قرار إيداع مرتكب مجزرة كنائس الإسكندرية في مستشفى للأمراض النفسية أتى ليضع الأمور في نصابها، ليشكل انتصاراً للعدالة ولأقباط مصر ومسلميها ولقضية المواطنة، ورغم استهجان الجميع للتسرع في البداية، والتصريح - دون ترو وفحص - أن الجاني مختل عقلياً، إلا أن القرار الآن وبعد دراسة تاريخ الرجل العلاجي وحالته الراهنة جدير بالثقة من الجميع، خاصة من ينأون بأنفسهم عن الوقوع في حبائل نظرية المؤامرة الرائجة في بلادنا، وليس من المتصور أن يتعاطف أي جهاز من أجهزة الدولة مع مجرم متهم بأمر جلل كتهديد الوحدة الوطنية، فحتى من تسرعوا في البداية بإعلان اختلال قوى الرجل العقلية، الأغلب أنهم لم يفعلوا ذلك من قبيل التعاطف مع المجرم والجريمة، وإنما تصوراً منهم أن مثل هذه التصريحات ستؤدي إلى تهدئة الخواطر، وإلى إظهار أن مصر بخير ولا توجد فتنة طائفية ولا يحزنون، ومثل هذه التصريحات عادة أصيلة للبيروقراطية المصرية، تكتماً على المفاسد والمظالم، وتهرباً من المسئولية، علاوة على هاجس الحكام في النصف قرن الماضي، وهو الخشية من حدوث قلاقل بين الجماهير، يتخذ قادة الجهاز البيروقراطي هذا الموقف ليس فقط في الأمور التي تشوبها شبهة الفتنة الطائفية، لكن أيضاً في التعامل مثلاً مع الأوبئة، فقد اعتدنا منهم أن يطلقوا على الكوليرا اسم دلع هو quot;أمراض الصيفquot;، ليس بغرض تدليع الكوليرا وتدليلها، لكن لأننا اعتدنا حكاماً ومحكومين أن نتهرب من مواجهة الحقيقة، واحترفنا تسمية الأشياء بغير أسمائها، هناك دائماً في الحقائق ما يزعجنا ويعمي عيوننا، ولا بأس من إرخاء الستائر وحجب الأنوار، فالإظلام ممتع ومريح لنا جميعاً!!
بغض النظر عن الحالة الصحية لمجرم الإسكندرية، وعن مسار التحقيق الذي نثق أنه بين أياد مخلصة وشريفة، تحب العدالة وتحب مصر والمصريين كما نحن جميعاً، بغض النظر عن هذا الأمر وذاك أعتقد جازماً أن المجرم - الذي قتل وأصاب وروع الآمنين المصلين في الكنائس ndash; قد أودع في المكان المناسب له، وهو مستشفى للأمراض النفسية، من الواضح أن الأمر ليس أمر اختلال عقلي، فالمختل عقلياً يظهر اختلاله في جميع أنشطته الحياتية، أما المريض بالفصام النفسي فيبدو طبيعياً في جميع أنشطته اليومية، ويبقى اختلاله كامناً، ليظهر في موقف محدد دون غيره، بالطبع هو لا ينتقي تلك البؤرة التي يظهر فيها فصامه اعتباطياً، فلا شك أن هنالك عوامل بيئية وتحريضية هي التي دفعته في هذا الاتجاه دون غيره، وهو الأمر الذي نرجو أن تهتم به مراكز الأبحاث المتخصصة.
المهم أن السلطات قد تمكنت من اكتشاف المرض النفسي لهذا المجرم، واتخذت بشأنه الإجراءات المناسبة، وهذا يسعدنا أيما سعادة، ويشجعنا على طلب المزيد من الفحص النفسي للمئات والآلاف، من الذين يتخذون مواقف ويدلون بآراء لا يمكن أن تمت بصلة لعالم الأصحاء نفسياً، ورغم أن هؤلاء يهددون الوطن ووحدة شعبه بأكثر مما فعل مجرم الإسكندرية، إلا أن يد العدالة والأطباء النفسيين لم تطالهم بعد، ومازالوا في مواقعهم المتعددة والخطيرة، يمارسون أدوارهم المدمرة بنفسية فصامية مريضة!!
أذكر أيام حرب تحرير الكويت وسقوط شهداء من الجيش المصري، أن ذكرت الجريدة القومية العظمي عدد ضحايا الجيش المصري مقسماً على بندين: بند للشهداء وبند للقتلى، هناك من كتب الخبر بهذا الشكل، وهناك من راجعه، وهناك رئيس لتحرير تلك الصحيفة الكبرى، وهناك المئات والآلاف ممن قرءوا الخبر بهذا الشكل ولم يزعجهم، أليس هؤلاء طابوراً طويلاً ممن يحتاجون العرض على طبيب نفسي؟!!
آلاف الخطباء الذين يجأرون طوال اليوم بالتحريض على الكراهية والقتل، ويتخرج من تحت أيديهم أو حناجرهم الآلاف من أمثال مجرم الإسكندرية، ومعهم نجوم القنوات التليفزيونية القومية وغير القومية، والذين يوصلون وجبات الكراهية ساخنة للمنازل home delivery ، ومعهم المسئولين عن الإعلام باختلاف مستوياتهم، والذين على الأقل سمعوا معنا أخيراً على الهواء مباشرة من طالبوا بقتل البهائيين، ولم يتعرض أحد للتوقيف والتحقيق والإحالة إلى الفحص النفسي، سواء من المحرضين على القتل أو الذين ساعدوهم على بث أمراضهم النفسية على الهواء مباشرة، ألا تحتاج كل تلك الجيوش الجرارة إلى أكبر مصحة نفسية في العالم؟!!
طائفة الذين يقدمون أنفسهم، وتقدمهم قنوات التليفزيون على أنهم خبراء إستراتيجيين ومتخصصين في شئون الجماعات الإرهابية، والذين يطالعوننا بوجوههم السمحة كلما حدث عمل إرهابي، ويتبارون في التبرير للقتل والإرهاب، وإظهار القتلة بمظهر دعاة إصلاح وتحرير، ألا يحتاج هؤلاء إلى مصحة خاصة للأمراض النفسية، تضمهم جنباً إلى جنب مع السادة المذيعين والمذيعات الذين يقدمونهم إلينا؟!
المسئولون عن التعليم في بلادنا العزيزة، والحاصلون على أعلى الدرجات والشهادات في التربية والتعليم، ويسمحون بازدواجية التعليم في الوطن الواحد، بحيث يتولى أحد أنواع التعليم تخريج إرهابيين، ويتولى القسم الآخر تخريج مصفقين ومهللين للإرهاب، والسادة المسئولين يعلمون ذلك حق العلم، على الأقل بموجب شهاداتهم العلمية، ومع ذلك يستمر الحال على ما هو عليه إلى مالانهاية على ما يبدو، أليس في هذا دلائل واضحة على مرض نفسي بحاجة ماسة للعلاج؟!!
السؤال الذي يفرض نفسه: ما الذي يمنعنا من اتخاذ الإجراءات المناسبة حيال هؤلاء المرضى، ليأخذوا حقهم من العناية الطبية والنفسية، رحمة بهم ورحمة بالوطن المهدد باختلالهم النفسي؟!!
middot; لا أظن أن العلة أن أحداً لم يبلغ عنهم، فقد صدرت ضدهم بلاغات كثيرة ولا من مجيب!
middot; لا أظن أيضاً أن المشكلة في الإمكانيات المادية الهائلة اللازمة لعلاج كل هذه الأعداد الغفيرة، وهو العذر الذي نسوقه دائماً لنبرر فشلنا في معالجة جميع أزمات حياتنا، التي أصبحت كتلة واحدة من الأزمات، فالحالة الخطيرة التي وصلنا إليها تتيح لنا الاستعانة بمنظمة الصحة العالمية، فهي القادرة مادياً وطبياً على مساعدنا في مكافحة وباء الفصام وسائر أنواع المرض النفسي!!
middot; قد يكون عذراً منطقياً ومقبولاً أن يكون تأخير اتخاذ إجراءات العلاج مرجعه إلى أننا بعد في مرحلة التساؤل: من يعالج من؟!!
middot; من المنطقي أيضاً أن يكون سبب التأخير هو أننا قد اعتمدنا في العلاج النفسي ذات المنهج الذي اخترناه للإصلاح السياسي والاقتصادي، وهو منهج الخطوة خطوة، الذي ابتدعه خالد الذكر هنري كيسنجر لحل مشكلة الشرق الأوسط، وفي التأني السلامة، وفي العجلة الندامة!!
في جميع الأحوال ليس أمامنا إلا أن نعتبر وضع مجرم الإسكندرية في المكان الوحيد المناسب له وهو مستشفى الأمراض النفسية، خطوة مبشرة على طريق الألف ميل، أو المليون ميل، فإلى الأمام يا مصر الخالدة، وهانت كلها فركة كعب ونبقى ميت فل وعشرة!!

[email protected]