لم نعرف الإسلام كأيديولوجيا، إلا مع اندلاع الانتفاضة الأولى. قبل ذلك التاريخ، كان الإسلام الفلسطيني، كما يمكن القول، أقرب إلى العقيدة الصافية، أي مجموعة أفكار تندرج في إطار معيّن، وتُترجم إلى سلوكيات يومية، قريبة من الأصول، ولا حاجة لمعتنقها، سوى بالإيمان بها، والاكتفاء بهذا الإيمان، كعلاقة ناظمة بين المرء وربه. أي كان الإسلام الفلسطيني العام، بعيداً عن التسييس، وحمأة الاشتباك مع تعقيدات الواقع. وما إن بدأت الانتفاضة الأولى الكبرى، حتى خرجت قوى الإسلام السياسي، الجهاد وحماس، من حالتها الجنينية، خصوصاً في قطاع غزة، لتدخل المشهد السياسي، وذلك عبرَ تشكيل عدة أجنحة عسكرية صغيرة في البداية، استقرت بعد ذلك، في جناحين كبيرين هما quot; سرايا القدس quot; بالنسبة للجهاد، و quot; عز الدين القسام quot; بالنسبة لحماس. وممارستهما للعمل الجهادي المسلح. منذ ذلك الوقت، وإلى هذه اللحظة، واصلت قوى الإسلام السياسي في بلادنا، نهوضها وصعودها وهيمنتها، أخيراً، على الشارع الفلسطيني في الضفة والقطاع، وبالأخص في الأخير، لأسباب ليس هنا مجال بحثها. لنصل إلى ما نحن فيه الآن، مما يعرفه القاصي والداني. فالآن، ثمة حماس في السلطة، بعد سنوات من وجودها في المعارضة. فكيف تتصرّف هذه الحركة سياسياً، وكيف تتعاطى مع التحولات والمتغيرات الدولية العاصفة من حولها وحولنا ؟ الأشهر الخمسة الأخيرة، وهي عمر حماس في السلطة، تحيلنا على عدة مقاربات واجتهادات وزوايا نظر. لكن، أظنّ، أننا ومهما تعددت وجهات نظرنا، سنصل في التقييم العام، إلى ما يشبه الاتفاق، على أن حماس، فشلت، لأسباب موضوعية وذاتية، في عبور امتحان وجودها على رأس الحكومة. وهذا الفشل يتبدّى، أوضح ما يتبدّى، في تعاطيها مع كثير من الأزمات العاصفة، وفن إدارتها لهذه الأزمات. من أزمة الحصار الكلّي غير المسبوق، وما ترتب عليه من عدم صرف الرواتب، وبالتالي تلاشي الحياة الطبيعية رويداً رويداً على غير صعيد، مروراً بأزمة تشكيل حكومة وحدة وطنية، ووصولاً إلى ما نحن فيه الآن، من تكالب معظم قوى العالم الفاعلة علينا، وعلى مشروعنا الوطني، الذي يكاد _ لولا إصرارنا على التمسك بحقوقنا، وصمودنا مهما يكن الثمن _ ينهار من أساسه. لن نتكلّم عن الأسباب الموضوعية لفشل حماس. فهذه الأسباب، وبهذه الكيفية والكمية الظالمة، ستطيح بأية قوة فلسطينية، تكون في مكان حماس، سواء كانت quot;فتحquot; أو غيرها من القوى. بل سنركز حديثنا على الأسباب الذاتية، التي تفاقم من فشل حماس، وتسرّع من احتمال انهيارها الكبير، إن لم يكن قريباً جداً، ففي المستقبل المنظور.
إنها ذات الأسباب، التي تقف وراء انهيار كل أيديولوجيا في التاريخ. فالأيديولوجيا، بما هي رؤية للعالم، حين تطمح لفرض تصوراتها، عبر السلطة، وحين تشتبك مع ملايين التفصيلات الصغيرة والكبيرة للواقع اليومي - ستكتشف، على الأغلب، أن رؤيتها للعالم، شيء، والعالم بحد ذاته، شيء آخر. هي ثابتة، وهو متحرّك. هي استاتيكية، وهو دينامي. هي خلاصية وهو ذرائعي براغماتي. هي مساطر، وهو أبعد شيء عن المساطر.. وهلمّ جرّا. يتساوى في ذلك، إن كانت الأيديولوجيا، وضعية من صنع البشر، أو سماوية من صنع الآلهة. حماس، وتلك مشكلتها الكبرى، دخلت إلى مقاعد السلطة، لكن بعقلية الحركة وبعقلية المعارضة. إنها إلى الآن لم تبرح هذه العقلية، وهذا هو مأزقها الأكبر. إذ من المستحيل، التوفيق بين المسألتيْن. لذلك، نراها تتخبط - وهذا يعود في القسم الأكبر منه، إلى حداثتها في العمل السياسي، وقلة خبرتها بالنتيجة. نراها تتخبط، وتضرب أحياناً ضربَ عشواء، بما ينعكس وبالاً عليها كحركة حاكمة، ووبالاً أشد علينا كمواطنين محكومين. لنأخذ إشكالية أسر الجندي الإسرائيلي، مثالاً لا حصراً، وما ترتب على هذا الأسر، من تداعيات خطيرة وربما فارقة في المستقبل: فارقة بالمعنى المفصلي للكلمة، والذي نخشى أن نغوص في وحوله قريباً. حماس الجالسة على مقاعد السلطة، لا تريد أن تفهم، بالسرعة الكافية، أنها إما أن تكون في السلطة وإما أن quot; تقاوم quot;. فالعالم كله تقريباً، حتى العربي الرسمي منه، لم يعد يستسيغ أن تمسك السلطة بيد، وquot; تقاوم بالعمل المسلح quot; باليد الثانية. إن هذا لخط أحمر، لا يغفره لك أحدٌ اليوم. حماس لا تريد استيعاب هذه الحقيقة. بل إنها تتلكّأ وتتباطىء، وهذا ناتج، بل هو إفراز من إفرازات إشكالية أن تأخذ السلطة، ثم تتصرّف وأنت فوق كراسيها، بعقلية المعارضة. إنه نوع فادح من تجاوز كل بديهيات العمل السياسي. ثمة مسألة أخرى خطيرة أيضاً، وهي تخصّ مرجعيات حماس في فعلها السياسي. فحماس، وكما هو معروف نظرياً عنها، لا تعوّل على البعد الوطني للقضية الفلسطينية، بل تعوّل على بعدها الإسلامي. إي إن مرجعياتها الأساسية، تكمن هناك، في المُطلق السماوي، وفي دول الجوار _ مصر، حيث رأس حركة الإخوان المسلمين الدولية. وسوريا وإيران، حيث التحالف السياسي معهما. لذا، يتضح البعد الإقليمي لعملية كرم أبو سالم، أكثر من أي بُعد آخر. بمعنى أن سوريا وإيران quot; تستخدمان quot; حماس، كحركة وكحكومة، للوصول إلى أهداف تخصّ الدولتيْن، ولا ناقة ولا جمل لنا فيها نحن الفلسطينيين. لقد خسرنا تعاطف وتعضيد معظم قوى العالم لنا، بمثل هذه التصرفات من جانب حماس. والحق أنني لا أعرف إلى أين سنصل بمثل هذه العقلية الفئوية الضيقة. فالتعويل على الوهم، هو من قبيل الانتحار سياسياً ووطنياً. والبعد العربي والإسلامي لقضيتنا، هو بعد ضعيف بل هامشي، قياساً إلى الأبعاد الأخرى الفاعلة. لذا من الجنون بل من الانتحار، التعويل عليه فقط، بما يشبه دفن الرأس في الرمل، ثم الصراخ، كلما نزلت نازلة، أين أنتم يا عرب وأين أنتم يا مسلمين! لقد صرخنا هذا الصراخ ذاته، منذ ستة عقود زمنية على الأقل. فماذا كانت النتيجة ؟ لم نسمع ولا حتى الرجع البعيد لصرختنا الهبائية! حماس، وبدل أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، تبدأ وتصر على أن تبدأ من حيث بدأوا. لكأننا في زمن الشقيري لا في العام 2006! بل حتى المرحوم الشقيري، كان أذكى من أن يقع في أمثال هذه الضروب من الأوهام القاتلة! إنّ على حماس، أن تعيد الاعتبار، للبعد الوطني لقضيتنا، كبعد جوهري ومركزي وأساسي. فهذا هو شبكة أماننا الوحيدة، وتحت هذه الخيمة نتوّحد جميعنا. بل هذا هو خلاصنا، إن كان لا بد من استخدام كلمة الخلاص. وعلى هذا البُعد، تجري جميع حساباتنا وتحالفاتنا مع العالم والإقليم. لكي لا يقال يوماً، بأن الإسلام كان من أسباب ضياع فلسطين. عفواً: لئلا يقال بأن الأيديولوجيا الإسلامية، كانت ضد فلسطين. فالإسلام الذي عرفناه عند آبائنا وأجدادنا، شيء، وهذه الأيديولوجيا التي تصدر عنها حماس، شيء ثان، مختلف بالمرّة.