لا شك ان العملية العسكرية، بكل معنى الكلمة، التى نفذها الفلسطينيون فى غزه اخيرا، هى عملية ممتازة ومميزة، وفى منتهى الاهمية.

*فهى تؤكد أن الانسان مازال أكبر وأقوى وامضى من كل أسلحة الارض. وفى مقدورنا ان نتصور القوة العسكرية التى سيكون عليها هذا الشعب الفلسطينى العظيم لو انه ملك السلاح المتطور وحب الوطن والارض.
* وهى تؤكد بشكل واضح، ان الفلسطينيين أختاروا هدفا عسكريا ولم يقتربوا من المدنيين مع انهم عودونا انهم قادرون على الوصول الى الشارع الاسرائيلى والمطعم والاسواق.
* وهى تؤكد، ثالثا، على ان الاحتلال الاسرائيلى لم يترك وسيلة للمهادنة، ولا للمصالحة، ولا لاستبعاد العنف. ففى حين حاول أن يقنع العالم بانه أنسحب من غزه، اذا به يثبت للعالم ان انسحابه من غزه كان فقط تجنبا للخسائر وهروبا من العمليات الفلسطينية، فاخذ على عاتقه أن يضرب من بعد، من خارج حدود القطاع، ومن عرض البحر ومن عنان السماء، فلم يرحم عائلة ولا اطفالا ولا مشاه فى قلب الشارع. فحصد فى شهرين أو اقل أكثر من مائة قتيل وثلاثمائة جريح معظمهم من الاطفال والنساء والشيوخ، عدا ألاف الاسرى والمعتقلين الذين بينهم فتيات ونساء حبال وضعن أطفالا داخل السجون. وبينهم مئات من الفتيات الذين لا تتجاوز اعمارهم السابعة عشرة.
* وهى تؤكد، رابعا، على أن الذين قاموا بها يتمتعون بالكثير من المنطق والعقل والتعقل ومعرفة النفس. فهم لم يطالبوا بتحرير فلسطين مقابل تحرير الجندى الاسرائيلى، ولا طلبوا ملايين الدولارات. بل طالبوا بالافراج عن الفتيات والنساء والامهات والفتيات الذين يحرم القانون الدولى زجهم فى سجون الاحتلال، لان الاحتلال ndash; طبقا للقانون الدولى ndash; مسؤول عن سلامة الناس الذين يحتل بلدهم تماما كالحكومة التى يخضع هؤلاء الناس لقوانينها.
* وهذه العملية العسكرية رفعت النقاب القبيح عن وجه اسرائيل ووجه الولايات المتحدة، فتأكد للمجتمع الدولى أن الديمقراطية التى طالب بها الاميركيون والتى جاءت بحماس الى الحكم هى ديمقراطية كاذبة ومشروطه فاذا جاءت بحلفاء أميركا فاهلا بها واذا حجبت هؤلاء فهى ارهاب.
على ان ما اسفرت عنه وما قد تسفر عنه هذه العملية الجريئة، هو انها اثبتت بالدليل القاطع أن اسرائيل لا تريد السلام. ولا تريد الديمقراطية، بل تسعى لمذبحة فلسطينية اهلية، وتريد أذا امكنها ذلك، ان تضغط على حماس بالجوع وقطع الماء والكهرباء بحيث اذا عادت الجيوش الاسرائيلية من غزه، تصبح حماس لقمة سائغة فى افواه الجائعين فتسقط، وياتى الى الحكم الفريق اياه الذى تراهن عليه اميركا واسرائيل وهو الفريق الذى سيرضى بالواقع مقابل اشباع البطن لا اشباع الضمير. ولعل من أفظع المفارقات ان الذى دمرته أسرائيل من البنى التحتية والفوقية من كهرباء وماء وجسور هو مال اميركى وعربى تبرع به المجتمع الدولى لاغاثة الفلسطينيين ومساعدتهم على ممارسة حياتهم اليومية البائسة.
واما خطف الوزراء والنواب بالعشرات فهو فى الواقع عمل ارهابى بكل معنى الكلمة. واعتقال أكثر من ستين مسؤولا ونائبا ووزيرا يعنى اعتقال ناخبيهم الذين تفوق نسبتهم الستين بالمئة من أبناء الشعب الفلسطينى.
واذا كان السلاح هو عنوان الحكومة الاسرائيلية التى تتكل على القوة بدل العقل، فهذا يعنى من دون شك، ان المسؤولين الاسرائيليين مازالوا يتمتعون بالكمية نفسها من الجبن والخوف من الماضى والحاضر. فالجبان فقط هو الذى يهرب الى الامام ويلجأ الى اخفاء وجهه عن الحقيقة ولعل اسرائيل تعلم كما نعلم نحن تماما، ان الذين أختطفتهم من النواب والوزراء كانوا يعلمون انها ستلجأ الى هذا الخطف ولذلك، بقوا فى منازلهم ومساكنهم ينتظرون اللحظة التى ستبرهن على شجاعتهم وضعف اسرائيل. وسوف يخجل المجتمع الدولى من نفسه غدا عندما يدرك معنى أن تلجأ القوّة العسكرية الى سجن الحرية وتكبيلها واعتقال الديمقراطية التى يتغنون بها ويظنون أنها من نتاجهم وحدهم.
. وهذه العملية النوعية الجريئة، أثبتت ايضا ان الدم الفلسطينى ليس دما رخيصا. وان الشعب الذى يعيش ذل الاحتلال لن يتمكن من الركوع أو استجداء الامن. ولذلك رأينا، بدهشه، كيف تمكنت حفنه من الشباب الفلسطينى البطل أن تحفر نفقا بطول حوالى نصف كيلو متر تحت دبابات ومراكز الاحتلال فاذا حانت الساعة زلزلت الارض من تحت المحتل وكادت ان تذهب عقله.
* وهذه العملية، أثارت حفيظة الاميركيين الذين رأوا فيها تقدما نوعيا مميزا فى مقاومة الاحتلال. ورأوا من خلالها أن الفلسطينيين دخلوا مرحلة متطورة جدا من التصدى للاحتلال. ولذلك كان التعليق الاميركى الاول هو مطالبة الطرفين بضبط النفس. وقبل هذه العملية لم تكن واشنطن تطلب ضبط النفس الا من اسرائيل، وتوصيها بان تفعل فعلتها بأقل الخسائر، وتبدى تفهمها الدائم لدوافع العدوان الاسرائيلى. أما اليوم فقد تغيرّ الوضع والموقف. فلم يعد السلاح الاميركى المتطور هو الذى يجلب النجاح والنصر الاسرائيلى بل أن الشجاعة الفلسطينية قلبت الطاولة واعادت السلاح الى جبنه وعماه وعدم فعاليته فى أيدى الجبناء.
على اننا نؤكد ايضا وفى الوقت نفسه على ضرورة أن يكون أبطال هذه العملية الشجاعة والذين معهم ووراءهم فى مستوى هذا العمل الشجاع.
ونامل أن يكونوا قد درسوا عواقبه وانعكاساته على فلسطين والفلسطينين والسلطة والحكومة. وان يدركوا سلفا ان عمليات من هذا النوع سوف تدفع باسرائيل الى مزيد من القمع والقتل والاغتيال... وربما الاجتياح. وفى رأينا، أن الاجتياح مستبعد جدا لان اسرائيل لا تستطيع أن تكرر وجودها العسكرى فى غزه، الذى كلفها الكثير من الخسائر.
ونأمل ان يراعى أبطال هذه العملية تطبيق التقاليد العربية. والشهامة العربية التى تحفظ حياة الاسير ولا تتعرض له بالاذى. وأن يتقنوا التفاوض مع الاطراف التى ستفاوضهم أيّا كانت هذه الاطراف.
وأما الرئيس أبو مازن الذى نجلّه ونحترمه ونعرفه تمام المعرفة، ونعرف أنه لا تنقصه الشجاعه، ولا المنطق، ولا الموضوعية، باننا نتمنى عليه أن يستخدم نفوذه الدولى ndash; وهو يملك أحترام العالم كله ndash; للضغط على شريكه الاسرائيلى الذى لم يحترم أى اتفاق وأى معاهدات مكتوبة او غير مكتوبه مع الجانب الفلسطينى. ولو كانت تريد التفاوض والسلام لما لجأت الى الاستمرار فى القتل العشوائى الجبان الذى أصبح ينطلق فقط من البحر أو من السماء فيحصد الناس دون تمييز، ويرفع أبتسامة واشنطن الى أقصى الحدود. وقد اَن لهذه الابتسامة الشامته أن تتوقف عن أحتقار الشعب الفلسطينى.. والى الجر بفلسطين والفلسطينيين اذا كانوا سيرضون بالذل فى السلم بعد أن رفضوه وهم فى بذرة النار.
بالمناسبة : ماذا كان يفعل هذا الجندى المخطوف فى صفوف الجيش الاسرائيلى وهو يحمل الجنسية الفرنسية؟ وهل كانت فرنسا ترضى بان يكون أحد خاطفيه فرنسيا من أصل فلسطينى؟ وهل كانت فرنسا ترضى أن يعود الفلسطينيون والعرب الذين يحملون جنسيتها الى صفوف المقاومة فى لبنان وفلسطين.. والى معاداتها فى الجبهات العربية الاخرى ؟
عجبى !