. فوا أسفاه حين لا يجدي أسف بعد فوات الأوان.