كنا تنفسنا الصعداء، وقلنا: قرّبتْ أن تنفرج. لولا أن فاجأتنا هذه العملية، عملية quot;كرم أبو سالمquot; أو quot;كيرم شالومquot;. عملية طبّلت لها وسائل إعلامنا المحلية، وأغدقت عليها من الصفات، فوق ما تحتمل الحقيقة. مثل quot;نوعيةquot; وquot;إعجازيةquot;، quot;جريئة ومشروعة وبطوليةquot; وquot;العملية التي مرّغت الشرف العسكري الإسرائيلي في الوحلquot; إلى آخر ما هنا وهنالك من نشوة الضحية إذ تردّ صفعةً إلى من جرحها وأذلّها من قبل. بل إن بعض محللينا السياسيين، ممن اتصفوا طوال مسيرتهم بالعقلانية ودقة المقاربة، انزلقوا إلى هذه الوهاد، فطبّلوا هم أيضاً، لما جرى. ليذهب الجميع، عاطفيين غرائزيين، وعقلانيين واقعيين، إلى نرجس الذات، وهدهدة هذا النرجس المجروح. لم يلتفت أحد، إلى ما يمكن أن تتمخض عنه هذه العملية، من نتائج وتطورات وتداعيات وانزلاقات خطيرة، تنعكس سلباً وسلباً خالصاً، على تطلعاتنا في إنجاز أجندتنا الوطنية وهمومها المتكاثرة الضاغطة. لقد جاءت العملية، كما يعرف الجميع، بعد أقل من يوم واحد، على إعلان اتفاق قوى الطيف السياسي الفلسطيني، على وثيقة الأسرى. أي جاءت في توقيت ليس هو بالسيىء بل هو الأسوأ بامتياز! ما يعني أن ثمة وراء الأكمة ما وراءها. فالعملية، بهذا التخطيط الدقيق جداً، إلى درجة الإحكام، لا يمكن أن تكون بنت يومها أو أسبوعها أو شهرها حتى. بل هي بنت عدة شهور على الأرجح. شهور، وحماس تخطط لها، بالتعاون مع القوتين الأخريين، اللتيْن شاركتاها في تنفيذ العمل. ربما أرادت حماس، وبإيعاز من سوريا، عبر خالد مشعل، أن quot; تُسخّن quot; الوضع، بغية فك حصارها وتذويب أزمتها الطاحنة وورطتها في تقلد مقاليد سلطة، لم تستعد لها، كما قالت الوقائع على الأرض، سوى بالشعارات والعواطف. وربما أيضاً لحسابات غير فلسطينية بالمرة، وهو احتمال لدينا ولدى العالم ما يؤكده، أو على الأقل يضعه في الحسبان. فواضح أن سوريا البعث، تغذّي نزعات التطرف في الساحة الفلسطينية. وتغذّي بالأخص، التيار الجهادي في حماس، على حساب التيارات الأخرى، الأكثر واقعية، والتي تريد الاحتفاظ بالسلطة، مقابل تنازلات هنا وهناك، بما يُرضي عنها الأطراف الفاعلة في العالم. جاءت هذه العملية إذاً، وقبل أن يجف حبر الاتفاق الكبير، لتمرّغ هذا الاتفاق بالأرض، ولترسل الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وربما في الضفة كذلك، إلى مجهول سياسي، لا أحد يعرف نهايته أو قعره. مجهول ربما يودي بالسلطة ذاتها إلى التلاشي. والعودة مرة أخرى إلى خيار الفوضى الشاملة والتخبط الفلسطيني الأكبر. أي العودة إلى ما هو أسوأ وأنكي وأفدح من نقطة الصفر! ولقد جاء كل هذا، وتحديداً في هذا الوقت العصيب، كأفضل هدية لإسرائيل. فإسرائيل لا تريد لطيفنا السياسي أن يتفق، ولا لقوانا أن تجتمع على كلمة سواء، كلمة مسؤولة، بعد أن طال تفرقنا ونزاعاتنا بما يُقرّبنا من شبح الحرب الأهلية. لأنها بالذات وبالأخص، لا تريد شريكاً، وتصرّ على أنه لا يوجد شريك في الجانب الفلسطيني. إن إلغاء الشريك، وإقناع العالم بذلك، هو المقدمة التي لا بد منها، كي تنفذ دولة الاحتلال، خططها المعلنة في تطبيق الحل الأحادي الجانب. ولذلك، وضعنا يدنا على قلوبنا، منذ سمعنا بالخبر الأول لهذه العملية سيئة التوقيت والعواقب والنتائج. وضعنا يدنا وقلنا ربنا يستر. مثلما وضعناها قبلاً مئات المرات. ذلك أن قوانا الفاعلة، وكما يبدو لي، لا تفهم إلى الآن، عقلية عدوها وكيف يفكر، وما هي الخطوط الحمراء لديه، وما هو الذي يخرجه عن طوره ويدفعه إلى الجنون، من أحداث وفعاليات. لقد كان بإمكاننا ككلٍ فلسطيني، أن لا نقع في مثل هذا المحظور. وأن نداوي حالنا بغير هذا الحل العنيف. لكننا، أو بعض منا، أضاع هذه الفرصة، لأنه أساساً لا يريدها. دون أدنى اعتبار لما يريده الشعب في مجموعه، ودون صغير إحساس بما يعانيه ويقاسي منه، هذا الشعب أيضاً. فالحصار الجائر الخانق، يدخل الآن شهره الخامس على التوالي. ولقد بدأت مقومات الناس على مجرد الاستمرار في مواصلة العيش، تضعف وتتآكل، بل تذوي وتموت عند عشرات آلاف الأسر الفلسطينية الفقيرة. دون أن يضع أحدٌ ممن بيده بعض الربط والحل والمال، معاناتهم في حسبانه الفئوي والفصائلي. بل وصل الأمر ببعض الموظفين إلى التسول العلني في الشوارع وعلى قارعة البنوك الخاوية. هذا هو حالنا الآن، تحت قسوة الحصار الإسرائيلي من جانب، وقسوة حصار الأجنحة المسلحة لقوانا من جانب آخر. إننا نناشد، وهل نملك أكثر من المناشدة؟ نناشد حماس، داخلاً لا خارجاً، فالخارج بعيد عنا ولا يحسّ بنا كما ينبغي : نناشد حماس الداخل، بعض قواها العقلانية نسبياً، أن تنهي هذه الأزمة، قبل فوات الأوان. كي تجنبنا وتجنب من انتخبوها، مغبة الانزلاق في هاوية العنف الدولاني الإسرائيلي الذي لا يرحم ولا يدع أحداً غيره يرحم. نناشد القوى العاقلة في حماس، ألا تأخذها نشوة الانتصار، فتنسى عواقب هذه النشوة، من مرارة وهول الاجتياح البري فيما لو تمّ هذا الاجتياح. إن إسرائيل لا تمزح معنا. بل إنها جد جادة في تهديداتها. وجادة جداً في ما تنويه لنا من مجازر وكوارث وجرائم حرب. لذا على قادة حماس الداخل، أن يعيدوا الجندي الإسرائيلي إلى بلاده. حتى لو لم تستجب إسرائيل للشروط التي وضعتها كل القوى في تحرير الأسرى من النساء والفتيان والمرضى. إن المطلب لعادل جداً وإنساني جداً. لكن إسرائيل، لن تعطينا شيئاً، لكي لا يكون ذلك quot; سابقة quot; يُبنى عليها. فحالنا ليس مثل حال حزب الله مثلاً. بل هو أعقد وأسوأ ألف مرة من ذلك. ليخرج الجندي إلى أهله، قبل أن نخرج نحن العزل من فم الحصار الخانق، إلى فم الموت، مجازرَ واجتياحاتٍ وتهديم بيوت على رؤوس ساكنيها. وفي هذا السياق، تحضرني كلمة شهيرة لهاينه، الشاعر الألماني الإنساني الحكيم، حين قال في مناسبة لا أعرفها، ولعله قالها في غير مناسبة غير مناسبة الشعر [ نادراً ما فهمتموني. ونادراً ما فهمتكم. أما عندما نسقط في الوحل، فعندها نتفاهم فوراً ]! أرجو من كل قلبي ألا يحدث ذلك. أن نلحق أنفسنا قبل السقوط في الوحل. ولا بأس من سوء التفاهم، بشرط الابتعاد ما أمكن عن حمأة الوحل.