ميزة المجتمع الإنساني أنه يتغير باستمرار، وأهم ما يتغير من هذا المجتمع ليس مجموعة الأفراد المكونين له، ليس البعد المادي من المجتمع هو أهم ما يتغير فيه، بل المعنوي منه. غير المرئي هو أهم ما يتغير من المجتمع، مجموعة العلاقات التي تربط بين أفراده ومؤسساته، وكذلك مجموعة المفاهيم والأفكار التي تضبط إيقاع هذه العلاقات.
مؤسسة السلطة تتغير، ويكون التغير فيها مهماً عندما يكون على صعيد العلاقة التي تربطها بمؤسسات وأفراد المجتمع. عندما تتحول هذه السلطة من مالكة للشعب، إلى أجيرة لديه، فهذا يعني أن تغيراً حقيقياً طرأ عليها. لكن في حال أن مثل هذا التغير لم ينبت في بيئته الحقيقية فإنه سرعان ما يكون غير مجدي، كما هو الحال في العراق الآن حيث خانت السلطات المتوالية خلال هذه السنين الثلاث عقد (الإجارة) الذي بينها بين الشعب، وراحت تتحول من أجير أمين لأجير خائن، سارق وبلا مروءة بالمرة، نعم لقد غسلت دماء الأبرياء كل ما تبقى من مروءة سياسيينا.

المؤسسة الدينية أيضاً تتغير بتغير العلاقات التي تربطها بأفراد ومؤسسات المجتمع، لكن معها الأمر مختلف، إذ الأصل فيها أنها راعية للشعب وأمينة عليه، لذلك فإن تغير هذه المؤسسة يكون دائماً محفوفاً بالمخاطر، خاصَّة عندما تتحول ـ في سياق تغيرها ـ من راعية للمجتمع إلى ناهبة له. المهم في الكلام عن جدل التغير هذا أن نرصد تغير المفاهيم، التي قلنا أنها تضبط علاقة المؤسسة بالشعب. باعتبار أن العلاقات وهي تتغير لا تكون دائماً تابعة لتغير في المفهوم، بل كثيراً ما تتغير العلاقة استجابة لطارئ ما أو رضوخاً لضغط معين، ثم تقوم العلاقة الجديدة ومن خلال قوة المؤسسة، باستدعاء التغييرات اللازمة في منظومة المفاهيم التي تتحكم بها.

في التجربة العراقية الحالية، وتحديداً بعد أحداث 9/4/2003، تغير أداء مؤسستي (الدين، السلطة) كثيراً، إلا أن المشكلة في تغير كلا الأدائين، أنه كان بمظهر رائع، وجوهر بشع. فمشاهدة مؤسسة السلطة من الخارج لا تكشف عن غير ثوب براق (ديمقراطي تمثيلي برلماني تعددي.. الخ) وما يعزز الاطمئنان أكثر أن أغلبية رجال هذه المؤسسة ترعرعوا في أحضان دينية بيضاء. غير إن الدخول في أروقتها (الخضراء) قد يدفع اليائسين منّا للترحم على أبشع أيام الدكتاتورية والاستبداد السابقة.
أما مع المؤسسة الدينية فالأمر مخيف أكثر، فهي أيضاً باعدت في المسافة الفاصلة بين مظهرها وجوهرها. وكان المغيظ في موضوع تغير أدائها، أنها ساهمت في تشويه الكثير من مفاهيم منظومة الوعي المجتمعي، خاصة المنظومة التي تحتكم لها الشريحة الواسعة من شرائح المجتمع، أو من يمكن تسميتهم بـ(الطبقة الفقيرة). الأمر الذي تسبب بتحول هذه الطبقة من مورد بشري تنموي، إلى آلة خطيرة في الهدم والتخريب. لنأخذ مثال بسيط على ذلك، ففي أول أيام هزيمة (صدام) هرعت شريحة من شرائح الشعب العراقي لتنهب موارد الدولة، وكان المنتظر من المؤسسة الدينية أنها تقف موقف حازم من هذا الموضوع، باعتبار أن خطورته تجاوزت أن تكون سرقة مكشوفة، بل تحولت لتخريب مدمر للدولة وبكل مفاصلها. غير أن فصيل من فصائل هذه المؤسسة، اشترك بعملية النهب، وهكذا ومن هذه النقطة بدأ مسلسل التغير في علاقة هذه المؤسسة بالمجتمع، لأن هذه الممارسة جعلتها بحاجة لتغيير المفهوم المتعلق بفعل (النهب). فدون تغيير مفهوم السرقة، أو مفهوم الدولة، لا يمكن أن تكون السرقة شرعية. وبما أن مفهوم الدولة في تلك الظروف الاستثنائية كان رخواً، فقد ناله التغيير قبل مفهوم السرقة. حيث تمت عمليات النهب تحت غطاء أن الأموال المنهوبة مجهولة المالك، ووفق النصوص الشرعية، فإن المال الذي لا يعرف مالكه، لا بد أن يعود للفقيه. وهكذا جُمعََت الأموال وأرسلت للفقيه، والذي كان ـ ولسوء حظ العراقيين ـ خارج العراق، الأمر الذي زاد من بشاعة (الوليمة).
المهم في هذه التجربة هو تشخيص الكيفية التي تمت خلالها عملية تغيير المفهوم، فمن الواضح أن للدولة شخصية معنوية، وأن هذه الشخصية المعنوية هي المالك للأموال العامة وهي المتصرف بها من خلال المؤسسات المختصة، على هذا الأساس فإن التغيير جاء عبر ضرب هذه الشخصية، نفيها من الوجود، من أجل أن تصبح الأموال بلا مالك. والخسارة الحقيقية لم تكن بالأموال التي تم ترحيلها لخارج العراق، بل بهدم هذه الشخصية التي هي المظلة الحقيقية التي يستظل بها مفهوم المواطنة، ويلم بمعونتها شعثه. المبرر الوحيد لتماسك (كسريات) الشعب العراقي هو الشخصية المعنوية لدولته الواحدة، التي يجب أن نعمل على تدعيم وجودها، وتخليصه من التلويث الذي ألحقه به نظام صدام.
بتحويل الدولة من معلوم لمجهول على مستوى المفهوم، تراجع السلوك المجتمعي على مستوى الولاء، خطوة إلى الوراء، صار من المعقول جداً أن يتحول الولاء للمذهب، أو القبيلة، أو العِرْق.

الدولة العراقية منذ 9/4 تحولت لوليمة بشعة، اجتمع على الأكل منها معظم العراقيين، وهذا الأمر بحد ذاته مؤلم، لكن يبقى اشتراك المؤسسة الدينية بمثل هذه الوليمة مثير للرعب. ولو أننا تتبعنا مسيرة التغيير (السلوكي/ المفهومي) الذي مارسته هذه المؤسسة بمختلف فصائلها، لوجدنا أن تغيير مفهوم الدولة في سياق نهب أموالها أهون عمليات (التغيير (هبوطا) التي مارستها هذه المؤسسة. فمهما كان حَصْد الأموال بشعاً، فإنه بأي حال لا يمكن له أن يرقى لبشاعة حَصْد الأرواح. وإذا كان مثل هذا الحَصْد بشعاً ومنافياً للخلق الإنساني والتعاليم الدينية، فكيف تأتى للمؤسسة الدينية أن تمارسه؟

التغيير هنا أيضاً بدأ بالسلوك ثم تبعه بالمفهوم. فقد تغلغلت لداخل العراق وعبر حدوده المكشوفة، مجموعات من القتلة بأجندة مختلفة، وكان أن تناغم التفخيخ والتفجير الذي جاءت به هذه المجاميع ـ والموجه للمكون الأكبر من مكونات الشعب ـ مع مشاعر التمييز الطائفي الذي يغرق به فصيل آخر من فصائل المؤسسة الدينية العراقية، وهكذا راحت هذه المؤسسة تعمل على (تعويم) مفهوم (الحد الشرعي) الذي هو آلية تنفيذ العقوبات الشرعية الإسلامية والتي تستخدم لردع المفسدين المشخص إفسادهم بصورة أصولية.
إن عملية (تعويم/ تغيير) هذا المفهوم لم تأت عن طريق السكوت عن عمليات التفجير والذبح فقط، ولا بخلط مفهوم (مقاومة المحتل) بمفهوم (الإفساد في الأرض)، حيث دخل لدائرة الشرعية التي رسمتها بخلطها لهذين المفهومين، كل عصابات القتل والسرقة والاختطاف، وجميع المجاميع التي تعمل لحساب أجهزت مخابرات دول الجوار، وكل مجاميع حزب البعث المفجوع بالهزيمة... الخ. إن التغيير الحقيقي جاء أكثر ما جاء، عن طريق شرعنة عمليات قتل المخالف (المختلف) تحت ذريعة مقاومة المحتل.
الوعي المجتمعي وعي تابع دائماً، فهو لا يرسم حدود المفاهيم التي يستند إليها بسلوكه، بل يترك ذلك لمؤسسات المجتمع التي يتبعها بالولاء، ومن هنا فإن الذي يجب أن يتحمل الحظ الأوفر من عقوبات الجرائم التي يرتكبها المجتمع المخدوع، هو المؤسسات الخادعة، خاصَّة تلك التي تُمَيِّع الحدود بين المفاهيم المتعارضة.
المخالف هو (المختلف داخل دائرة الإسلام)، والمحتل هو في معظم الأحيان (الكافر الحربي) ومع أن الحدود التي تفصل (الكافر الحربي) عن (الكافر الذمي) بدرجة من الوضوح تكفي لحقن دم الثاني، إلا أن خلط الأوراق الذي قامت به المؤسسة الدينية ميع الحدود حتى بين (الكافر الحربي) وبين (المخالف)، الأمر الذي دفع الجماعات المسلحة لتطبيق (حد) الحربي على المختلف. فقتل المختلف حتى دون التثبت من حقيقة كونه مختلفاً.

بما أننا كمجتمع نعمل دائماً تحت شعرا (ما فات مات) فلست بصدد محاكمة المؤسسات الإسلامية المختلفة على ما فعلته بنا لحد الآن، بل فقط أريد أن أشير لآثار التخريب التي تتركها أخطاءها التي تتقاعس عن تصحيحها حتى الآن. فالدولة ما تزال (مجهول) وأموالها على هذا الأساس بلا مالك، لذلك تحولت الوزارات ليس فقط منبعاً لتمويل الأحزاب (الدينية) ولا لضخ الأموال لجيوب العصابات التابعة للوزير، بل أيضاً مورداً دسماً لتنفيذ الأجندت التخريبية لدول الجوار، ما يعني أننا لا نكلف المخربين حتى ثمن تخريبهم لدولتنا؟
(المقاوم) ما يزال يفجر (المخالف) بذريعة (قتل المحتل)، والمشكلة أن مفهوم المخالف الذي فتحت حدوده المؤسسة الدينة ترهل لدرجة أنه أصبح يشمل حتى (العراقية التي تلبس الحجاب الإسلامي ولا ترتدي العباءة العراقية)، ويشمل أيضاً (حامل جهاز الموبايل ذي النغمات غير الإسلامية) والشاب الذي (يسرح) شعره على طريقة الغرب الكافر، وصاحب المحل الذي يضع على دعاية محله صورة لطفلة (غير محتشمة) أي لا ترتدي الحجاب الإسلامي، حتى لو كانت هذه الطفلة دون سن السادسة، ووووو الخ.

لا شك بأن النقد الذي يوجه للمؤسسة الدينية يجب أن يكون حذراً جداً، نظراً لقدسيتها ومكانتها لدى الشعب، لكن من جهة أخرى، فإن السكوت عن كل هذه الأخطاء أيضاً خطر جداً. يجب أن نعمل على مراقبة جميع مؤسسات المجتمع، حرصاً على دعمها باتجاه الأداء الجيد، فهي بنهاية المطاف مؤسسات بشرية، تدار من قبل بشر معرضين للخطأ والسهو.