خيارات الزوابع والتوابع (2/4)
وصف التجربة الشعورية
كان عبد الحليم حافظ يردد صائحا ؛ يا أهلا بالمعارك، ويا بخت من يشارك. حتى أن المواطن المصري البسيط لم يتردد من القول (( ومين حايشك ياخوية)) وهو المعروف عنه مريضا وعليلا. فيما كان الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد يتغزل بالقنى والسيف وهو الفارس الصنديد والمغوار، وما أشد المفارقة بين النموذجين، العليل الذي قدمته ماكنة الإعلام العربي الحديث، والشديد الصلب الذي قدمته مؤسسة الشعر العربي الجاهلي. ومن تلفزيون الواقع الذي راحت الفضائيات العربية تتسابق في تقديمه، يأتي نموذج الرابح الأكبر، معبرا عن كم التبرير، الذي باتت الذات العربية تعيشه، فقواعد اللعبة تقوم على اختيار خاسر، من قبل الفريق، وفي تكرار مسف وممل ينبري المشاركون في تبرير اختيار الخارج عن اللعبة، فيما عيون المشاركين الخارجين تنذر بالتوعد والغضب، هذا على صعيد لعبة تلفزيونية!
في تعليق ملؤه النباهة يشير الصحفي إبراهيم عيسى، إلى أن الفرق المشاركة في مونديال ألمانيا، والتي صعدت إلى الدور الثاني جميعها ديمقراطية! فيما يتساءل د. إبراهيم السعيد عن ردة الفعل العربي، فيما لو كان العرب ضحية ضربة ذرية(( لا سامح الله )) كالتي منيت بها اليابان، ليجيب لكان الرد عبر مليون قصيدة هجاء بالإمبريالية!
القدرة على التغيير
ها هي ذي الطائفية تزحف في المجال العراقي، بعد أن تم تذويبها على يد المؤسسة الإدارية وتقاليدها التي تأصلت وتعمقت، فيما غدت العروبة مدارا للعن والسباب والقذع، وتهمة تستدعي أغلظ الأيمان للإفلات من عواقبها المميتة، فقد تم تحميلها وزر من تاجر بها!وصارت الوطنية مدار تندر، فيما تسيدت المشهد مفاهيم الحوسمة واللصوصية وقطع الطريق، وبات الأمين والشريف والعفيف والمحافظ على أملاك الوطن، مدارا للهزء والسخرية، بوصفه نموذجا مثاليا غير واقعي. وتصدرت المشهد قيم التحزب والمنافع الآنية، وثقافة أنا ومن بعدي الطوفان.
وكيف يمكن أن يتساوق الحديث عن اللامركزية في ظل تسيد ثقافة الإقليم أو الحديث عن الفيدرالية في ظل غلبة الثقافة القبلية وتفرعاتها الطائفية. وكيف يمكن الحديث عن الشفافية في راهن يعتصره تسيد إرادة الميليشيات والقوى المسلحة، الملثم منها والمكشوف!
أزمة الزعامة
وقف الموظف الإداري متبرما، بعد أن تم اختيار أحد موظقيه رئيسا عليه، لينادي (( صار عمي وكان غلامي))، فيما بقيت دلالة الزعامة والرئاسة قيمة فاعلة في الذات العراقية، حتى أن الشاعر علي الشرقي لم يتوان من نعي حالة انتشار الزعامة التي تعن على العقول والأفئدة ليقول ؛ قومي رؤوس كلهم أرأيت مزرعة البصل؟!وبالفعل في مزرعة البصل الكبيرة هذه كيف يمكن البحث عن توافق أو استرضاء أو تصالحات؟ وبالقدر الذي يترى الحديث عن الوحدة والانسجام ومواجهة التحديات الجسام التي تواجه الوطن والبلاد والعباد، فإن النخر الموجع مازال يتسلل في صلب الواقع العراقي، هذا الذي راح مواطنه يعيش لحظة حياته على مواجهة الموت الزاحف إليه من كل الجهات، من دون أن يجد معنى لأي شيء!
أين يمكن تحديد المعيق الذي يتجسد حاضرا في تلويث مسار العلاقة الحاكمة للمجتمع العراقي الراهن؟ أيكمن في الديمقراطية؟ الانتخابات؟ الوفاقية ؟ الاسترضائية؟ المصالحة؟ ولماذا تتصاعد حالة الحذر والتشكيك وتعزيز مجال التصنيف الطائفي، والمحاولات المتطلعة نحو تكريسه كأصل لا يمكن التغاضي عنه؟إن مطالعة سريعة للمقالات والأدبيات التي تتعرض للشأن العراقي، بات يفصح عن تغاض وتجاوز لاستخدام مصطلح المثلثات، هذا الأخير الذي تمت تعبئته في الوسط العراقي بكثافة ملفتة، في أعقاب السقوط، فيما صار المصطلح الجديد يتحدث عن الجيوب، وكأن الأمر يقوم على ذواء أو نهاية لعنصر ما بإزاء تضخم لمكون اجتماعي آخر نال قسطه من الحضور والأهمية!
حسنا أن تكون مهما، ولكن كيف لك أن تشعر بأهميتك، هل هي الأهمية النابعة من الحقائق التي يفرزها الواقع الموضوعي، أم الأهمية المفترضة والمصنعة، التي تقوم على تصنيع المزيد من الأزمات، من أجل ترسيم سمات ومعالم لاعلاقة لها بالواقع، لتختلط العلاقات ويغيب الإدراك! جيء بالديمقراطية هذا النظام الذي أثبتت الوقائع أهميته التطبيقية في الممارسة السياسية الغربية، حتى كنا نتحسر ونحن نطالع الرؤساء وهم يسلمون المسؤوليات لبعضهم البعض في طقس احتفالي، حتى انطبعت في أذهاننا نحن العراقيين صورة الرئيس ميتران وهو يسلم جاك شيراك مفاتيح الأليزيه. من دون دبابات ولا عساكر. في الوقت الذي تم لقاء العراقيين بالمقرطة من خلال أسراب من الدبابات.
وفي خضم المقرطة الهجينة سلخ العراقيون جزءا من تجربتهم المريرة وهم يناقشون على شاشات الفضائيات، مسألة التحرير أم الاحتلال؟ في الوقت الذي تعرضت المؤسسات جميعا إلى التخريب باستثناء مباني وزارة النفط! وفي لحظات انشغال الناس بالبحث عن التعويض المباشر لسنوات الحرمان والحصار والجوع المنظم والإذلال المقصود للشخصية العراقية، برزت حالات التكفير الممنهجة تلك التي أسفرت عنها بروز ظاهرة الزرقاوي الذي لم يتوان من تركيز خطاب الانقسام، حتى كان الخلط بين المقاومة والإرهاب، أو الحرص على تعزيز مسار الفصل الطائفي وتسويقه في عمليات طالت الناس جميعا، في مجازر لاتحصى. وفي الوقت الذي كان الناس ذاتهم يتحدثون عن كأس العالم وما ستسفر المباراة الافتتاحية من نتائج، تم قتل الزرقاوي في غارة جوية، ليأت بعدها الرئيس جورج بوش الإبن زائرا بغداد، وليلتقي بنوري المالكي رئيس الحكومة العراقية، هذا الأخير الذي عمد إلى إطلاق دعوة المصالحة الوطنية.
تكتلات وتحزبات
لم يعد العراقي اليوم يعرف هويته الوطنية جيدا، لا سيما وأن فوضى الأسئلة باتت تحاصره وبطريقة محكمة؟ وكيف يمكن أن تستقيم العبارة بين الفوضى والمُحكَمة؟! أسئلة الفوضى المٌحكَمة، كأنه عنوان لمسرحية تعود ليوجين أونسكو. ترى من هو المسؤول عن تكريس حالة السؤال الانقسامي هذا. أهو الواقع المضطرب الذي حل بالعراقيين حتى بات من الأساس والثابت أن يتحصن المرء بالسؤال من أجل معرفة الصديق أم العدو؟أم أن جهات بعينها تسعى نحو تكريس مثل هذه العلاقة. ومن هذه الجهات وماهي مصلحتها؟وإذا كان النظام الشمولي قد عمد نحو ترسيم صورة واحدة من أجل هضمها والسير على نهجها في التفسير والتبرير، فإن الواقع الراهن بات يفصح عن تعدد مسارات وتنوع حافل، لا ينجم عنه سوى المزيد من الاختلاط والتداخل لمجمل القوى، القادرة على مبادرة التصفية، بمعنى أن من يحاول إمساك العصا من الوسط لا بد أن يجر عليه غضب الجميع، ويكون هدفا لملاحقة جميع القوى المسلحة. أما الحديث عن تفضيلات لطرف على حساب آخر فأنه مرهون بالفصل المباشر، هذا الذي ما انفك قائم وبقوة في المجال العراقي، حتى يتماهى الواقع العراقي بما قاله المتنبي؛ وسوى الروم خلف ظهرك روم فإلى أي جنبيك تميل؟ وهاهو العراقي اليوم حائر لا يدري إلى أي جنب يميل؟ بعد أن أعيته التفسيرات والتبريرات والموجهات والشعارات. وتهديدات الأحزمة الناسفة والعبوات المفخخة وقطع الرقاب والاختطاف.
اختلالات وتداخلات
يعترض الكثير على مسألة الأغلبية، فهي ما انفكت تثير المزيد من الأسئلة حول تحديد مجال النسب الطائفية في العراق. ومن واقع رفض البعض من الأطراف العراقية المشاركة في الانتخابات، فإن النتائج جاءت لصالح طرفا بعينه! حتى كان البرلمان العراقي وقد اتخذ شكلا معينا يتناسب وطموحات ورغبات الحكومة الجديدة التي راحت تمهد نحو تشكيل الحكومة الجديدة، وحصر الإرادة السياسية لديها، انطلاقا من شرعية الأغلبية التي تهيأت لها. بين التبرم والرفض وتداخلات المواقف السياسية، لم تجد الحكومة الجديدة بدا من إطلاق مبادرتها في المصالحة، وبمظلة عربية تمثلت في جامعة الدول العربية، حتى كن مؤتمر القاهرة والذي لم يثمر عنه سوى لقاء الأطراف من دون الوصول إلى نتائج مباشرة، كان من الممكن أن تعود بالنتائج الواقعية على الوضع العراقي، الذي بقي يعاني من التشظي والانقسام، بل أن الحديث عن الحرب الأهلية غير المعلنة، بات يتصدر المشهد. لا سيما وأن التكتلات والتحزبات صارت تمثل الأصل في توجيه مسارات السياسة العراقية، تلك التي تغيب عنها الملامح، في ظل لوثة الاحتراب والقتل العلني المتبادل.
التعليقات