-1-
العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة الغربية وعلى حماس على وجه الخصوص وحشي وأليم ومُدان. وتدمير الجسور في غزة ونسف محطات الكهرباء والماء والبُنية التحتية عدوان مشين. واعتقال وزراء ونواب من حركة حماس عمل ضد الشرعية الدولية. كل هذا الكلام معروف ومرفوض منذ عام 1948، وحتى اليوم. والعرب والفلسطينيون يعترفون، بأن اسرائيل ذات يد طولى، وأن جيشها أصبح قادراً في غفلة من العرب، وفي غفلة من الفلسطينيين، ليس على كسر عظم الفلسطينيين فقط، ولكنه قادر أيضاً على كسر عظم العرب أجمعين. ولكن لا الفلسطينيين يعترفون بذلك ويعتبرون، ولا العرب بغلوائهم يقيمون لهذا التفوق العسكري الإسرائيلي الضاري حساباً كبيراً.

-2-
الفلسطينيون الآن بزعمائهم وكتّابهم ومثقيفهم يستنجدون بالعالم ويستنجدون بالعرب. ويخرجون على الفضائيات يلومون الضمير العالمي والرأي العام العالمي والضمير العربي والرأي العام العربي والأنظمة العربية على عدم فزعتها ونجدتها للفلسطينيين. والغريب أن الفلسطينبين لا يفطنون للرأي العام العالمي وللشرعية الدولية وللرأي العام العربي ولأنظمة الحكم العربية إلا عندما يُعتدى عليهم من قبل اسرائيل، وبعد أن يصل السيل الزبى وتتقطع الطرق والوسائل بينهم وبين اسرائيل.
فالفلسطينيون يصرّون على أنهم أصحاب القرار الأول والأخير فيما يتعلق باقامة دولتهم. فهم يرفضون التدخل الأمريكي والأوروبي والعربي في كيفية اقامة هذه الدولة والوسائل المتبعة لتخطيط هذه الدولة. فياسر عرفات عندما وقع اتفاقية اوسلو في 1993، لم يستشر أحداً من زعماء العالم ولا من الزعماء العرب. وقال بأن اتفاقية اوسلو خيار فلسطيني وحيد وخاص. وهو عندما ذهب إلى واشنطن عام 1999 وعقد مؤتمر كامب ديفيد، الذي كان من المفترض أن يخلص إلى اتفاقية كامب ديفيد الثانية، وتمَّ رفض هذه الاتفاقية من قبل عرفات ومن قبل كافة الفصائل الفلسطينية، لم تتم استشارة أحد في هذا الرفض من الحكام العرب، ولم يقبل الفلسطينيون أن تكون اية دولة عربية شريكة في اتخاذ مثل هذا القرار الفلسطيني المصيري.

-3-
والفلسطينيون في كل مراحل كفاحهم الوطني، وفي كل منعرجات وتشابكات القضية الفلسطينية، لم يشركوا العرب حكاماً ونخباً في القرار الفلسطيني. واستأسدوا، وتنمّروا، وقالوا إن الخيار الفلسطيني خيار وطني فلسطيني صرف، لا دخل لأحد من غير الفلسطينيين فيه. وهذا قرار وطني ملزم للجميع، وللفلسطينيين الحق كل الحق فيه. ولكن على الفلسطينيين في الوقت ذاته، وبناءً على ذلك، ألا يطلبوا النجدة من العالم العربي ، نتيجة ذبحهم بالسكين الإسرائيلية، على قرارات هم يتخذونها، وعليهم أن يتحملوا مسؤوليتها في النهاية.
فالعالم ، والعالم العربي غير مسؤول عن صبي أهوج يحمل رشاشاً ويقتل مدنياً من الجانب الآخر.
والعالم، والعالم العربي غير مسؤول عن اصرار بعض الفصائل الفلسطينية على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بقوة السلاح الفلسطيني الضعيف والبدائي.
ولقد انتخب الفلسطينيون الجياع حركة حماس، علّهم يشبعون، وهم يعلمون علم اليقين بأن كفَّ حماس المجردة سوف تلاطم المخرز الإسرائيلي الحاد والقاتل. وأنه ليس بمقدور حماس أن تحرر فلسطين، أو ما تبقى من فلسطين من خلال ذلك.
والفلسطينيون انتخبوا حماس، وهم يعلمون علم اليقين بأن خطاب حماس السياسي مرفوض من قبل العالم كله، ومرفوض من قبل الأنظمة العربية التي يستنجدون بها الآن كذلك. وحماس الحاكمة الآن، هي التي رفضت مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002 ، وظلت ترفضها حتى الآن، رغم مطالبة السعودية ومصر في قمة شرم الشيخ الأخيرة (يونيو 2006) بضرورة قبول حماس لهذه المبادرة، حتى تستطيع الدول العربية مساعدة حماس ومساعدة الفلسطينيين للتقدم إلى الأمام. ورغم هذا يطلب الفلسطينيون من العرب أن ينجدوهم، بعد أن أسقطوا هم أنفسهم بأنفسهم في بئر مهجورة ومظلمة، وفي حُفر مليئة بالألغام والمخاطر.

-4-
والفلسطينيون يصرون الآن على حمل السلاح والمقاومة المسلحة رغم (وثيقة الوفاق الوطني) السلمية والواقعية التي تنص لأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية على المقاومة السلمية ولا تذكر كلمة quot;مسلحةquot; في كافة بنودها الثمانية عشر. والعرب قد وافقوا على هذه الوثيقة، قبل أن يوافق عليها الفلسطينيون. بل إن العرب في الماضي، قد قبلوا ضمناً بكل قرارات الأمم المتحدة السابقة، بدءاً من قرار التقسيم 181 عام 1947 وحتى الآن. ولكن العرب كانوا قد أعلنوا رفضهم لهذه القرارات علانية في أوقاتها، خوفاً من بطش الفلسطينيين، الذين كانوا فيما مضى يقتلون ويغتالون كل حاكم عربي يجاهر بالحل السلمي ويرضى بالتقسيم، كما فعلوا مع الملك الراحل عبد الله بن الحسين عام 1951 الذي اغتالوه على باب المسجد الأقصى وهو داخل لأداء صلاة الجمعة، وكما فعلوا بعد ذلك مع رئيس وزراء الأردن وصفي التل الذي اغتيل في القاهرة عام 1971، وكما ضربوا من قبل الحبيب بورقيبة في أريحا والقدس بالطماطم والبيض الفاسد عام 1965 ، على إثر خطابه الشهير ذاك، وكادوا أن يغتالوه ، عندما طالبهم الموافقة على قرارات الأمم المتحدة، وقال لهم: quot;خذوا وطالبواquot;. فلا هم أخذوا، ولا هم طالبوا.

-5-
ومن هنا نرى، أن الفلسطينيين وقياداتهم في اليمين واليسار والوسط كانت في جانب، وكانت قيادات العرب في جانب آخر. ولم يكن هناك قرار عربي موحد بشأن القضية الفلسطينية، في حين كانت هناك مبادرات عربية بلغت أكثر من أربع عشرة مبادرة سلمية، كانت أبرزها مبادرة مؤتمر قمة فاس 1982 ومبادرة مؤتمر قمة بيروت 2002 وغيرها من المبادرات. ولكن الفلسطينيين كانوا يرفضون كل هذه المبادرات، وكذلك كانت اسرائيل ترفضها. ولم يكن الفلسطينيون أذكياء وحذقين سياسياً بما فيه الكفاية، ويقبلوا بهذه المبادرات، لاحراج اسرائيل أمام العالم كله. بل كان الفلسطينيون يركبون رؤوسهم، ويديرون القضية الفلسطينية بالطريقة التي تعجبهم وتحقق مصالح فصائلهم. وهذا حلال زلال عليهم. ولا أحد يجادلهم فيما يقررون، فهذا وطنهم، وهذه أرضهم. ولكن عليهم في الوقت نفسه أن يتحملوا نتائج قراراتهم. فليس من الانصاف أن يأكل الفلسطينيون الحصرم ويجعلوا العرب الباقين يضرسون. وليس من الانصاف والعدل السياسي، أن يُشرِّقَ الفلسطينيون ويُغرِّبوا كما يحلو لهم، وكما تفرض عليهم زعمات فصائلهم ومصالحها، وفي نهاية المطاف يأتون إلى العرب، ويقولون لهم: نحن في عرضكم، حلّونا!

فالعرب الآن لم تعد تنطلي عليهم مثل هذه الحركات السياسية. والدليل، ذلك البرود السياسي الذي أبدته وتبديه الأنظمة والمنظمات العربية تجاه النوازل والكوارث السياسية الفلسطينية حيناً، كحصار ياسر عرفات الطويـل في رام الله ، وتجاه القرارات الفلسطينية الأخرى كنجاح حماس في الانتخابات، وامتناع معظم الزعماء العرب عن استقبال وزير خارجية حماس محمود الزهار، وكذلك الحال مع خالد المشعل، فيما فُسّر هذا بأنه ضغوط أمريكية وإسرائيلية على بعض الحكام العرب، ولكن هذه المواقف في الواقع الأمر كانت تنمُّ عن زهق وطفش الأنظمة العربية من القضية الفلسطينية وتعقيداتها، وعدم سماع الفلسطينيين للنصائح العربية المتعددة والمختلفة، وعدم استجابة الفلسطينيين لمقررات القمم العربية المختلفة، وآخرها النداء الذي وجهته قمة مبارك ndash; عبدالله بن عبد العزيز في شرم الشيـخ ( يونيو 2006) من وجوب اعتراف حماس وقبولها بمبادرة قمة بيروت 2002. ولكن حماس وهي الحكومة الفلسطينية المسؤولة، طنّشت وأهملت هذا النداء، وكأن الأمر لا يعنيها.
فكيف تريدون أيها الفلسطينيون الآن أن تنجدكم الأنظمة العربية، وانتم لا تستمعون لنصائحها، ولا تنفذون قرارتها؟

-6-
معظم الكتاب الفلسطينيين من اليمين واليسار، يصوّرون الأمر دائماً للمواطن الفلسطيني على نحو، أن إفعلوا أيها الفلسطينيون ما شاء لكم الفعل، وقاوموا ما شاءت لكم المقاومة، واقتلوا واخطفوا ما شاء لكم القتل والخطف، وولّوا أمركم للحالمين المنفلتين والسارقين والمفسدين والناهبين، وفي النهاية على الدول العربية والأنظمة العربية أن تتحمل مسؤولية أفعالكم وآثامكم. وهؤلاء الكتاب يقفون إلى جانب المقاومة المسلحة، التي لم تعد تجدي فتيلاً في ظل عدم توازن القوى بين اسرائيل والفلسطينيين، وفي ظل عدم وجود قوى عظمى أو اقليمية أو عربية، تساند المقاومة الفلسطينية سياسياً ومالياً وتمدهم بالسلاح، كما كان عليه الحال في المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وكما كان عليه الحال في المقاومة الفيتنامية ضد الاحتلال الفرنسي والأمريكي. فالمقاومة عمل مقدس وشريف ومحمود. ولا أحد يستطيع أن ينكره كسبيل للتخلّص من الاحتلال. ولكن المقاومة تتطلب عدة عوامل جغرافية وسياسية ومالية داخلية وخارجية لانجاحها. وليس كل من حمل السلاح في فلسطين، أو في العراق، أو في أفغانستان، عُدَّ مقاوماً. ومن هنا، فشلت المقاومة الفلسطينية، وفشلت المقاومة الأفغانية، وما يُطلق عليه بالمقاومة العراقية في طريقه إلى الفشل التام، بعدما تلوثت أيدي هذه المقاومة بدماء الشعب العراقي، أكثر مما تلوثت بدماء جنود الاحتلال.

وكثير من الكتاب الفلسطينيين في كل مناسبة، يتلاومون على العرب وعلى الرأي العام العالمي لعدم وقوفهم وقوفاً واقعياً وايجابياً إلى جانب الشعب الفلسطيني في محنه الكثيرة والكبرى. وهذا من حق الفلسطينيين على العالم وعلى العرب عموماً. وهذا أيضاً من واجب العالم والعرب الوقوف إلى جانب الشعب المظلوم المحتل والمسلوب الأرض والوطن بالقوة العسكرية. ولكن على الفلسطينيين لكي ينالوا تأييد العالم ونجدة العرب - على ضعفها وقلتها وصغر شأنها - أن يظهروا للعالم وللعرب أيضاً بأنهم شعب أعزل مسالم ومظلوم، ولا يملك من أمره شيئاً، وأنه المستجير وليس المجير، وله حق مشروع في أرضه ووطنه، ويريد أن يسترد هذا الحق بالتي هي أحسن وبالسلام ولا شيء غير السلام، أمام جبروت القوة العسكرية الإسرائيلية الآن. وأنه لا يقبل أبداً بالحكام الفاسدين الناهبين للمال العام، وبأنه ضد استرجاع الحق الوطني بقوة السلاح، حيث لا لغة للسلاح في الحالة الفلسطينية. فلغة السلاح، كان يمكن لها أن تكون مفيدة، وتأتي بنتائج جيدة لصالح الفلسطينيين في عام 1947 ، والأعوام القليلة التي تلت ذلك، أيام أن كانت القوة العسكرية الإسرائيلية ضعيفة ومحدودة. وأيام لم تكن أمريكا في الصورة الفلسطينية- الإسرائيلية بهذا الوضوح، وبهذه القوة، التي ظهرت فيها في حرب 1967، وحرب 1973، وما تلا ذلك من صراعات واحتدامات متفرقة بين اسرائيل والفلسطينيين.

ولعل الانتفاضة السلمية الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة) 1987 خير دليل على ما نقول. فقد تعاطف العالم كله مع القضية الفلسطينية، ونالت القضية الفلسطينية من الأسهم الايجابية لدى الرأي العام العالمي أضعاف ما نالته طيلة سنوات النكبة الممتدة من 1948 حتى ذلك التاريخ. ولكن الفلسطينيين عادوا وخسروا هذا الرصيد العالمي بانتفاضة الأقصى الدموية المسلحة، التي كانت تقوم بها الفصائل الدينية الفلسطينية المسلحة، وتدعمها الفتاوى الدينية الدموية المتلاحقة من هنا وهناك تحت مظلة الجهاد، كما كانت تدعمها بعض الفضائيات العربية لكسب عيون أكبر عدد من المشاهدين، دون أن يخرج صوت عربي إعلامي عقلاني واحد يقول للفلسطينيين، إن ما تفعلوه وتقوموا به خطأ جسيم، سوف تأكلون حصرمه المرَّ والمرير غداً، وهكذا كان. وهذا ما هو قائم الآن في غزة وفي الضفة الغربية. كذلك فقد خسر الفلسطينيون الجهد السياسي العربي الضئيل والمحدود والمتواضع، الذي كان يمكن أن يعطيه العرب للفلسطينيين.

-7-
نحن ندرك تماماً، بأن حال الفلسطينيين التعيس الآن، لا يسمح بالنقد، بقدر ما يسمح بالعزاء والمواساة وجبر الخواطر.
ولكن متى كان حال الفلسطينيين منذ عام 1947 إلى الآن يسمح بالنقد؟
لقد كان الفلسطينيون طيلة نصف قرن ويزيد كالبقرة المقدسة، لا أحد يقدر على نقدهم أو تخطيئهم أو مغالطتهم. فقد كانوا كشعب وزعماء وقادة ميليشات فوق النقد وفوق كل الموازين والأصوات، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، كما كانوا يقولون. وقد كبرت كرة الثلج الفلسطينية طيلة أكثر من نصف قرن مضى، وهي تتدحرج كل يوم، ويزداد حجمها، بحيث أصبحت الأذرع الفلسطينية والعربية معها غير قادرة على ضمها أو الامساك بها. نعم، لقد افلتت القضية الفلسطينية من أيدي الفلسطينيين والعرب وأصبحت بيد العالم الغربي. ولو كان أنور السادات حياً حتى الآن، لقال للفلسطينيين إن 99 % من أوراق اللعبة الفلسطينية ليست بيد الفلسطينيين ولا العرب. فهو الزعيم العربي الوحيد الذي كان قادراً على المصارحة والمجاهرة بما هو واقع وليس بما خيال، وبما هو ضروري وليس بما هو مطلوب.

فهل آن الأوان الآن لمصارحة الفلسطينيين شعباً وقيادة، أم أن الوقت الآن ما زال وقت العزاء والمواساة وجبر الخواطر، كما كان عليه منذ نصف قرن ويزيد؟