خرجت سوريا من لبنان، بعد أن خرّبته، وأوشكت على قتل كل جميل وصحي فيه. وها هي تدخل على الخط الفلسطيني، لتعوّض ما خسرته هناك في لبنان. كأن الساحة الفلسطينية شبه الخاربة، فيها متسع لمزيد من ألاعيب النظام السوري الفاشي. وكأنْ الفلسطينيون، المحاصرون المجوّعون، المهددون في كل شيء، بهم قدرة على احتمال مزيد من العبث البعثي. إنّ ما فينا يكفينا ويزيد. هذا هو لسان حالنا، في الواقع وفي الحقيقة. فلأول مرة، يكاد مشروعنا الوطني، وما يرتبط به من مصالح عليا، يغيب عن حسابات غير واحدة من قوانا السياسية. ولأول مرة، في تاريخنا المأسوي، يكاد كل طرف من أطرافنا، يتقوقع في صدفة حساباته الخاصة، دون التفات إلى أن هذه تأتي فقط على حساب مصلحة المجموع والكلّ الفلسطيني. قوى كبرى، فاعلة ميدانياً، ومدعومة خارجياً، وبالأخص من نظامي طهران ودمشق، تأسرُ هذا الشعب الغلبان، وتجعله رهينة نزواتها ومنطلقاتها الأيديولوجية والسياسية. بل لا تتورّع عن زجّه في الحروب الخاسرة، مقابل رضاء دمشق وطهران عنها. فلمصلحة من يُفعلُ بنا هذا؟ ولمصلحة مَن نذهب إلى حرب وشيكة، ستأكل الأخضر واليابس؟ أمن أجل أن يُصدّر النظام السوري أزماته الداخلية والخارجية إلينا؟ أمن أجل أن نكون، كفلسطينيين، ورقة رابحة في يديه، بعدما خسر الورقة اللبنانية؟ وهل وضعنا يحتمل مثل هذه الألاعيب المبتذلة المكشوفة؟ وبالأخص في مثل هذا الوقت الحساس، بل شديد الحساسية والدقة؟ إننا نعيش الآن ذروة الأزمة. ونظام دمشق، هو فاعل رئيس فيها. حتى لو أنكر ذلك، كما هي عادته التاريخية في إنكار الحقائق والهروب منها إلى الأمام. سوريا، نظاماً، لها يد طولى، فيما يعانيه الشعب الفلسطيني في هذه اللحظة. إنها، باحتضانها لتيار التطرف العدمي، تؤجج النار، ليس فيما بيننا فحسب _ وتلك مصيبة كبرى، بل أيضاً بيننا وبين عدونا التاريخي إسرائيل _ وتلك مصيبة أكبر. فأي عاقل يعرف بالبداهة، أننا كشعب أعزل، وكقوى مسلحة لا تمتلك إلا أجيالاً بدائية من الأسلحة، سوف [ نأكلها ] فيما لو اندلعت الحرب. والحرب على وشك. وإسرائيل، رئيسَ حكومةٍ، وقيادةَ أركانٍ، تًحضّر لها ليل نهار. مئات الدبابات والمجنزرات على حدود القطاع. آلاف الجنود المدربين المزودين بأحدث الأسلحة. عشرات الطائرات الحربية من إف 16 وما تحتها، تمخر هواءنا وسماءنا، كل لحظة، وتصوّر أدق تفصيل على الأرض. والشعب محاصر ومكشوف منذ فوز حماس. محاصر وجائع، ومع هذا لا يرحمه لا أولاده، ولا جيرانه العرب، ولا بالطبع دولة الاحتلال. نعرف ما هي حسابات النظام السوري الرخيصة. لكننا لا نفهم كيف ينفذها فلسطينيون على فلسطينيين! ولا نفهم، كيف يُطاح بهذا الوطن، أو بما تبقى منه، بغية إرضاء هذا الطرف الخارجي أو ذاك. سوريا ماضية في مؤامراتها. وإسرائيل ماضية في الردّ على هذه المؤامرات، بأحسن منها. ونحن عالقون بين الدولتيْن. عالقون بلا حول وبلا قوة، غير قوة غريزة البقاء والتسيير الذاتي فحسب لا أكثر. شعب منهك، في تمام إنهاكه. وقوى مأخوذة بأوهام أقوى وقعاً على روحها من حقائق الواقع، التي لا تريد هذه القوى رؤيتها البتة. فماذا سيتمخض عن كل هذه المسرحية الماسخة؟ فقط الدمار والخراب. وفقط، مزيد من الإعياء والعياء، لشعب مطلوب منه [ أن يقاوم ] دون توفير الحدود الدنيا من متطلبات هذه المقاومة. لقد صارت فلسطين العزيزة، هي [ الأرض اليباب ] في الجغرافيا الكونية المعاصرة. الأرض اليباب، ليس فقط بفعل ودموية إسرائيل. بل بفعل ودموية بعض أهلينا نحن. ومن هؤلاء الأهلين، نظام بشار الأسد. هذا الرجل، الذي خرّب الحياة الطبيعية في بلده سوريا، وقمعَ حريات مواطنيه، وسجن مثقفيها، وزجّ بمصير سوريا كلها، وطناً وشعباً، في غيهب الأزمنة الكئيبة. إننا نقول له : ارفع يدك غير النظيفة عن شعبنا. شعبنا يكفيه ما فيه يا بشار. شعبنا شبعَ من ألاعيبكم ومن أوهامكم التي أوردته موارد التهلكة. شعبنا بحاجة، لا إلى يدك، بل إلى يد العرب الشرفاء المخلصين العقلانيين، البعيدين عن كل حساب غير حساب مصلحة شعبنا المقتول المحاصر. إرفع يدك، فما في الجسم متسع لمزيد من نصالك، وما في الروح فسحة لتملأها أنتَ بالسواد. يكفينا إسرائيل وما تفعله بنا وفينا. ويكفينا الأجنحة المسلحة من قوانا السياسية، وما تلحقه من أذى مرير بنا وفينا أيضاً. لقد تعبنا وأُنهكنا ونوشك على الانهيار، حتى دون حرب. حتى دون أن يعيد أولمرت [ هندسة الروح الإسرائيلية ] بموضعتها حول قطب جيشه الأقوى والأعتى. فاخرج أنتَ من هذه اللعبة القذرة : لعبة أن يعاني شعب بأكمله، بنسائه وأطفاله وشبانه وشيبته، كي تبقى أنتَ وغيرك على كراسيكم، في دمشق وطهران وجنوب لبنان. نعم. لا للتدخل السوري في فلسطين. الآن وهنا. فالآن وهنا، هما ذروة الأزمة. وهذه الأزمة، هي صناعة سورية بامتياز. صناعة كنا في غنى عنها، وعن تعقيداتها الكارثية، خصوصاً وقد اتفقنا أخيراً على وثيقة الأسرى في سجن هداريم. خصوصاً وقد انفتح أفقٌ كان مقفولاً أمامنا لوقت طويل. وبدل أن يساعدنا الأخوة العرب، بما يؤكّد هذا الاتفاق التاريخي، وبما ينفّذه سريعاً على أرض الميدان، ها هي سوريا، ممثلة برأس نظامها في دمشق، تخرج علينا بتدبير هذه العملية الكارثية، لتقلب كل شيء رأساً على عقب. تُرى ما الذي يريده العرب من الفلسطينيين؟ أأن يظل هؤلاء ورقة رابحة في أيديهم، لحين وقت اللعب؟ ألا سحقاً لهذا النظر القاصر، غير المسئول. وألا سحقاً لكل تلك الشعارات الطنانة الفارغة، عن الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة!