بسم الله الرحمن الرحيم

1 ـالمستبد العربى لا يكذب أبدا.. إلا عندما يتكلم.!!
بالاضافة الى بعض السيئات الصغيرة مثل التعذيب والقتل و النهب والقهر وتضيع الوطن والمواطن فإن الكلام ـ فقط ـ هو وظيفة المستبد العربى الحقيقية وموهبته التى يجيدها أكثر من غيره من المحكومين وبها صار واستمر حاكما. وهو يقول عكس ما يفعل دائما، وما يفعله يدخل فى اطار الكبائر الشرعية، ولكنها تظل مسكوتا عنها طالما بقى وأعوانه فى السلطة. أما ما ينبغى القيام به من أعمال صالحة نافعة فمجالها التصريحات فقط. وهو لا يفتأ من تكرار تصريحاته الكلامية، ولا يخجل من تطعيمها بالكذب، ولا يحس بالعار حين يكرر وعودا يعرف أنها لن تتحقق.
المستبد العربى قد يرث الحكم وهو غير مؤهل لمهنة الكذب وصناعة الكلام، ولكن أجهزته الاعلامية تجعله فى حكمة لقمان وفصاحة داود وسليمان. وتقوم عنه تلك الأجهزة بصناعة الأكاذيب و إصدارالوعود التى انتهت فترة صلاحيتها.
ومنذ أن تولى العسكر حكم مصر فى 1952 وحتى الآن ونحن نسمع نفس التصريحات والوعود بالديمقراطية والاصلاح و الرخاء، وكلما إزدادت التصريحات والوعود الوردية إزداد بنفس القدر سوء الحال وإزداد انتشار الفساد فى البر والبحر حتى فسد الناس أنفسهم بفساد المناخ الأخلاقى والتعليمى والدينى والسياسى والفقر والجوع. وحتى فى التبرير للظروف الاستثنائية التى يرددونها لتأجيل الاصلاح فإنهم يكررون نفس الكلام بلا خجل، ودائما نسمع عبارة (فى هذه المرحلة) وفى كل وقت نتحدث عن المرحلة دون تحديد لبدايتها ونهايتها. وأرجو ان يقوم بعض الباحثين بمراجعة خطب حسنى مبارك منذ تولى الرئاسة الى الآن وفى كل (المراحل) ـ و يستخرج لنا كم مرة قال فيها (سوف نفعل كذا) أو (سنفعل كذا). طوال ربع قرن يا أخى المؤمن وهذا الرجل لا يكف عن أنه سوف يفعل وسيفعل، وهو لم ولن يفعل إلاّ ما يقهر الشعب.

2 ـ وهذه هى صفات الزعيم فى الثقافة العربية منذ العصر الجاهلى وحتى الآن..
فى العصر الجاهلى كان أكثر الناس كلاما وأبلغهم فى الفصاحة هوالرئيس، ليس مهما أن يكون صادقا فيما يقول أو ان يفعل ما يقول، بل المهم أن يكون فصيحا فى القول الكاذب بالنثر أوبالشعر، لذلك كان أغلب الزعماء هم الشعراء الذين (يقولون ما لا يفعلون) حسب وصف القرآن الكريم لهم.
الكذب مذموم فى كل حين لكنه تحول لدى العرب الى منقبة اجتماعية يزدان بها شعرهم فاعتبروا أعذب الشعر أكذبه. وهناك شاعر جاهلى افتخر بقومه قائلا
اذا بلغ الرضيع منا فطاما تخر له الجبابر ساجدينا.
فكوفىء على هذه الكذبة العريضة بالخلود حتى الآن فى معلقات الشعر العربى وفى تاريخ الجاهلية وتاريخ الأدب. و لو قالها شاعر انجليزى لاستحق سخرية الغربيين الى قيام الساعة. فى العرب اليمنية القحطانية الجاهلية كان يقال للرئيس (قيل) من القول، أى أنه لفصاحته فى القول أصبح (قيلا) أو زعيما. على نفس المنوال قالوا كلمة (الزعيم) بمعنى الرئيس والقائد.
الزعيم من (الزعم) او الادعاء. والقرآن الكريم استعمل كلمة(زعم) و(زعيم) بمعنى الزعم والمدعى وليس بمعنى الرئاسة والقيادة. ففى قصة يوسف قال أتباع يوسف عليه السلام لإخوته : (قالوا نفقد صواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم) يوسف 72) ويقول تعالى (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا، قل : بلى وربى لتبعثن..) التغابن 7).
ولكن الثقافة العربية الجاهلية جعلت من يتفوق فى المزاعم ولا يمل من تكرارها يصبح رئيسا قائدا، أو زعيما. لذا لا بد للزعيم أن يكون (مفوّها) أى كله (فم) أو يكون مجرد (فم) فصيح لا يمل من طحن الكلام وعجنه بالكذب.
فى أى مجتمع متعلم عاقل لا بد لصاحب هذه المزاعم ـ أى الزعيم ـ من ان يثبت مزاعمه، وإلا فالمحاكمة والعقاب. أما فى المجتمع الجاهلى فالزعيم أو صاحب المزاعم يصبح قائدا، ولا يطالبه أحد بالدليل على مزاعمه ودعاويه. ولأنه يصبح قائدا ورئيسا بأكاذيبه ومزاعمه فلا نتصور أنه سيعطى نفسه أجازة يستريح فيها من الكذب لأنه لو توقف لحظة عن الكذب سيظهر كاذب آخر ينافسه و قد يغلبه. أو باللغة المصرية (يظهر أبو لمعة تانى ياكل منه الجوّ).

3 ـ إنّ العصر الجاهلى ليس مجرد فترة تاريخية إنتهت بظهور الاسلام، بل هو مدلول ثقافى ظهر قبل الاسلام، ثم عاد بعده حين إنفصل العرب المسلمون عن الاسلام واخترعوا لهم أديانا أرضية تسكن (القول) وتهجر (الفعل) وطالما (قالت) فيكفى أن (تقول)، وليس عليها أن (تفعل) أو أن تحول (القول) الى (فعل). وهذا ما نحن عليه الآن : ظاهرة صوتية قولية..
وبهذا التركيز على القول دون الفعل فقد تطور القول ليكون مبالغة فى الكم وفى الكيف معا.
فقد إزداد (القول) ليصبح إطنابا وفضولا فى الكلام وثرثرة بلا معنى إمتلأت بها الفضائيات ومواقع الانترنت والصحف والاذاعة والمصاطب و محلات الحلاقة ومواقف الاتوبيس ومنابر المساجد. وقلّ أن تجد فى هذا الطوفان من الكلام قيمة إلا ما ندر. وإذا تسللت بعض كلمات نافعة أغرقها طوفان الكذب واللامعنى وضاعت. هذا من ناحية الزيادة الكمّية فى الكلام.
أيضا تعمق (القول) ليتحد بالكذب والبهتان. إن للكلام الصادق حدودا حيث يشعر القائل الصادق بمسئوليته عما يقول، ولا بد أن يتحرى الصدق فيما يقول، ولكن ليس للأكاذيب حد أقصى.
وحتى تتحصن الأكاذيب وتنجو من النقد والنقاش فقد التصقت بالدين الأرضى ونسبت نفسها أو نسبها أصحابها الى الله تعالى ورسوله فى صورة أحاديث نبوية أو قدسية أو منامات أو رؤى أو هواتف او علم لدنى الاهى فأصبحت أكاذيب مقدسة فى أديان المسلمين الأرضية مثل السنة والتشيع والتصوف والتصوف السنى. وقد ركن معظم المسلمين الى هذه الأديان الأرضية، وهجروا من أجلها الاسلام العظيم وقرآنه الكريم.

4 ـ وفى عصرنا الراهن فإن معظم الدول العربية لا تزال مجرد قبائل عربية متفرقة متشاكسة، وهم أبعد ما يكون عن حقيقة الدولة بمفهومها العصرى الحديث.
فى الدول الحديثة فى العالم المتحضر المحترم قد يقع أحد السياسيين فى الكذب بحجة أن السياسة لا تستغنى عن الكذب والكلام الذى يحتمل التأويل والذى يحتمل معنيين، أو أن الغاية تبرر الوسيلة. إلا أن كل هذه المبررات لا تجدى، فالشعوب المتحضرة لا تسمح للرئيس أو المسئول أن يكذب أو أن يعد فلا يفى بوعده. وإذا فعل فأمامه المحاكمة البرلمانية أو الجنائية، وقد يترك موقعه ليفلت بجلده من السجن.
وفى القبائل العربية الحديثة ـ التى اعترف بها العالم دولا ـ لا بد أن توجد للكذب مجموعة من الوزارات مثل الاعلام والتعليم والثقافة والشئون الدينية. وتتنوع مهامها من الكذب على الله تعالى ورسوله فى الدين الى الكذب على الناس فى الدنيا والدين. وبسبب ان الناس يعيشون فى مناخ يتنفس الكذب و يعشق الكلام دون تفكير فان العقل قد غاب عن الساحة تاركا مكانه للعواطف الجامحة والخرافات المقدسة والأبقار المقدسة. وبهذا المناخ تنقلب الأوضاع فيصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا، والفضيلة رذيلة والرذيلة فضيلة. ويتطرف الكاذب الأكبر ـ أى المستبد ـ الى ادعاء الوحى الالهى فيقال له (الزعيم الملهم)، وكم حظى العرب بزعماء ملهمين أكثر من الهمّ على القلب، من عبد الناصر الى الى صدام والقذافى !!. ومعظمهم كان يرى نفسه أكبر حجما من دولته وشعبه. ولا تستغرب هذا فقد نصب نفسه الاها لشعبه..!!

5 ـ فى الدول الحديثة تجد البطولة المطلقة للشعوب، فهى التى تعمل وتنتج وتتقدم فى الاختراعات، وهى التى تنفق على الرئيس والحكومة والقضاة الجيش والشرطة وغيرهم، وهم ليسوا سوى خدم للشعب، وهذا هو لقبهم الرسمى Public Service)).
وهناك دول صغيرة فى المساحة والسكان وفى الموارد مثل فنلنده وسويسره و سنغافورة واسرائيل ولكن تتفوق الواحدة منها على إنتاج كل الدول العربية ـ ما عدا (منحة) البترول التى حولها جهل العرب الى (محنة). ويمكن ان نوجز الأسباب كلها فى سبب وحيد جامع مانع فى تفوق تللك الدول الصغيرة القوية الثرية، هو أنه لا أحد يعرف رئيس تلك الدول.
مستعد أن أدفع لك نصف مرتبى ـ إذا وجدت عملا بمرتب ـ مكافأة لك إذا عرفت اسم رئيس دولة اسرائيل أو رئيس سنغافورة أو رئيس سويسرا أو رئيس فنلنده أو رئيس بلجيكا او هولنده أو السويد او النرويج..الخ..
الرئيس هناك خادم مغمور للشعب، أما الشعب بحضوره و حيويته وقوته فهو الذى يحتل الصورة. وبعيدا عن كل الاختلافات فى معانى و ممارسة الديمقراطية فان المعيار الحقيقى والعملى لها هو فى موقع الرئيس ونفوذه، والى أى حد يكون معروفا ومشهورا. وكلما إزدادت شهرته كان ذلك على حساب شعبه وعلى حساب الديمقراطية، وكلما توغل فى الظل كان ذلك دليلا على صدقه فى العمل فى صمت فى خدمة شعبه فى المدة القليلة التى يعمل فيها مع حكومته فى خدمة الشعب. وتنتهى المدة فيعود الرئيس الى حيث كان فردا عاديا يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق ويعيش فى أمن وأمان بين الناس محاطا بالاحترام والتقدير.
هذا الرئيس الديمقراطى ليس محتاجا للكذب، ولماذا يكذب أصلا وهو لم يسرق ولم ينهب ولم يقتل؟ وهو إن فعل فلن يرحمه أحد ولن يبكى عليه أحد.
قارن احوال حكامنا ـ يا مؤمن ـ بأولئك المستبدين. تجدهم أشهر ـ إعلاميا ـ من الدول التى يحكمونها. فضائحهم وأكاذيبهم تزدحم بها أخبار الصباح والمساء فى العالم الخارجى. أمّا فى الاعلام الداخلى المملوك للمستبد فتجد فى المقدمة أخباره، واذا لم يكن هناك خبر فلا بد لايجاد خبر من صناعته واقعا أولا، كاقامة حفل لمؤتمر ما أو لافتتاح مشروع سبق وتم افتتاحه عشرات المرات. فى الحفل لا بد من القاء خطبة عصماء يكتبها أحد خصيان المستبد، ويحضر الخطبة الكهنة وكلاب الحراسة وكبار صغار الموظفين وصغار كبار الموظفين من السماسرة والقتلة والحواة والبلطجية والجلادين و والمرتزقة والأفّاقين وكل من عصى الله تعالى ورسوله. وفى الحفلة وفى الخطب العصماء المكتوبة سلفا يقول الرئيس يكرر نفس الكلام ونفس الوعود (سوف نفعل وسنعمل كذا.. وفى هذه المرحلةالعصيبة من مراحل الكفاح الوطنى.. ولن تفلح مؤامرات الأعداء.. وسننتصر على كل المؤامرات). و تنطلق الحناجر بالتهليل وتلتهب الأيدى ـ التى تستحق قطعها ـ بالتصفيق. ولأن عددهم كبير ـ أكثر من الهم ّ على القلب ـ فإنّ زئيرهم يكون له وقع على الكاميرا، فتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى..وقبل اقامة الحفل والقاء الخطبة يكون قد تم اعداد الخبر وتوقيت اذاعته ليذاع خبرا أساسيا يتصدر الجرائد والاذاعة والتليفزيون والبوتاجاز..
وبعض القادة العرب مثل الزعيم القذافى ـ عليه سحائب الرحمة والرضوان ـ قد أدمن الظهور فى أجهزة الاعلام حتى أنه لا بد له من افتعال مسرحية فى كل مؤتمر قمة او أى حادث يستحوذ اهتمام العالم ليذكره الاعلام العالمى وليكون فى الصورة بأى شكل. وبعض الحريصين على صحته يشفقون عليه إذا مرّ أسبوع دون أن يأتى إسمه ضمن أخبار السى إن إن. وندعو له بالشفاء.. وليس مهما أن يمرض الشعب الليبى الشقيق، أو أن تضيع أمواله فى مؤتمرات عالمية يومية يعقدها الزعيم الليبى فى بلده ليتحدث المنافقون عن مناقبه وتجلياته ونظرياته.

6 ـ وانظر حولك فى غابة العالم العربى فلن تجد إلا ضجيجا، ليس ضجيج المصانع والعمل والانتاج، ولكنه ضجيج الكلام الأجوف والتصريحات الذى يغطى بقوة على ضجيج آخر آن للعالم أن يلتفت اليه، وهو صرخات الفقراء الجوعى العرب، وصرخات المساجين العرب تحت وقع سياط التعذيب، وصرخات القتلى بلا ثمن فى الحروب الأهلية والمنازعات الطائفية. إنها صرخات مختلفة وبنفس اللغة وبنفس الحدة ؛ بعضها يقول للزعيم : بالروح بالدم نفديك يا عباس، والصرخات الأخرى تهتف من أعماقها تلعن هذا العباس.. وعباس ـ كان ولا يزال ـ وسيعقد مؤتمرا صحفيا يتحدث فيه عما سيفعله لاصلاح التعليم والطرق والمجارى والمواصلات و الميزانية والبطالة والاسعار والاسكان..

7 ـ مسكين يا عباس..!!